الرسَــالة 18 – ادويك


أيتها الحبيبة ادويك،
لا أدري في أي تاريخ كان كتابي الأخير إليك، ولكني أعلم أنه قد مضى زمن طويل عليه. وفي غضون هذا الزمن تسلّمت تحارير منك ورسوماً وهدية للعيد وقعت من نفسي موقعاً كبيراً. ولقد هممتُ أكثر من مرة بالكتابة ولكني كنت أعود فأؤجِّل، لأن هذا الكتاب ليس كالكتب السابقة، إذ انه سيتضمَّن كلمتي في المستقبل.
في كتبي الاخيرة كنت أحاول منع الأحداث النفسية التي كانت قد ابتدأت تساورني. وفي كتابي الأخير قلت إني صاعد إلى بيت مري لأتأمل في مصيري الخاص وأقرّر ما أعوّل عليه. وقد صرفت بعض الوقت آنئذٍ في بيت مري، ثم دعتني المطاليب السياسية إلى بيروت قبل أن أكون فصلت في الأمر، فجرى بي تيار السياسة شوطاً بعيداً، وأنا أشتغل وأقوم بما يطلب مني بدون مساعد، فلا ناموس يصنِّف لي أوراقي أو يكتب بعض الرسائل وينسخها، والأشغال كثيرة ملحّة، حتى لقد أصابني ما تخوّفت منه وأخيراً انتهى بي التعب الأسبوع الماضي إلى دورَين من الحمى بلغا نحو الأربعين، فصعدت على الأثر إلى بيت مري حيث أنا الآن أحاول الترويح عن النفس والتفرُّغ لبعض الأعمال الكتابية، خصوصاً وقد باشرت طبع كتابي “نشوء الأمم” الذي أتوقّع أن يُنجز طبعه في أوائل الشهر القادم.
وبعد أن فرغت من الشؤون الملحّة وتنفست الصعداء رأيت أن أكتب إليك، إذ ليس من المستحسن إطالة السكوت. لم أكن مرة خائفاً أو متردِّداً وليست المسألة مسألة تخوُّف أو تردُّد، بل مسألة مصير قضية ومسألة أحداث نفسية وتصادم عقليات وأحوال ومطالب، وعنعنات بيئة وعدم استقرار أمر أو استتباب شأن.
الحقيقة هي، كما قلت لكِ مرة، أنها المرة الأولى التي فكرت فيها بالزواج، ولم يكن لي من قبل متسع من الوقت أفكر فيه في مثل هذا الأمر، فلم أكن أدري ما هي مطاليب الزواج، ولم تكن لي فكرة سوى عن الحب، وما أشد الفرق بين الحب والزواج!
وقد اعتقدت اني سائر على طريق الزواج المكمل الحب بسرعة شديدة حتى جاءَني كتابك في 10 ديسمبر الماضي وفيه إشارة إلى الفتور العظيم في “العلاقات الداخلية” من حيث موقف ميشال والماما. وسبقه كتابك في 29 نوفمبر الماضي الحاوي تهديد ميشال بإنكارك إذا خالفتِ مشيئته ومشيئة الماما، التي كانت وظلَّت تعتقد بأنك لن تكوني سعيدة معي. وفي هذا الكتاب إشارة إلى أن ميشال كان يعدّ كلامي معه في الشوير “مناورات”، وهو شيء شديد جداً عليَّ، إذ لم أتعود سماع مثل هذا الكلام من أحد من قبل. كان ذلك صدمة قوية لي لم تترك لي أشغالي الكثيرة مجالاً للشعور بها في الحال، ولكنها كانت تعود في كل استعراض وعند كل فكرة فيشقّ الأمر كثيراً عليَّ وتتجاذبني الأحداث النفسية، التي حاولت كثيراً كبتها والتغلب عليها، فلم أفلح كثيراً.
ثم كان اني أخذت أفكر بجدّ في مصيري وفي حالتي وإمكانياتي والمستقبل، ورويداً رويداً أخذت تنجلي لي نواح ٍ من الحياة الواقعية والعملية لم أكن أتنبّه لها في الماضي سوى من قبيل التأمُّل في القضايا الاجتماعية التي لا علاقة لي بها. وقد رأيت بعد إنعام النظر في هذه الفترة الأخيرة أنه لا يجوز لي التفكير في تنفيذ ما كنت قد عوّلت عليه من أمر الزواج. وليس هذا القرار الأخير مبنيّاً على موقف ميشال والماما، بل على تفكيري الجدّي المستقل في ظروفي وظروفك، وفي الخطة التي رسمتها لحياتي.
كل العواطف وكل الإحساسات التي بادلتك إياها تبقى حقيقة، ولكننا عندما نفكر بالزواج يجب أن نعلم أننا لا نواجه مسألة شخصية بحت، بل معضلة إجتماعية، تشمل مجرى طويلاً تترتب عليه نتائج خطيرة، كما في حالتي أنا. وان تفكيري بك أنتِ وبما أتمناه لكِ يجعلني أجزم في هذا القرار. فإذا كنت الآن أختبر مثل هذه الأمور كالانقطاع عن الكتابة والإنصراف بكليّتي إلى الوجهة القومية فماذا يكون غداً؟ مهامٌ على مهام وتصادم بين مجريين! إني أرى المسألة الآن بجلاء أكثر، وأرى أنه لن يكون باستطاعتي العودة إلى هذه المسألة بالنسبة إلى ما ذكرت، وإلى الأحداث النفسية الغريبة، التي لا يستطيع المرء استدراك أمرها بالمنطق.
وبعد، فأودّ أن نبقى صديقين، بل إني أبقى صديقاً محباً لك تحت كل الظروف، ولا ننسى سورية. إقبلي من هذا البعد قبلة صادقة سلامي للجميع.
ولتحي سورية

(التوقيع)
في 14 أبريل 1938

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى