الّذي لم يعرف رضا قد خسر كثيراً
الأمينة نضال الأشقر
اصطحبني أبي إلى بعقلين، عرين سعيد تقيّ الدّين، وقال لي سوف تشاهدين مسرحيّة ولم أكن قد رأيت مسرحية من قبل في أيّ مكان. وصلنا إلى قاعةٍ بدائيّةٍ في الهواء الطّلق يعلوها منبرٌ صغيرٌ وكأنّه منصّةً عاليةً مع ديكورٍ بسيط. جلسنا ننتظر أن يبدأ العرض وسألت والدي: “ما هي المسرحيّة الّتي سنشاهدها” فأجاب: “”لولا المحامي” للأديب الكبير سعيد تقيّ الدّين”.
بعد قليل فُتِحَت السّتارة وخرج الممثّلون أمامنا وبدأ العرض وعلا صوت الضّحك في المكان. وعرفت بسرعةٍ أيّهم رضا كبريت، شابٌّ صغيرٌ نحيلٌ ذو طاقةٍ جبّارة على المسرح، ومعه عرفت لاحقاً سليم جمال الدّين وغيرهم. فجلسنا نضحك ونصفّق حتّى نهاية العرض، ورحت مع والدي لكي يعرّفني إلى رضا.
تلك كانت المرّة الأولى، وأكيد لم تكن الأخيرة، إذ بعد سنواتٍ ذهبت إلى الأكاديميّة الملكيّة، وعدتُ من هناك وقرّرت أن أبدأ بتأسيس فرقةٍ مسرحيّة، والممثّل الأوّل الّذي اتّصلت به كان رضا كبريت وذهبنا معاً إلى الكورنيش وتحدّثنا طويلاً، فكان فرحه كبيراً عندما علم أنّني سأبدأ بالعمل في بيروت مع فرقةٍ مسرحيّةٍ جديدةٍ. وهكذا صار، بدأنا معاً بالمسرحيّة الأولى من إخراجي في فرقة (محترف بيروت للمسرح)، وكانت تضمّ روجيه عسّاف (الّذي تعرّفت إليه في ديك المحدي عندما قام بزيارتي للتّعارف مع غابي بستاني الكاتب المسرحيّ الفرنكوفونيّ). عملنا معاً مسرحيات عدّة قبل المحترف.
وضمّت فرقة محترف بيروت للمسرح، سارة سالم الّتي تعرّفت إليها في تونس خلال مهرجانات حمامات، والّتي تدرّبت معها تحت قيادة جون ليتل وود، فشجّعتني وأكّدت لي أنّني حاضرة كي أبدأ فرقة مسرحيّة في لبنان. وهكذا كان العشرات من المحترفين والطلّاب وغير المحترفين، وبدأنا العمل على مسرحيّة “المفتّش العامّ” لـ “غوغول”، و كان الممثّلون الرئيسيّون رضا كبريت وروجيه عسّاف وسارة سالم، وكان هذا العمل الأوّل الّذي نفتتحه في مسرح بيروت عين المريسة. ولاقى إقبالاً كبيراً؛ أمّا رضا فكان لولب المسرحيّة وروحها كما في كلّ مرّة، وقد قمنا جميعاً باقتباس مسرحيّة “المفتّش العامّ” وارتجلنا مشاهدها وأعدنا كتابتها كلّ ذلك تحت إشراف رضا. عملنا كفريقٍ كبير: روجيه، رضا، سارة، سليم جمال الدّين، ومحمد كبريت.
جاء دور مسرحيّة “مجدلون” الّتي أوقفها الأمن العامّ في رابع يوم من تقديمها وأحدثت ضجّة محلّيّة وعالميّة خاصّة وأنّ المسرحيّة كانت قد نالت موافقة الرّقابة. في هذه المسرحيّة المهمّة كان هناك مع الفريق الأساسيّ لمحترف بيروت شباب من الجامعة اللّبنانيّة أهمّهم: جان شمعون، نقولا دانيال، نزيه قطّان ومعهم فنّانون غير محترفين. وبعد أن قطّعنا المسرحيّة إلى مشاهد مع روجيه عساف، بدأنا العمل على الارتجال مشهداً مشهداً، وكان رضا أكثر من كتب وصحّح وارتجل وألّف الأغاني مع باقي الفرقة. كلّ ذلك بمرحٍ وخفّةٍ وإتقانٍ.
كانت جون ليتل وود قد درّبتني على هذه الطريقة في المسرح، وكان هذا ما أحبّه، رضا كبريت الّذي كان كاتباً مسرحيّاً بالفطرة وكاتب أغانٍ ومؤدّياً ألمعيّاً وكوميديّاً… كنّا نضحك معاً دائماً، وعندما كان لا يأتي في الوقت المحدّد إلى التّمارين كنت أذهب إلى بيته فتستقبلني دنانير زوجته بالتّرحاب، وكنت أذهب وأقرعه، وهو نائم حتّى يفيق ضاحكاً ويأتي بسرعةٍ إلى التّمرين. لقد تفوّق رضا في كلّ دورٍ لعبه، وكان فرداً لا يُستغنى عنه من المجموعة.
عندما خطر على بالي، وﺒﺈلحاح أن نقوم بعملٍ عن المقاومة، وكان قدوم الفلسطينيّين إلى لبنان وذهابهم إلى الجنوب مهمّاً، أُعجب روجيه بالفكرة وبدأنا العمل مع الفرقة على تصوّر للمسرحيّة، وتقطيع للمشاهد وبدأ الارتجال حول المشاهد كالعادة ورضا كعادته يرتجل ويكتب ونصحّح معاً.
المهمّ أنّ رضا كان يلعب أدواراً عديدةً ومختلفةً تطغى عليها دائماً تلك الشّخصيّة الجامحة المُضحكة المُبكية، ودائماً أداءً جميلاً يليق بالكبار. شخصيّةٌ نادرةٌ فريدةٌ طريفةٌ وممتعة ممثّل وكاتب وأمين في الحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ حتى آخر حياته. فطرته مختلفة وثقافته المسرحيّة مختلفة وبيئته الّتي خلقته ممثّلاً مختلفاً وإنساناً مختلفاً ودفعته إلى الحياة من دون مؤسّسة أو جامعة، لكن معرفته بالإنسان جعلته كاتباً وفنّاناً رائعاً. جاء رضا من عائلةٍ فقيرة، ولقد أخبرني مرّةً أنّ والدته ولعوَزها ولكثرة أولادها، كانت تغلي الماء وتغطّ أصابعها بالزّيت وترشّ الماء الغالي ويشربونه ويسمّونها “شوربة النّجوم”. هذه القصّة لم أنسَها في حياتي.
لقد اعتمد رضا على موهبته كممثّل وكاتب وعمل بجهدٍ حتّى فرض نفسه على المسرح اللّبنانيّ قبل فرقة “محترف بيروت” للمسرح وبعدها. كان رضا العمود الفقريّ للفرقة، كاتب مسرحيّ عفويّ وناقدٌ شرس وإنسانٌ شجاع، مقدام، نقابيّ ممتاز نشيط، ثمّ – وهذا الأهمّ – سوريّ قوميّ اجتماعيّ ضمّ العقيدة إلى قلبه ووجدانه فأصبحت جزءاً منه. سُجن وعُذّب وانتُقد وظلّ حتى آخر حياته قوميّاً اجتماعيّاً وأميناً تليق به الأمانة وصديقاً صدوقاً حتى الرمق الأخير.
الّذي لم يعرفك يا رضا خسر كثيراً، لم يعرف الفنّان المتفوّق بكلّ تجلّياته وأبعاده.
ما أجملك يا رضا! وكم أحببناك!