الرسَــالة 9 – ادويك
حبيبي !
على أثر ورود رسالتك الأخيرة المؤرخة في 29 الماضي أرسلت كتاباً إليك وكنت مستعجلاً ليصل البريد الجويّ في وقت مناسب. ولم يردني جواب على ذلك الكتاب.
إن رسالتك المشار إليها جاءت بعد كتابك السابق البارقة في سطوره آمال الموافقة على السفر صدمة قوية. والحق أن موقف ميشال نحوكِ كان قاسياً جداً. أما موقفه نحوي فأقلّ ما يقال فيه أنه خالٍ من كل رصانة. فقوله إن حديثي الطويل معه كان “مناورات لإيهامه أننا نستمزج رأيه” قول يمسُّ الكرامة ويجرح. وإني أتصور جيداً كم كان قاسياً لك هذا الكلام الفج.
وبعد، فما هو وجه الغرابة أن نكون على تفاهم واتفاق تام قبل مكاشفة أحد بما في قلوبنا. وإذا كنا قد تفاهمنا واتفقنا قبل اطلاع أحد، أفيكون كشف الأمر بعد التفاهم ” مناورات للإيهام”؟! وهل ينكر ميشال اني صرَّحت له بأننا نفسياً متفاهمان ومتفقان واني، على أساس هذا التفاهم، أطلب رأيه؟ وكيف يريد أن أحرّر له أولاً وأنا عند جوابه الأخير الذي فاه به قرب البيت وهو : أنه لا يمانع مطلقاً إذا كانت هذه مشيئة أخته. وغريب منه أن يتطلب أن أتفق معه قبل أن نتفاهم نحن الإثنين. وما الفائدة من الإتفاق معه قبل تفاهمنا التام؟ وبعد جوابه لي في عين القسيس ألا يكون من البديهي أن نسعى نحن الأثنين لتسوية كل ما يتعلق بنا وبحياتنا المقبلة؟
أما قوله أنه لا يرى ضرورة ماسّة للسفر الآن فقول رجل غير مسؤول وغير شاعر بالمسؤولية. وعلى إفتراض أن السبب الأهم هو الحب فما هو المانع؟ أليس شريفاً ونبيلاً أن يسافر الإنسان في سبيل الحب وأن يفعل كل شيء في سبيل الحب إلاّ إهمال الواجب القومي الأول؟ ولولا الحب لما كان لأي تفاهم قيمة. فالحب هو الرابطة الأساسية لا الزواج. والزواج يكمل الحب ولا يكمل الحب الزواج.
إن ميشال يتكلم بلغة أمست بعيدة جداً عن نفسية النهضة القومية وعقليتها. فعندما يقول رجل أو سيدة: نعم أو لا، يكون الكلام صريحاً بعد تفكير ويكون قد قضى الأمر.
يقول ميشال إنه يهمُّه جداً أن تكون أخته سعيدة. وله كل الحق أن يهمه هذا الأمر. ولكن من أجل أي أمر يهمه ذلك. أليس من أجل أنه يحبها؟ وإذا كان لا يحبّها فهل يعود يهمُّه الأمر؟ وإذا كان الحب هو الشيء الأساسي فهل يجوز النظر إلى زواج حب كالنظر إلى زواج مناسبة مادية؟ وماهي شروط السعادة التي يريد ميشال أن يتحقق منها؟ وهل يجوز أن تُجعَل السعادة أساساً ومطلباً أعلى للحب والزواج. وهل يريد ميشال أن نبتدئ أنا وأنتِ بالبحث عن شروط سعادة كلٍ منا قبل أن نحب وقبل أن نفكر بتتميم الحب والزواج، حتى إذا وجد كل منا شروط سعادته جاهزة متوفرة أقدم على الزواج وإلاّ ذهب يبحث عن متطلبات السعادة. وبعد فما هي هذه الكلمة الكبيرة المطاطة: السعادة؟ أصحيح أنه لا يمكن أن تكون السعادة في بعض الدموع وفي بعض الآلام؟ أصحيح أنها موجودة دائماً في بيوت منجّدة وزاد كثير وخدم ومقاعد وثيرة؟
إني حتى الآن لا أزال أتابع مساعيَّ لتحقيق السفر وسيكون مؤلماً جداً لي أن أسافر وحدي، لأن سفري قد يطول إلى سنة وسنتين. وأعتقد أني سألاقي أشياء كثيرة مفرحة أودّ أن تشاركيني بها فتكون سعادتنا في هذا الاشتراك. ولست أريد أن أتخلى عن فكرة السفر معاًَ إلاّ إذا كانت هذه الفكرة غير ممكنة بالمرة لكِ.
