العروبة أفلست!
لم يخامرني قط شك في أنّ العروبة ـ عروبة “الوطن العربي” الممتد شريطة طويلة ملتفة ومتمعجة على شواطىء غرب آسية وشمال أفريقية، وعروبة “الأمة العربية” الموجودة في جماعات مختلفة الأجناس المتفرقة والبيئات المتباعدة والنفسيات المتباينة، وعروبة “المجتمع العربي” الذي تنقصه كل خصائص المجتمع الصحيح الحي الفاعل وكل عوامل الاتحاد الاجتماعي وعروبة الأربعين أو الخمسين مليون عربي ـ قضية خاسرة في سورية، مضيعة لكل مجهود تقوم به الأمة السورية لحفظ كيانها ووطنها وتحقيق مطالبها في الحياة. وقد جزمت، بعد درس نفسية العروبة المذكورة في سورية ـ نفسية “القومية العربية” ـ في أنها مرض نفسي شووّه العقل السوري والإدراك والمنطق. فلما وضعت تعاليم الحركة القومية الاجتماعية ودعوت الأمة السورية إلى وعي حقيقتها ووحدة حياتها ومصيرها، كان رد الفعل عند مرضى العروبة من نفس نوع رد الفعل عند جميع المرضى النفسيين الميَّالين إلى الوساوس والهياج. فكانت تلك الموجة الأولى من النقمة الرجعية على بعث القومية السورية ـ على وعي الوجود السوري والحقيقة السورية وأهداف الحياة السورية!
لم يكن للأمة السورية مهرب من الخسارة في قضية “الأمة العربية” التي تعني، من وجهة الاجتماع الإنساني، معضلة كمعضلة الحركة الدائمة في مسائل الطبيعة والهندسة. فالعروبة في سورية الطبيعية هي عملية صادر بلا وارد ـ كما يقال بتعبير اقتصادي ـ هي عملية استنزاف قوى عقلية ونشاط روحي وإنفاق مجهود مادي عملي بلا تعويض. هي إضاعة الحقيقة في تيارات نفسية من الأوهام وفي خضم من الأضاليل. هي تضليل من قبل إقطاعيين ومتزعمين لحزبيات دينية لا يفتأون يثيرون نعرات تلك الحزبيات ويستغلون عماوة الغوغاء المستعد دائماً للاندفاع في تيار قوة الاستمرار الرجعي، لأنّ ذلك أسهل عليه من تعوّد شيء جديد وممارسة حياة جديدة.
وقد أنبأت الأمة السورية بأضرار تلك العقلية العروبية الوهمية والاتكالية، وشرحت في كتاباتي واقع العالم العربي الذي هو واقع أمم ومجتمعات متقاربة يسهل تعاونها وتشكيل جبهة تعاونية منها، لا واقع أمة واحدة ومجتمع واحد. وناديت الأمة السورية إلى النهوض بنفسها لتتمكن من الاشتغال في قضايا العالم العربي، ولتكون قوة فاعلة في تكوين الجبهة العربية، وحذّرتها من عاقبة الاستسلام لوهم “الوحدة العربية”، ومبالغات “الأربعين أو الخمسين مليون عربي” المذرورين على شواطىء قارتين. فقامت قيامة العروبيين ومستغلي العروبة على الحزب القومي الاجتماعي، وأخذوا ينادون أنّ هذا الحزب، الذي يريد إنقاذ سورية من تخبطها وفوضاها وجعلها قوة ذات قيمة تعاونية كبيرة في العالم العربي، “عدو للعرب” ذهبت كيليكية فقلت إنّ على سورية أن تقوم هي بقضيتها القومية وتستعيد هذه المنطقة الشمالية الخصبة من الوطن السوري، وقال العروبيون: لا بأس. فإنّ “الوحدة العربية” ستتكفل بإعادة هذه الأرض. ثم ذهبت الإسكندرونة ذات الموقع الحيوي الممتاز فقال العروبيون: لا بأس، “فالوحدة العربية”، متى تمّت، تعيدها. وقال القوميون الاجتماعيون قد خسرت سورية الإسكندرونة كما خسرت كيليكية بسبب إهمالها قوميتها وعدم إقبالها على إقامة النظام القومي الاجتماعي الذي يوحد قواها ويعطيها فاعلية الحياة، فيجب أن تنهض سورية بقوميتها لتستعيد الإسكندرونة. ثم جاءت أزمة فلسطين فكررت إنذاراتي بذهاب هذه البقعة الثمينة من الأرض السورية إلى اليهود وغير اليهود إذا استمر الشعب السوري في خيال العروبة الخيالية وهذيان “الوحدة العربية وجيوش العرب والعروبة” ولكن العقلية “العربية” اللاتعميرية في سورية الطبيعية ظلت مستمرة في قواعدها وأساليبها إلى أن وصلت بالقضية الفلسطينية إلى الكارثة التي أنبأت، في رسالتي إلى الأمة في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، بوصولها إليها.
