السياسة الخارجية: اليابان لا تتقهقر – رفض اليابان العمل بمشورة جامعة الأمم
يعلم قرّاء «اليوم» من مقال نشرناه في عدد سابق بعنوان «توسع اليابان في الشرق الأقصى» أنّ لليابان أسباباً جوهرية تحملها على انتهاز جميع الفرص لبسط نفوذها في الشرق الأقصى، وخصوصاً في الصين بعد أن لم يبقَ لها مجال آخر تتوسع فيه وترسل إليه من شعبها القسم الذي لا طاقة للبلاد على القيام بأوده وتسهيل أسباب تقدمه.
وقد انتهزت اليابان فرصة انشغال العالم بالأزمة الحاضرة وأجابت على بعض اعتداءات الصينيين بزحف جديد من جيوشها واحتلال نقط جديدة في منشورية.
ولما كانت الولايات المتحدة عدو اليابان اللدود، فقد قامت قيامتها وطالبت جامعة الأمم والدول الموقعة على ميثاق كيلوغ بالتداخل في أمر الخلاف الناشب بين الصين واليابان، ووضع حد لتقدم الجنود اليابانية في منشورية.
كانت النتيجة أنّ جامعة الأمم قررت التوسط، في الخلاف المذكور، عند اللزوم، وأرسلت في بادىء الأمر مذكرتين الواحدة إلى اليابان والأخرى إلى الصين، طلبت فيهما أن تضع الدولتان حداً للحرب وأن تبادرا إلى إنهاء الخلاف وإعادة الحالة إلى ما كانت عليه.
فأجابت اليابان بأن الخلاف بينها وبين الصين يجب أن يسوى مباشرة، لا بواسطة جامعة الأمم ولا بواسطة الدول الموقعة ميثاق كيلوغ، لأن المسألة ليست مسألة إعلان حرب واعتداء دولة على دولة، بل مسألة إجراءات اتخذت لتأمين المصالح اليابانية في منشورية، ووضع حد لإعتداءات بعض الجنود الصينيين غير النظاميين على الرعايا اليابانيين المقيمين في كوريا وما جاورها.
ولكن الصين واليابان لم تتمكنا من الوصول إلى اتفاق في الخلاف الناشب بينهما، وكان أنّ الجنود اليابانية تابعت تقدمها تعضدها الطيارات فتفاقم الخطر وخشي أن تؤدي الحال إلى إعلان الحرب بين الصين واليابان، الأمر الذي دعا الولايات المتحدة إلى تشديد النكير، لأنه إذا وقعت الحرب فالنتيجة لا بدّ أن تسفر عن فوز اليابان وازدياد نفوذها وتوسعها في الصين، وفي هذا الأمر خسارة كبيرة تلم بالمصالح الأميركية.
حينئذٍ قررت جامعة الأمم التداخل الجدي في الأمر، وأرسلت دعوة إلى اليابان والصين لعقد مؤتمر يبحث في الخلاف الناشب بين البلدين، ووضع شروط الاتفاق. ولكن اليابان لم تلبِّ الدعوة في الموعد المطلوب، فأجلت الجامعة عقد المؤتمر إلى حين تكون قد وردت التعليمات فيه من طوكيو، وأبطأت التعليمات فأجلت الجامعة المؤتمر مرة أخرى.
ونشب خلاف كبير بين الجامعة واليابان على مسألة إشراك الولايات المتحدة في المؤتمر، فأصرت اليابان أولاً على عدم وجود أسباب تدعو إلى وجود ممثل للولايات المتحدة، وأصرت الولايات المتحدة على وجوب اشتراكها بصفتها موقعة ميثاق كيلوغ القائل بمنع الحروب، واضطرت جامعة الأمم إلى ترجيح النظرية الأميركية، واضطرت اليابان إلى النزول على رغبة الجامعة والقبول بالمؤتمر.
وأخيراً عقد المؤتمر وبعد مناقشات طويلة قدّمت اليابان نظريتها الأخيرة القائلة بأن لها في الخلاف «نقاطاً أساسية» لا يمكنها اطلاع الجامعة عليها، تتعلق ببعض المسائل التي يجب الاتفاق عليها مع الصين لتأمين حياة ومصالح رعاياها.
أوقع جواب اليابان المشار إليه المؤتمر في حيص بيص لأنه يتضمن رفضها الحل الذي عرضه، واضطر المجلس إلى تأجيل اجتماعه إلى السادس عشر من الشهر الجاري ليفسح المجال لدرس القضية بروية وللتبصر في عواقب القرارات التي قد يتخذها.
الحقيقة أنّ الموقف الحالي حرج جداً لأنه إذا شدد المؤتمر الضغط على اليابان فقد لا تحجم هذه عن إعلان انسحابها من جامعة الأمم.
وإذا حدث ذلك كان صدمة قوية لجامعة الأمم وبرهاناً جديداً على أنّ جميع التعهدات مهما كان نوعها، تصبح مجرّد قصاصات أوراق حينما لم تعد متفقة ومصالح الأمم الحيوية.
وليست اليابان الدولة الوحيدة التي ترى تأمين كيانها أهم من تأمين كيان جامعة أمم لا منفعة من وجودها إلا للأقوى الذي يستعملها سلاحاً أدبياً ضد أعدائه.
ودارس شؤون السياسة العامة يحار في تتبع خيوط شبكة الدسائس السياسية التي تحاك في جامعة الأمم وراء ستار من معاهدات الصداقة والوداد ومنع الحرب.
فإذا ظلت الحال على هذا المنوال فسقوط جامعة الأمم أمر لا مفر منه، وقرائن الأحوال تدل على أنّ مصير الجامعة إلى الانهيار، والمنتظر أن يكون انهياراً عظيماً لم يسبق له مثيل. ولا يبعد من الاحتمال أن يكون الخلاف بين اليابان والمؤتمر المنعقد لحل مشاكل الشرق الأقصى الحالي أول بوادر الانحلال في جامعة الأمم.
أنطون سعاده
اليوم، دمشق
العدد 74/22، 6/11/1931