تحضّروا لخطّة «التّعافي»: خطّة التّنصّل من مسؤوليّة الانهيار ورمي الخسائر على المودعين
عميد الاقتصاد الرّفيق فادي قانصو
لا شكّ في أنّ الاختلالات البنيويّة القائمة في لبنان باتت جسيمة على كافّة الصُعد، من القطاع الماليّ والنّقديّ إلى القطاعين العام والخارجيّ، مروراً بالقطاع الحقيقيّ من صناعة وزراعة وسياحة وقطاعات إنتاجيّة أخرى. غير أنّ خطّة «التّعافي» الّتي أقرّتها الحكومة مؤخّراً بالاتّفاق مع صندوق النّقد الدّوليّ لوضعِ البلاد على سكّة النّهوض في رحلة الألف ميل الإنقاذيّة، قد بدّدت كلّ الآمال الّتي بُنيت إبّان تشكيل الحكومة بتحقيق خرق مرجوّ في جدار الأزمة المستفحلة.
في الواقع، إنّ الخطّة العتيدة تتضمّن بنوداً وطروحات قاسية تُنبِىء بفترة عصيبة ماليّاً ونقديّاً واجتماعيّاً تنطوي على شوائب عديدة لناحية قدرة هذه الخطّة على إخراج البلاد من أزمة متشعّبة أسفرت عن انهيار الأوضاع الاقتصاديّة بشكل عام.
أوّلاً، إنّ عمليّة توزيع الخسائر كما طرحتها الخطّة المسرّبة غير عادلة أو منصفة على الإطلاق، فهي استثنت الدّولة اللّبنانيّة ومصرف لبنان، اللّاعبين الأبرزين اللّذين تسبّبا في تراكم الخسائر الماليّة في الاقتصاد الوطنيّ، من عمليّة توزيع الخسائر الماليّة.
وبالتّالي، فإنّ الخطّة تنوي تحميل معظم الخسائر للقطاع المصرفيّ، ما يعني المودعين بشكل مباشر، أوّلاً عبر شطب رأس المال المصارف بالكامل، وثانياً عبر شطب 60 مليار دولار من التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة إزاء المصارف التّجاريّة، وهذه الالتزامات ليست سوى توظيفات القطاع المصرفيّ لدى مصرف لبنان، أي ودائع اللّبنانيّين. مع الإشارة هنا إلى أنّ فقدان الثّقة في النّظام الماليّ ككلّ، وبالتّالي عزل لبنان عن النّظام الماليّ العالميّ، ناهيك عن أنّ سلامة القطاع الماليّ له تأثير ملحوظ على المخاطر السّياديّة وبالتّالي على أيّ تصنيف سياديّ محتمل للبنان.
ثانياً، إنّ هذه الخطّة لا تَعد المودعين باستعادة أموالهم ولا تضع أيّ أطر للإفراج عن ودائعهم مستقبلاً، بل تُمعن في القضاء على ما تبقّى من حقوقٍ للمودعين، في وقت تلمّح إلى حماية كل مودع في كلّ بنك في حدود وديعة تصل إلى 100,000 دولار فقط، حتّى السّاعة، في حين تنوي الخطّة تحويل باقي الودائع إلى حصص ملكيّة أو حذف جزء منها، كما تحويل جزء من ودائع العملات الأجنبيّة إلى اللّيرة اللّبنانيّة بأسعار صرف ليست تبعاً لسعر سوق القطع. مع الإشارة هنا إلى أنّ الخطّة أشارت إلى أنّه بالنّظر إلى عدم وجود خيارات أخرى، فسوف يستلزم الأمر مساهمات ضخمة من كبار المودعين.
ثالثاً، تعتزم الخطّة إعادة هيكلة القطاع المصرفيّ عبر تقييم الخسائر وبنية الودائع لكلّ بنك وذلك لأكبر 14 بنكاً، وعبر ضخّ رأس مال جديد في البنوك القابلة للاستمرار. ولكن في ظلّ الإصلاح المرتقب على صعيد تشريعات السّريّة المصرفيّة والّذي يعدّ أمراً ضروريّاً لمكافحة التّهرّب الضريبيّ والجرائم الماليّة وفق الخطّة، والمخاوف الجدّيّة من استنسابيّةٍ في التّعاطي مع ملفّ رفع السّريّة المصرفيّة.
