راي النهضة – قضية الأحزاب الببغائية في المجلس 10

الموقف العصيب


أرهف أذنيك جيداً أيها الوطني العزيز!
إفتح حدقة عينك وحدق بصرك!
لا تلتفت ذات اليمين وذات اليسار لئلا تمرّ العظمة في السحاب وأنت غافل فلا تراها!
لا تنبس ببنت شفة! فالحكمة نفسها تخرس لجلال الموقف!
ومتى وجدت المدارك البشرية تتدهور أمام عينيك في الهاوية التي لا قرار لها، فخرّ على ركبتيك واسجد، فليس مولوخ ولا داجون شيئاً مذكوراً بالنسبة لما ترى وتسمع!
إصغ جيداً وحدق بصرك فها الملاك السابع قد نفخ في البوق، وإذا صوت يقول: إذهب إلى رئيس… وقل له: قد نظرت في عملك وإيمانك ووجدت أنك فاتر، لا حار ولا بارد، ويا ليتك كنت حاراً أو بارداً! وبما أنك لست حاراً ولا بارداً، ولأنك فاتر أبصقك من فمي!
في هذه الدقيقة يحدث سكون رهيب لأن أمراً عظيماً يحدث.
في هذه الدقيقة ينهض “رئيس الكتلة الدستورية” “زعيم الكتلة الدستورية” “زعيم المعارضة” ناقض فينيقيّة لبنان ومثبّت عروبته، القائل باستقلال لبنان عن الوحدة السورية القومية وعن كل الصلات القومية مع الداخل وبالاستعداد لعقد كل الاتفاقات غير القابلة التحقيق مع “الأقطار العربية الشقيقة”، الأستاذ بشارة الخوري.
ومتى وقف ذو مقام خطير و “زعامة: نادرة كالأستاذ بشارة الخوري، فكل الأمور البسيطة العادية تصبح أموراً خطيرة نادرة “دقيقة” وتصبح كل الأمور الخطية الدقيقة أموراً عادية بسيطة، فلا تستطيع إلا أن تقف ذاهلاً أمام القوة التي تغيّر كل شيء ولا تتغيّر! وإذا كنت عصبي المزاج فالويل لك، لأنك حينئذٍ تصعق!
الأستاذ بشارة الخوري يتكلم: ؟قلّما عرفت البلاد وعرف هذا المجلس ساعات أدق من هذه الساعات، وقلّ أن شعرنا بمسؤولية أكبر من مسؤوليتنا في هذه الظروف؟.
أجل، قلّما عرفت البلاد ساعات أدق من هذه الساعات! فلا زوال استقلال الشام، ولا مقررات مؤتمر سان ريمو السيّىء الطالع، ولا مفاوضات مؤتمر الصلح، ولا وعد بلفور ولا الاتفاق الفرنسي ـ التركي، ولا ذهاب لواء الإسكندرونة، ولا الخطر الذي يهدد لواء الجزيرة، ولا امتداد الأصابع اليهودية إلى لبنان، ولا اتفاقية بنك سورية ولبنان الكبير، ولا التشنجات الاجتماعية والاقتصادية، ولا علاقة النقد، ولا التفاف افاعي الشركات الأجنبية، ولا الخطر التركي المداهم من الشمال، ولا حركات الدول في البحر السوري، ولا التسلح العام، ولا شيء من كل ذلك ومن مثل ذلك يوازي في الدقة حل تجمهرات شباب أوعز لهم بالتجمهر في شكل مؤسسات، لهدف أو لغير هدف، أو مظاهرات دفع ذوو المآرب الشباب على القيام بها من غير مطلب صريح أو خطاب مطران في كنيسة أو مدرسة، أو مشاغبات المستائين من “كيفية اقتسام الغنائم”.
ما هي مقررات الدول في صدد اقتسام تركة “الرجل المريض” بالنسبة لخطورة “الحوادث” التي يتقدم المجلس لمحاكمة الحكومة عليها؟
ما هي قيمة معاهدات سيفر ولوزان وصك الانتداب ومؤتمر ستريزا ومعاهدتي لبنان والشام بالنسبة إلى قيمة تهديد “الاستقلال التام المطلق” بتأليف “جمعية الرفق بالإنسان؟”
ما هي قيمة الاستعدادات التركية الحربية على الحدود الشمالية بالنسبة “لقنابل المطران”، ووقوع مصادمات بين رجال الشرطة والدرك والمتظاهرين من أجل الإصرار على مظاهرات ممنوعة؟
ما هي خطورة تدنّي الفرنك وإفلاس البلاد السياسي والاجتماعي والاقتصادي بالنسبة إلى إمكانية سقوط الوزارة أو عدم سقووطها؟
أجل، قلّما وجدت الأمة مصيرها معلقاً بين الحياة والموت كما وجدته بعد حلّ الأحزاب التي جعلت لها الحكومة شأناً ما كان يكون لها لولا تدخّلها، وبعد خطاب مطران غضبان، وبعد مظاهرات سخيفة لم تبنَ على أساس ولم يكن لها قصد مبرر!
