السياسة الخارجية – الإنقلاب البرازيلي
وافتنا برقيات أمس التي نشرتها النهضة بخبر الانقلاب البرازيلي الذي تم الأربعاء الماضي بإغلاق الحكومة مجلسي النواب والشيوخ. وتقول أنباء هافاس إنّ الاتجاه الجديد المقصود من الانقلاب لا يغيّر تشكيل الاتحاد البرازيلي، ولكنه يغيّر شكل الإدارة ويعطي الأمة البرازيلية دستوراً جديداً يرتب فئات الأمة وفاقاً للأسس النقابية.
منذ مدة طويلة والبرازيل تعاني أزمات مالية واقتصادية متتالية عظيمة وتصاب بتشنجات ثورية جندية وشعبية، وكل هذه أعراض دلت على أنّ الأمة البرازيلية لم تكن على وضع مستقر يوافق حاجاتها الداخلية والخارجية، ولم تكن قد وجدت أسلوب الحياة الموافق لمواردها وحيويتها.
فالبرازيل بلاد واسعة مترامية الأطراف لا تزال مقاطع منها مجاهل وحرجات تعج بالحيوانات المفترسة وغير المفترسة وأنواع الحشرات والهوام، وتضج بقبائل الهنود الحمر وبينها أكلة لحوم البشر. وأرضها خصبة وغنية بالمعادن، وتصلح أماكن كثيرة منها لزراعة وصناعة المطاط والقطن والبن والأزُرّ والثمار الزيتية، كالجوز وما شاكل، وسائر الثمار المختصة بالأقاليم الحارة.
جمعت البرازيل بين غنى الموارد واتساع التجارة من جهة، والاضطرابات السياسية والاجتماعية من جهة أخرى. زد إلى ذلك عجزاً دائماً في الموازنة يُسَدّ بقروض هددت استقلال البقرازيل المالي والاقتصادي. فلم يكن هنالك تجانس بين غنى البلاد الطبقي وفقرها القومي واضطراب أحوالها الداخلية.
وكان يقوم على إدارة البرازيل، قبل الثورة الكبرى التي حدثت في السنة الثلاثين، حزب وحيد عرف باسم “الحزب الجمهوري” الذي قلب نظام الحكم البرازيلي من الملكية إلى الجمهورية ومن المبادىء الأرستوقراطية إلى المبادىء الديموقراطية.
ولكن لم يطل الأمر بهذا الحزب حتى نام على مجده السابق وأخذ رجاله يتناوبون الحكم باتفاقات داخلية في الحزب ويؤمنون النتائج بتشبيه انتخابات نيابية وأخذوا يدينون، شيئاً فشيئاً، بمبدأ شبيه بالمبدأ الذي يدين به الآن حزب “الكتلة الوطنية” في الشام، أي مبدأ الحزب الواحد. فكانت مقدرات البلاد وقفاً على مطامع الجمهوريين الذين كانوا يحاربون كل حزب جديد وكل فكرة تجديدية ويقولون: إذا كان هنالك من خير فنحن فاعلوه.
ساءت حالة البرازيل الإدارية تحت إشراف الحزب الجمهوري وبلغ بها الأمر أن أشرفت على الخراب وتهددت بالمراقبة المالية من قبل الدول الدائنة، كبريطانية والولايات المتحدة، وأصبحت الحالة لا تطاق لشعب آخذ في التنبه.
فرأى الحزب الجمهوري أن يعالج الحال بنوع مزيج من سياسة الاقتصاد القومي والأساليب الاشتراكية فاستولت الحكومة على شركة سكة حديد “سنترال” وغيرها، وحولتها إلى مأوى لحجز الجمهوريين المجرّدين من الكفاءة و “لقبضايات” الانتخابات، فترهلت إدارة هذا الخط الرئيسي من المواصلات وأصبحت حوادث الاصطدام وانقلاب العربات عن الخط من الأمور العادية اليومية. وملأت الحكومة إدارة الدولة بالمحاسيب والأنصار، المؤهلين منهم وغير المؤهلين، حتى استرخت العلاقات بين المركز والولايات حتى أصبح بعضها، كولاية سان باولو الغنية، ينظر إلى الانفصال كدولة قائمة بنفسها. وفي الشؤون الاقتصادية الواسعة جرّبت حكومة الجمهوريين أن تُصيِّر زراعة البن وتجارته تحت إشراف الدولة، فأنشأت ما سمي “معهد البن” وقامت بعملية تجارة البن لحسابها فكان من وراء ذلك نكبة البن الكبيرة التي أفقدت البلاد ملايين الليرات.
تجاه هذا الحال أخذت الحاجة إلى نظام جديد متين يوجد للبلاد البرازيلية مركزية متينة وإدارة دقيقة وتصنيفاً لمصالحها تزداد، فنشأت محاولات أولية كحزب “التحالف البرازيلي” في الجنوب و “الحزب الديمقراطي” في سان باولو، وأدت حركة هذين الحزبين إلى ثورة سنة 1930 التي أوصلت رئيس الجمهورية الحاضر إلى رئاسة الدولة.
بيد أنّ البلاد ظلت في حاجة إلى أسلوب ثابت واتجاه اجتماعي سياسي يؤمّن وحدتها ويرفع معنويتها. وكانت الشيوعية قد امتدت إلى أقسام كثيرة من البرازيل وولدت روحاً لا قومياً صار يهدد مصالح الأمة ومركزها.
فقامت في البلاد حركة جديدة عرفت بـ “الحركة الجامعة” Integralismo واتخذت خطة المركزية وقالت برفع معنوية البرازيل وتقوية مركزها وتنظيمها تنظيماً نقابياً قومياً، وقد لاقت هذه النهضة استحسان الشبيبة وإقبالها وتغلغلت في جميع الأوساط وفي الحكومية منها، وانتهت إلى هذا الانقلاب الذي سيكون فاتحة نهضة برازيلية قوية تفتح كنوز البلاد، وتحوّلها إلى وسائل عملية لترقية الأمة وتعزيز مركزها وتولّد روحاً قومياً يجعل للبرازيل شأناً غير شأنها السابق.
النهضة، بيروت
العدد 28، 14/11/1937