الفلسفة الاجتماعية معنى الأمة وصفتها 2
الأمة والأرض: بيّنا بصورة إجمالية، فيما تقدم لنا من هذا البحث، علاقة الأمة بالعنصر أو السلالة، وسنعود إلى هذه العلاقة متى انتقلنا إلى توضيح جميع مسائل القومية والأمة في بحثنا في الأمة السورية، وهو الغرض الأخير من هذا الدرس الواسع.
ولمّا كنا قد تابعنا باركر المذكور آنفاً في قسمته الأمة إلى أساس مادي وبناء روحي وفرغنا من الإلمام بالجزء المادي الأول من الأساس الذي هو السلالة، فقد رأينا أن نتناول هنا الجزء الثاني الذي هو الأرض أو الوطن.
إذا كان يمكن التفريق بين الأمة والدولة في ظروف وأزمنة معلومة فلا يمكن التفريق بين الأمة والأرض. فقد حدث ولا يزال يحدث في التاريخ أنّ أمماً فقدت سيادتها على نفسها وخضعت لشرائع وقوانين دولة لم تنشأ منها، كالأمة السورية والأمة البولونية قبل الحرب، دون أن يزول وجودها أو تفقد قوميتها. ولكن لم يحدث في التاريخ وليس من المحتمل أن يحث أن تفقد أمة الأرض التي تسكنها وتتهيأ لها فيها أسباب معيشتها وبقائها ويبقى لها كيان. فحاجة الأمة إلى الأرض كحاجة الإنسان إلى المسكن. ولا عبرة بالحركة اليهودية وما يحاول الكتّاب اليهود التذرع به في سبيل تبرير الحركة الصهيونية، فاليهود ليسوا أمة، كما أنهم ليسوا سلالة، بل هم مذهب ديني له خصائص ثقافية، لا أكثر ولا أقلّ. الأمة الحقيقية هي الأمة التي لها وطن فيه تعيش وتكيّف حياتها وتنشىء ثقافتها وتنمّي تقاليدها وأخلاقها. وباركر يقول: «لو ترتب عليَّ أن أضع قاعدة لنشوء الأمة لقلت: خذ أولاً أرضاً معلومة وأضف إليها نوعاً من النظام (أو دولة) يتكفل بربط سكانها، وإذا لم يكن هنالك لغة فدع لغة ما تنمو حتى تعمَّ القوم، ثم خلِّ بعض العقائد والعبادات العامة توحّد أرواح الناس ــــ ومن ثم تتهيأ الأمة من بوتقة الزمان وخميرة القرون».
الحقيقة أنه ليس للأمة كيان إلا في وطنها. بل كثيراً ما يكون المحيط أو الوطن العامل الأساسي في إكساب الأمة صفة معلومة تميّزها عن غيرها. ولولا الأرض وطبيعتها وجغرافيتها لما كان هنالك وجود لأمم كثيرة. والباحث في وجود الأمة البرتغالية التي هي من نفس المجموع الذي خرج منه الإسبان، والتي كونت مع إسبانية دولة واحدة طول نصف قرن، يجد أنّ المبرر الأساسي لنشوء قومية برتغالية مستقلة عن القومية الإسبانية هو الأرض البرتغاليية المنفصلة عن إسبانية بجبال وعرة وأودية تمرّ فيها أنهر غير صالحة للملاحة.
يقول ماكايفر: «إنّ أهل الغال، الذين هم وحدات جديدة ناشئة عن سنّة الاختلاط الاجتماعي الذي لا نهاية له، يفتخرون بجنسهم أو عنصرهم، ولكن هذا النوع من الفخر ليس إلا صيغة تستعمل عموماً للتعبير عن محبة الجماعة الذاتية ضد الجماعات الأخرى. إنّ أمانتهم لأنفسهم ليست ناشئة عن السلالة، بل عن المكان والعادة والتقليد والسلطة وعن قسمتهم المتأتية عن هذه العوامل». فالمكان والحياة الواحدة شرطان لكيان الأمة ونشوء القومية يتمم واحدهما الآخر. وعندي أنّ المكان أصوب أن يكون أساس نشوء القوميات من الشعوب التي ظهرت في التاريخ في زمن الفتوحات. وماكايفر المذكور يتساءل كيف يمكننا وصل الشعوب اليونانية القديمة من «دوريين» وغيرهم بالهلينيين أو بالإغريق الذين كان إسمهم هذا يطلق في العصور الكلاسيكية على مدنية ثم صار في العهد المسيحي يدلُّ على دين وهو يدل اليوم على أمة صغيرة. وقد نقل رينيه يوحنا عن بوسويه أنه «قد تقرر أنّ سكنى البلاد الواحدة والحصول على لغة واحدة كانا سبباً لتوثيق عرى اتحاد الناس معاً».
الأمة واللغة: ويقول بوسويه في مكان آخر «إنّ الكلمة هي رابطة الاجتماع بين الناس» ونحن بعد تبيان أهمية الأساس المادي نريد أن نبحث في علاقة اللغة بالأمة وصفتها.
قلنا آنفاً إنّ الأمة ليست سلالة فهل الأمة لغة؟ وهل يمكننا أن نوزع الأمم على اللغات فنجعل كل جماعة بشرية تتكلم لغة واحدة أمة واحدة؟ لا شك في أنّ النفي هو الجواب الصحيح لهذين السؤالين، إذ يمكن أن تتألف الأمة الواحدة من جماعة من البشر لا تتكلم لغة واحدة. خذ مثلاً سويسرا فهنالك أمة تجتمع في حياة واحدة ولكنها تتكلم ثلاث لغات. وفي بلجيكة لغتان. ومن الجهة الأخرى نرى أنّ أمماً متعددة تشترك في لغة واحدة، كالأمم التي تتكلم اللغة الإنكليزية أو الإسبانية أو العربية. وقد يحدث أن تظهر حركات تاريخية كحركة الجامعة الجرمانية وحركة الجامعة السلافية وغيرها تقوم على أساس الجامعة اللغوية، فمثل هذه الحركات لا يمكن اعتبارها حركات قومية، بل حركات دولية الغرض منها تقوية الدولة القومية، ومن الصعب جداً أن تنجح في جعل القومية مستمدة من اللغة، لأن التقاليد القومية تظل أفعل من اللغة في حياة الأمم. ومع ذلك نرى أنّ للغة علاقة متينة بالأمة لأن اللغة أداة التعبير عن الأفكار والعواطف المولدة التقاليد ا لقومية، فليس في استطاعة المرء أن يدخل قلب الأمة الخافق ولا عقلها المفكر إلا بواسطة اللغة. والذين يقولون إنّ تعليم الدين المسيحي وشرح حقيقته باللغة الإغريقية قد أدخل كثيراً من الفكر الإغريقي في المسيحية هم على صواب. وأحياناً تضطر بعض الأمم إلى استعادة لغتها الميتة لتكون عاملاً قوياً في تقوية قوميتها، كما حدث في بوهيمية التي أحيت اللغة التشيكية وكما حدث في إيرلندا، ولكن ذلك ليس دائماً ضرورة. فقد ذكر رينيه يوحنا المومأ إليه أنّ أوكونيل (O’Connell) بعد الاتحاد، لم يهتم كثيراً للغة القومية التي لم يكن منها فائدة لا للسياسي في وستمنستر ولا للمهاجر في أميركةنية. كان ذلك رأي أوكونيل في زمن الاتحاد وقد يكون رأي الكثير من الإيرلنديين اليوم في زمن الانفصال.
والحقيقة التي يؤيدها الواقع هي أنه ليس من الضروري أن يميل كل الذين يتكلمون لغة واحدة إلى تكوين أمة واحدة، والسياسة التي تتوهم مثل هذا الميل وتستند إليه لا يكون نصيبها إلا الفشل. ولكن الذين يؤلفون أمة واحدة يميلون إلى التكلم بلغة واحدة وتكون هذه اللغة ضرورية لاستكمال الوحدة الروحية في الأمة.
اللغة ضرورية للأمة بقدر ما هي ضرورية لأدبها. فاللغة وحدها لا تفيد شيئاً للأمة إلا بالمعاني المخصوصة المكتسبة من التعابير الأدبية. وهي من هذه الوجهة فقط تكون عاملاً قومياً ضرورياً لوحدة الأمة الروحية.
أنطون سعاده
المجلة، بيروت
المجلد 8، العدد 4، 1/6/1933