أما المجلس فقلّما عرف هو أيضاً ساعات أدق من هذه الساعات التي يتكلم عنها السيد بشارة الخوري. فمنذ حادث مجلس إدارة لبنان التاريخي حتى اليوم، لم يقم في لبنان مجلس واحد عرف معنى العقود أو السنين فضلاً عن الأيام والساعات!
وأما النواب ففي كل ما مرّ بالبلاد من الأحداث الخطيرة المتعلقة بمصيرها القومي لم يشعروا قط بمسؤولية تضاهي مسؤوليتهم “في هذه الظروف”.
وبعد جلاء هذه الحقيقة، التي كانت غامضة عليّ وعليك، أيها المطالع العزيز، يوضح لنا الأستاذ بشارة الخوري ما هو أعظم خطورة منها حين يقول “إنّ الندوة البرلمانية هي، بدون ريب، أصلح من منابر المدارس ومسارحها لتصفية هذه الحوادث، حتى ولا منابر ومسارح مدرسة الحكمة تصلح لتقوم مقام الندوة البرلمانية!”
إياك! إياك! أن تفوتك هذه الحقيقة الباهرة: إنّ المجلس النيابي أصلح من منابر مدرسة الحكمة لتقرير سياسة الدولة ولمحاكمة أعضاء الحكومة!
أرأيت، يا عزيزي المطالع، في كتب حكمة الهند والصين، أو في مكاتب الأزتك والقولان والبكييري ما يضاهي ما في تصريح رئيس “الكتلة الدستورية” من الرأي الصائب والفكر الثاقب والبيان الساحر؟
هل رأيت أنك لم تكن تفهم شيئاً عما هو المجلس النيابي حتى جاءك بيان”زعيم المعارضة” فأصبحت تعلم وتفهم أنّ المجلس النيابي أفضل من مدرسة الحكمة وأنّ الجهالة خير من العلم؟
أعرفت في زمانك ما هو نكد الدنيا؟
وسواء أعرفته من قبل، أم لم تعرفه، فقلّما رأى إنسان نكد الدنيا ممثلاً بأبدع وأروع مما يمثله السيد بشارة الخوري، خصوصاً حين ينتقل إلى إيضاح الحوادث الخطيرة التي وضعت البلاد والمجلس في ساعات لم يمر بهما أدق منها قط فيقول “شط المزار في الخطب وتوسعت الحلقة. وأريد أن أحصرها في أمور وقعت منذ الأحد إلى اليوم. فقد سبق حوادث الأحد حل المنظمات”.
اعرفت البلاد والمجلس شيئاً أشد خطورة من “حوادث الأحد” التي سبقها “حل المنظمات؟”
ومع ذلك، ومع كل ما لهذه “الحوادث” من خطورة فهي لم تكن جديرة ببحث “الكتلة الدستورية” واتخاذ قرار بشأنها. وإليك بيان الأسباب الموجبة: “ولما كان الموقف صعباً يتعلق بالوجدان فإن “الكتلة الدستورية” لم تتخذ أي قرار حازم وتركت الحرية المطلقة لنوابها يقترعون كما يريدون!”
ثم ينتقل رئيس “الكتلة الدستورية” إلى تبرير الحكومة والمجلس فيعد بعض العوامل التي عملت على تضخيم حوادث الأحد. ولا يقتصر على ذلك بل يبرر دار الانتداب أيضاً كأنه لسان حال تلك الدار فيقول: “فغلاء الطحين وسقوط العملة والأزمة العالمية ليست ناتجة عن الحكومة أو المجلس أو دار الانتداب فهي نتيجة تطورات عالمية قهارة”.
ثم يتقدم إلى استعطاف الأمة على هذا المجلس فيقول لها إنه “من لحمها ودمها وليس دخيلاً عليها ولا مسبباً لعللها. فلتثق به وتترك له الوقت لمداواتها”.
أجل، أيتها الأمة السيئة الطالع، التي كانت نكبتها بسياسييها الكلاسيكيين أعظم من نكبتها بكل السياسات الأجنبية. ثقي بهذا المجلس وثقي بهؤلاء السياسيين الذين لا يعرفون ساعات مرت بالبلاد أدق من هذه الساعات.
“إنّ الموقف عصيب”، هكذا يقول “زعيم المعارضة”.
ونحن نوافق وونقول: إنّ الموقف عصيب فهو موقف يدعو إلى البكاء دماً.
إنه لموقف عصيب هذا الموقف الذي تواجه فيه الأمة التاريخ بمثل هؤلاء السياسيين المفلقين والأبطال الصناديد يجعلون منا سخرية الأبطال وأضحوكة السياسيين.
هذا هو الموقف العصيب الذي يرتقي فيه السخف إلى مراتب الرصانة ويصعد فيه الهزء درجات الرأي فيشط المزار وتتوسع الحلقات وتتلبس الغايات وتصبح الأمور التافهة أموراً خطيرة وتمسي الأمور الخطيرة أموراً تافهة.
فما أدق هذا الموقف العصيب!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى