السياسة الخارجية: توسع اليابان في الشرق الأقصى
اليابان هي الدولة الشرقية الوحيدة التي ارتقت إلى مصاف الدول العظمى في العالم وتمكنت من مجاراة الدول الأوروبية في الخطط السياسية والأساليب الحربية. ونجاح اليابان من هذه الجهة يقيم الدليل على أنّ الخطر الأصفر الذي تكلم عنه الأوروبيون كثيراً ليس مجرّد خطر وهمي.
تناول ارتقاء اليابان جميع شؤونها العمرانية، فتقدمت الصناعة والزراعة تقدماً محسوساً جعلت البلاد تسير بخطوات واسعة إلى مباراة البلدان الأخرى في أسواق العالم التجارية ومسابقتها في الاستعمار، الذي يدفعها إليه نمو شعبها وتزايد مصالحها.
نما الشعب الياباني، في العقود الأخيرة، نمواً جعل بلاده تضيق به ومواردها الطبيعية لا تكفي لسد حاجات تقدمه وارتقائه. وبلغ به الأمر في المدة الأخيرة حداً جعل حكومته تعقد اتفاقية مع حكومة البرازيل تتناول تنظيم مهاجرة يابانية إلى هذه البلاد على قياس كبير.
ولما رأت اليابان نموها السريع، وأدركت حقيقة قوّتها وأهمية مركزها، انتبهت إلى حاجتها إلى التوسع وأخذت تعمل على الوصول إليها من أخصر الطرق، وكانت الصين لذلك العهد، كما لا يزال قسم كبير منها الآن، جسماً مشلولاً خاملاً جامداً تتلاعب به الدول الأوروبية تلاعب الصبيان بالأكر، فرأت اليابان أنّ الفرصة سانحة لها للحصول على بغيتها من التوسع وكانت منشورية و«الشانغ طن» الهدف الأول الذي رمت إليه، فانتصرت على روسية في الحرب التي نشبت بين الدولتين في أوائل هذا القرن، وتقدمت في الأراضي الصينية تقدماً عظيم الشأن. وكان من وراء ذلك كله إنشاء المستعمرات اليابانية في الصين واستيلاء اليابانيين على قسم كبير من الأسواق التجارية الصينية، وأصبحت اليابان الدولة ذات المصلحة الأولى في شؤون الشرق الأقصى. وزاد في أهمية مركزها فيه استيلاؤها على معظم جزائر المحيط الهادىء، خصوصاً الجزائر الصغيرة القريبة من الشواطىء الصينية.
في نفس الوقت كانت الولايات المتحدة الأميركية وجّهت أنظارها شطر بلاد الصين، ورأت أن يكون لها نصيب كبير في أسواق الصين التجارية، فأنشأت مع هذه البلاد علاقات تجارية ذات شأن. وبعد الحرب التي نشبت بينها وبين إسبانية واستيلائها على جزائر الفيليبين أصبح لها مركز منيع في المحيط الهادىء يزاحم مركز اليابان فيه.
منذ ذلك الوقت أخذت المنافسة بين اليابان والولايات المتحدة تشتد ويتعاظم أمرها، ووقفت كل واحدة منهما بالمرصاد للأخرى. خصوصاً الولايات المتحدة التي هالها أمر تقدّم اليابان في الصين وخشيت عواقبه على تجارتها ومصالحها في هذه البلاد المترامية الأطراف.
وأخذت اليابان تنظر إلى تعاظم قوة الولايات المتحدة ومدّ أصابعها إلى الأسواق التجارية الصينية بعين الحذر، لأنه إذا استولت تجارة الولايات المتحدة على الأسواق الصينية فإنها تقضي على أهم المصالح التي تعتمد عليها اليابان قضاءً مبرماً، لأن موارد الولايات المتحدة الطبيعية لا تنضب.
جمعت المصلحة بين اليابان وبريطانية التي كانت تنظر إلى ازدياد قوة البحرية الأميركةنية بعين الخشية، وتحسب حساب المستقبل، فعقدت الدولتان معاهدة بحرية زادت في قوة اليابان زيادة محسوسة، حملت الولايات المتحدة على وضع خطة واسعة النطاق لبناء السفن الحربية.
وظلت الحال على هذا المنوال، إلى أن نشبت الحرب الكبرى، فرأت اليابان الفرصة سانحة لزيادة مناعة مركزها في الصين وتأمين توسعها في الشرق الأقصى، فأعلنت الحرب على ألمانية وكان أول عمل قامت به إرسالها حملة حربية قوية استولت على معظم المستعمرات الألمانية، وأقدمت اليابان حينئذٍ على خطة غريبة جريئة سبقت فيها الأمم الأوروبية إلى اختراع الانتداب. فإنها اتفقت مع فريق من كبار موظفي بكين على تنظيم عريضة صينية تطلب وصاية اليابان على بلاد الصين، وكادت هذه الخطة تنجح كل النجاح لولا قيام الولايات المتحدة وإرسالها الاحتجاج تلو الاحتجاج، الأمر الذي حمل اليابان على أن تسترجع اقتراحاتها وتتنازل عن طموحها إلى الوصاية على الصين.
استحكم العداء بعد ذلك بين اليابان والولايات المتحدة عندما أعلنت الولايات المتحدة تحديد المهاجرة، وصادقت على قانون منع الآسيويين الصفر من القدوم إلى بلادها بقصد الإقامة بها، فاستعفى سفير اليابان في واشنطن وحدثت في اليابان مظاهرات احتجاجية ضد الولايات المتحدة. وقد قال أحد كبار الكتّاب اليابانيين إنّ اليابان لن تنسى هذه الصفعة وإنّ الولايات المتحدة ستعطي عنها حساباً مهما طال الأجل.
ازداد تحرّج الحال بمناسبة مؤتمر لندن البحري يوم توصلت بريطانية والولايات المتحدة إلى اتفاق يجعل اليابان في درجة لا تتفق ومراميها، وأدى الأمر بأحد ثقات اليابان البحريين إلى الانتحار لاعتقاده بأن معاهدة لندن تجعل اليابان في خطر لا تستطيع اتقاءه. وا لحقيقة أنّ إنكلترة ضحّت في مؤتمر لندن باتفاقها مع اليابان في سبيل السياسة الأنغلوسكسونية الجديدة.
والظاهر أنّ اليابان المتيقظة لم تترك فرصة انشغال العالم، بما فيه بريطانية والولايات المتحدة، بأمر الأزمة الاقتصادية العامة تذهب سدى. فهي قد اتخذت من بعض الحوادث الحقيقية التي وقعت، من قبل الصينيين، حجة للقيام بإجراءات تزيد في قوة موقعها، الأمر الذي حمل الولايات المتحدة على إثارة الرأي العام في العالم والتشديد في وضع حد للإجراءات الحربية اليابانية وبحث قضية الخلاف بين اليابان والصين في جمعية الأمم. ولكن اليابان أبت أن يقتصر البحث في قضية الشرق الأقصى على المنطقة المنشورية حيث مركزها الرئيسي، وصرّحت بأنها لا تقبل الدخول في بحث من هذا النوع إلا إذا كان شاملاً، أي أن يتناول بعض ما له علاقات بالولايات المتحدة وغيرها أيضاً.
إنّ إنهاء هذه المسألة الجديدة لا يحتاج الآن إلى حرب، لأن ذوي المصالح فيها غير مستعدين للحرب، ولكن قضية الشرق الأقصى ستبقى من أهم القضايا التي تجرّ إلى حرب هائلة في المستقبل.
ومن يعِش يرَ.
أنطون سعاده
اليوم، دمشق
العدد 59/7، 20/10/1931