رابعاً، تنطوي خطّة حكومة ميقاتي على السّماح بتحرّك سعر الصّرف الرّسميّ والحدّ من التّدخّلات لتجنّب اضطّراب السّوق دون الحؤول بتغيير اتّجاهه على أن يقتصر التّدخّل في سوق صرف العملات الأجنبيّة على الحدّ من التقلّب الشّديد في أسعار الصّرف. ولكن يهمّنا التّنبيه هنا إلى أنّه في الاقتصاديّات المدولرة وغير المتقدّمة كما هو حال لبنان، فإنّ مسألة تحرير سعر الصّرف قد يكون لها تداعيات سلبيّة على الاقتصاد أو بالأحرى متطلّبات أساسيّة لتفادي التّداعيات النّاجمة عن عمليّة التّعويم. إذ أنّ تحرير سعر الصّرف يحتاج أقلّه إلى استقرار اقتصاديّ، وتحديداً اقتصاد مُنتِج يحقّق نسب نمو اقتصاديّة، لتحقيق بعض التّوازن في الانتظام الماليّ ولضبط سعر الصّرف بعد التّعويم. كما يحتاج تحرير سعر الصّرف إلى استقرار سياسيّ، إذ أيّ خضّة سياسيّة قد تؤدّي إلى تفلّت كبير في سعر الصّرف، ما يعني المزيد من التّضخّم ومن التّآكل في القدرة المعيشيّة. أضف إلى ذلك، يتطلّب تحرير سعر الصّرف غياب الفساد وشفافيّة مُطلقة في أدوات السّياسة الاقتصاديّة والماليّة والنّقديّة وقدرة من قبل المؤسّسات الماليّة المرجعيّة على التّدخّل لضبطه في حال حدوث خضّات سياسيّة أو اقتصاديّة، وهو ما يفتقده اليوم مصرف لبنان في بلد تكثر فيه الخضّات السّياسيّة والاقتصاديّة ويعاني من سوء إدارة وفساد متغلغل.
خامساً، تعتزم الخطّة تحقيق توازن في الماليّة العامّة من خلال مجموعة من تدابير الإيرادات ترتكز على توسعة القاعدة الضّريبيّة وزيادة الرّسوم تدريجيّاً وتحميل المواطن المزيد من الضّرائب، مثل زيادة معدّلات الضّريبة الانتقائيّة على المشروبات الكحوليّة والمشروبات السّكريّة وأصناف من السّيّارات، مع زيادة تدريجيّة لضريبة القيمة المضافة من 11% إلى 15% على مدى عامين، وتعزيز ضريبة العقارات والأملاك المبنيّة، وتقييم التّعرفة الجمركيّة على الواردات بسعر الصّرف الرسميّ الموّحد الجديد، زيادة تعريفة الكهرباء إلى 12 سنتاً للكيلوواط-ساعة ومن ثم إلى 18 سنتاً بمجرّد زيادة إمدادات الكهرباء. في هذا السّياق، تجدر الإشارة إلى أنّ رفع الضّرائب في وقت يعاني الاقتصاد الوطنيّ من انكماش حادّ، سيزيد من حدّة الانكماش بنسبة كبيرة، وتالياً سيخفّض مستوى الاستهلاك، ما يعني تراجعاً إضافيّاً في حركة الاستيراد وبالتّالي عائدات الخزينة من الإيرادات الجمركية قد تكون أقلّ بالمقارنة مع ما تُعوّل عليه الدّولة من إيرادات عامّة في موازنتها لتمويل نفقاتها بشكل عام.
سادساً، تشير الخطّة أنّها بصدد إنهاء العمل بممارسة المصرف المركزيّ نهج تمويل عجز الموازنة، مع تغطية العجز المستهدف في موازنة الدّولة من التّمويل المتاح خارجيّاً فقط، لا سيّما وأنّ التّمويل المحليّ مستبعد نظراً لمواطن الوهن الحاليّة وهشاشة القطاع المصرفيّ وشحّ السّيولة فيه.
ولكن تناست الخطّة أنّه حتّى التّمويل الخارجيّ يبدو مستبعداً في أعقاب تخلّف الدّولة عن سداد استحقاق سندات اليوروبوندز وعدم قدرة لبنان على الوصول إلى أسواق المال العالميّة، مع الاعتماد فقط على تمويل من مصادر دوليّة رسميّة.
في الختام، يبقى الرّهان اليوم على تفعيل عجلة الإصلاحات الهيكليّة الضّروريّة الكفيلة بتعزيز عامل الثّقة بشكل عام، وهو ما يتطلّب تحسّناً ملموساً على صعيد المناخ الدّاخليّ العام مع ما يمثّل من حجر أساس لاستعادة إنتاجيّة المؤسسات اللّبنانيّة من جهة، كما ويتطلّب انحساراً تدريجيّاً للعوامل الإقليميّة المعاكِسة ذات التّداعيات السّلبيّة على السّاحة المحليّة من جهة أخرى، كي يتحقّق الانفراج الاقتصاديّ المنشود.
ولكن لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ البلاد قد تكون مقبلة على مرحلة صعبة سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً، تتطلّب منّا أقصى درجات الوعي والحكمة، لاسيّما وأنّها قد تفرض علينا تغييرات جذريّة في أساليب حياتنا وأنماط عَيشنا السّابقة، قد تبقى معالمها راسخة لسنين طويلة.