الرسَــالة 1 – ادويك
ادويك (1)
إن حديثك الأخير قبيل سفرك طرق مسمع عفيفة، إذ كانت على مقربة منّا تُنصت كالأرنب.
بعد قليل كان وداعنا الهادئ، ولما أصبحتِ في السيارة، خرجت إلى أمام سور المنزل ورأيتك تطلّين من السيارة المندفعة وتُلقين على المنزل آخر نظرة، فلوَّحتُ بيدي ولكنكِ لم تري، لأني كنت في الظل.
ذهبت بعد ذلك أقضي أشغالي، وعند الأصيل توجَّهت إلى مطل الدير، ثم انحدرت في السفح الظليل إلى دينة الجرَّة، فمكثتُ دقائق قليلة، ثم عدت أدراجي.
في المساء سألت عفيفة حاجة فأعطتنيها بجفاء وقلة عناية، وفي صباح اليومالتالي قابلتني بنفور، في هذا اليوم نزلت إلى بيروت ولما عدت في اليوم التالي كانت عفيفة قد عادت إلى حالها المعهود.
عدت ففارقت الشوير في صباح الاربعاء، 28 سبتمبر، على أمل العودة مساء. ولما هممت بركوب السيارة التفتُّ فإذا الوالدة واقفة وحدها.
في رواق المنزل، فتنازعتني عوامل التقرب وخشية العارض، فوددت أن أنزل فأخاطبها وخشيت أن أصطدم “بدادي”(2) فيتعكَّر الموقف ووقتي قصير. فاكتفيت بالتلويح للماما فقابلتني بالمثل. وغادرت الشوير ولا أزال في بيروت إلى اليوم.
كان هذا الأسبوع جهود وعراك ومناورات تتطلَّب كل قوة وكل فكر وكل عمل. فكان علينا أن نستعد للمعركة الانتخابية في محافظة اللاذقية ونرتب قواتنا ونوثق جبهتنا هناك. خصوصاً وأن الحكومة الشامية لم تفعل شيئاً لمقابلة مقاصدنا الحسنة نحوها بمثلها. وأدركت الحكومة في اللحظة الأخيرة خطورة الموقف فقدم اللاذقية رئيس الوزارة(3) بنفسه وحاول التوفيق بين وجهات النظر المختلفة لمصلحة الحكومة والكتلة الوطنية، لكن رجالنا الساهرين تمكنوا من إحباط مساعيه وإبقاء جبهة الحزب سليمة، والانتخاب هناك يجري اليوم على الدرجة الأولى، وبعد الفراغ من هذا الكتاب، سأنزل إلى المكتب وأنتظر أخبار اللاذقية من رئيس مجلس العمد ووكيل عميد المالية.
وكان علينا أيضاً أن نواجه موقفاً حرجاً في لبنان، فان اقتراب موعد الانتخابات اللبنانية ونشاط حركة المرشحين واتصال عدد كبير منهم بنا، جعل الحكومة تقلق، وأخذ المفاوضون من قِبلها يلحُّون علينا لتعيين موقفنا والمجاهرة بأننا في صفوف الحكومة مهدِّدين بالعودة إلى ملاحقة الحزب إذا نحن لم نعلن، قبل نهاية هذا الأسبوع، تأييدنا للحكومة.
ولما كانت الحكومة لما تفعل شيئاً يقيم الدليل الحسّي على أن نياتها متَّجهة نحو تسهيل عملنا ونصرتنا، فقد رفضت إعلان تأييدها إلا إذا أجابتني إلى شروط تقنع الحزب بأن موقفه معها يكون سليماً. وقد كان التوتُّر في العلاقات شديداً إلى درجة خطرة، ولكنَّ رباطة جأشي جعلت الحكومة تعيد النظر في موقفها، وكانت أمس مقابلة أعلن فيها مفاوض الحكومة أن رئيس الوزارة أعلن استعداده لإجابة بعض مطاليبنا. ومنها ما يؤمن عدم تعرُّضنا للملاحقة من جديد. ويعلن شمول العفو إحدى الدعاوى والبت في بعض الدعاوى الجزئية المعلقة لمصلحة الحزب، وإني أنتظر دعوة رئيس الجمهورية(4) لتقرير كل هذه الشؤون، وحينئذٍ يصير ممكناً أن أعلن تأييدي لقائمة الحكومة والاحتفاظ بحق مقاومة كل مشروع من مشاريع الحكومة نعتقد أنه ليس في مصلحة الوطن، فيظل موقف الحزب صريحاً شريفاً على الرغم من الضغط الشديد عليه.
أبشِّركِ بأننا نجحنا بالحصول على تصديق الرخصة لجريدة “النهضة” وهو اسم الجريدة التي ستكون لسان حالنا، وإذا لم يعترض سير تجهيزها مانع قاهر فستصدر في مجرى الأسبوع القادم. وسأكتب فيها مقالين كل يوم، مقال السياسة الخارجية والمقال الأول تحت عنوان “رأي النهضة”، وأقدر نجاحاً كبيراً على يد “النهضة”، وسأرسل لكِ أعدادها.
حالما تنتهي الأزمة الحالية ويتقرّر الموقف بعد مقابلة رئيس الجمهورية، سأقضي بضعة أيام في الشوير ترويحاً للنفس وتجديداً لبعض القوة المستهلكة.
إن ذكريات الشوير لا تفارقني، لأنها أجزاء من نفسي وفي نبضات قلبي. فإذا لم يكن في وسعي أن ألجأ إلى نفسي وأطمئن إليها، فلا يسعني إلاّ الالتجاء إلى هذه الأجزاء، ففيها العوض الوحيد وفي هذه السطور بعض التفريج. وفي الجهاد بعض العزاء.
عسى أن تكون صحتك جيدة، وعسى أن تكون الأمور كما ترتاحين إليها، وأرجو أن تكوني وهلن وأمين رفقة تُذهب السأم وتبقي السرور، أحب أن أعرف أخبارك متى سنحت لك الفرصة.
لهلن سلام خاص
ولــكِ
(التوقيع)
في 2 أكتوبر 1937
(1) كان يسميني ادويك، لا إدفيك، كما أكتبه أنا.
(2) “دادي” زوج أمي العراقي عبد الرزاق إبراهيم.
(3) خير الدين الاحدب.
(4) اميل ادِّه.