لم يجتمع العالم العربي أمة واحدة في فلسطين، كما كان يزعم السوريون العروبيون. وقد ظهرت في فلسطين حقيقة الواقع أنّ العالم العربي أمم لا أمة. ومن ورر هذه الحقيقة المؤلمة لغير المخدوعين وللمخدوعين المستيقظين، أنّ مصر كانت نظرياً، تحارب مع السوريين ضد اليهود في حين أنها كانت، عملياً، تشاطر اليهود احتلال أرض سورية. فاستولت على منطقة النقب الغنية بالنفط والإمكانيات العمرانية، وعلى هذه المنطقة جرى أخيراً النزاع بين اليهود ومصر وتجري اليوم مفاوضات السلم بين مصر وإسرائيل!
لم تكن هنالك حاجة إلى اشتراك مصر والعرب في الدفاع عن فلسطين لو أنّ الأمة السورية كانت ناهضة بحقيقتها التي تنادي بها الحركة القومية الاجتماعية، ولو لم تكن صريعة الوهم العروبي ـ وهم “الوحدة العربية والخمسين مليون عربي” الذي يحاول العروبيون أن يستعيضوا به عن نتيجة جهلهم واقع الأمة السورية وواقع العالم العربي.
في فلسطين أفلست العروبة وأفلست الفئة العروبية من فئات الـ Neo رجعيين!
كان إفلاس العروبة في فلسطين إفلاساً كاملاً، باهراً، نادر المثيل. إنها أرادت أن تواجه قضية سياسية إنترناسيونية من الطراز الأول بقضايا وهمية ومبادىء ميتة!
بعقلية الجهاد الديني، الذي انتهى أجله ومضى زمانه، أرادت عروبة النفسية المريضة في سورية أن تعالج قضية قومية ممتازة ومسألة سياسية من أدق مسائل هذا الزمن. وفي حرب عصرية في عصر القوميات أرادت أن تحارب بجيش على مثال جيش “اليرموك” وأن تحوّل أنظار السوريين إلى الصحراء العربية واساليب العُربة!
في فلسطين ودّعت الأمة السورية العروبة الوهمية، العاجزة، الاتكالية وداعاً فاجعاً لتلبّي دعوة الحركة القومية الاجتماعية إلى قوميتها الحقيقة ولترى بعين حقيقتها هي واقع العالم العربي، فتنهض بقضيتها السورية فتجد في قواها التي أهملتها زمناً طويلاً معيناً للنشاط لا ينضب ودافعاً إلى التقدم لا يصدّه شيء. بهذا الاتجاه تصير الأمة السورية قوة فاعلة في العروبة الواقعية التي أعلنتها ـ عروبة التعاون بين أمم العالم العربي.
كل شيء، بيروت،
العدد 95، 21/1/1949