لا أريد أن أخاطب ميشال أو الماما في هذا الأمر الآن. إن لهجة ميشال تصدّني من كل كتابة إليه. وإذا كانت الماما ترى رأيه وتمانع فما هي الطريقة؟ لا أريد أن أشجعك على “التمرُّد”، ولكن المسألة ليست مسألة تمرُّد. بل مسألة حب وحياة. وفي الحب والحياة لا يجوز أن يرسل المرء الكلام على عواهنه. فالحب ليس لعبة ولا تجارة ولا مساومة على السعادة. والحب يجوز أن يفعل الإنسان في سبيله كل مستطاع من أجله هو في ذاته، لا من أجل أنه وسيلة إلى السعادة، وإلا فلماذا يذهب الأحباء مع أحبائهم إلى المنفى ويشاطرونهم كل ألمٍ وكل مرارة؟ أما مشاطرة الزوج للزوج لمجرد أنه زوج له، فسببه يكون من تقاليد الاجتماع لا من دافع نفسي، ويكون أحط ّ من مشاطرة الحبيب للحبيب التي تحمل من النبل وصدق العاطفة ما يمهّد كل صعب ويجعل القصد الحسن يتغلب على كل قصد. وهو ما لمسته في كتابك قبل الأخير الذي تعلنين فيه عزمك على سلوك هذا المسلك الوعر، فإن في هذا القول عزيمة صادقة ونبالة قصد تدلان على حب حقيقي. وهو هذا الحب الذي يكون من باب الشرف أن يقدمه الإنسان على كل اعتبار آخر. وهو هذا الحب الذي لو لم يكن هنالك شيء سواه، لكان مبّرراً شريفاً كافياً لركوب الأسفار والإقدام على الاغتراب، فكيف وهو مقرون بمقاصد أخرى لا تقلُّ عنه نبلاً وهو وهي قد أصبحت شيئاً واحداً هو هذا الكيان النفسي ذي الشقّين الذي تمازجت فيه العواطف والأفكار والحساسات والمثل العليا، وأصبحت هيكلاً مقدُّساً مترابط الأجزاء.
لا أدري إذا كان قد طرأ على الموقف أي تبدّل بعد كتابك الأخير. ولكني أود أن يكون قد حدث تغيير نحو الأحسن. إني تألمت كثيراً لكِ ولي وفكرت مليّاً ولم أجد مبرِّراً واحداً يبرِّر المجازفة بحبنا في فراق طويل لا تجد فيه الروح قوة ولا يجد فيه الجسم انتعاشاً. ولكنني، كما قلت في كتابي السابق، لن أعجز عن تحمّل صعوبات كثيرة في سبيل وقايتك مما قد يكون وقوعه حملاً صعباً عليك. لأنك، ولا شك تتألمين. ولست أريد زيادة آلامك، بل تخفيفها. فأنا قد أحببتك ليس من أجل سعادتي وهنائي، بل لأني أحببتك. ولم أطلبك لأنك تحسنين خدمتي وتعرفين تتميم الواجبات البيتية بشكل يريحني فأجد أغراضي مرتبة وكل ما أحتاج إليه في محلِّه. ولم يجذبني إليك أموال سأتنعّم بها. وليس من طبعي ومزاجي أن أنظر إلى شيء من ذلك. ومتة وجد الإنسان الحب فقد وجد أساس الحياة والقوة التي ينتصر بها على كل عدّو ويذلِّل بها كل صعب. إني أحببتك وأحبك فلكِ حبي وللجميع سلامي.
في 10 ديسمبر 1937