حاربنا العروبة الوهميّة لنقيم العروبة الواقعيّة!..
قلت في مقالي “العروبة أفلست” المنشور في كل شيء، في 21 يناير/ كانون الثاني الماضي أنّ العروبيين المصابين بمرض النفس العروبي ومستغلي العروبة أقاموا القيامة على الحزب السوري القومي الاجتماعي وحاربوه بالإشاعة أنه “عدو العرب”، لأنه أراد ويريد إنقاذ سورية من تخبطها وفوضاها اللذين يعود الفضل بنفسها وإلى الاعتماد على نفسها في قضاياها وشؤونها وحقوقها ومصالحها القومية وإلى الثورة على خيال العروبة وهذيان “الوحدة العربية وجيوش العرب والعروبة” في قضاياها ومصالحها القومية التي تعنيها وحدها والتي يجب أن تقوم هي بها إذا كانت تريد سيادة حقيقية وتحقيق أهداف حياتها ومطامحها، ومع أنه اتضح من مقالي المشار إليه أني هاجمت العروبة النايو رجعية الوهمية المخالفة للواقع والحقيقة وأوضحت ماهية هذه العروبة الوهمية في التفصيل الذي أوردته في صدر المقال، حيث قلت إني أعني “عروبة الوطن العربي: الممتد على شواطىء آسية وأفريقية، وعروبة “الأمة العربية” الموجودة في جماعات مختلفة الأجناس المتفرقة والبيئات المتباعدة والنفسيات المتباينة، وعروبة “المجتمع العربي” الذي تنقصه كل خصائص المجتمع الصحيح الحي الفاعل وكل عوامل الاتحاد الاجتماعي، وعروبة “الأربعين أو الخمسين مليون عربي”. فإنّ رد الفعل عند عدد من المصابين بمرض هذه العروبة الوهمية، المعينة والموصوفة، كان موافقاً لتشخيص المرض الذي أوردته في المقال عينه. فالبعض هاجوا وماجوا والبعض عادوا إلى إشاعة “عدو العرب والحقد على العرب والعروبة” فبرهنوا على أنهم من النوع المزمن المستعصي، فجميع الأمور تبدو في نظرهم على خلاف واقعها وعكس حقيقتها ومؤداها. ولكن من دواعي السرور لي أنّ عدداً كبيراً من الذين لم يكن قد بلغ الداء بهم دوره الخطر قرأوا مقالي المذكور والمقالين اللذين أعقباه أكثر من مرة وتمكنوا من ضبط أعصابهم وإعادة القراءة بروية وتفهّم جعلتهم يقبلون على الموضوع وعلى تحليل قضاياه ومسائله، وكثير منهم عادوا إليه مع بعض الرفقاء القوميين الاجتماعيين يباحثونهم ويتعمقون في فهم الموضوع القومي والمسائل الملابسة له.
إنّ المرضى النفسيين فقط استنتجوا من تعاليم الحركة السورية القومية الاجتماعية ومن مقالي المذكور أنّ هنالك “عداوة للعرب وحقداً عليهم” فقاموا يبثّون هذه الإشاعات البعيدة كل البعد عن الحقيقة وعن مقاصدي أنا شخصياً وعن مقاصد الحركة السورية القومية الاجتماعية التي أقودها وأوجهها وعن نصوص التعاليم القومية الاجتماعية وكتاباتي التوجيهية. فمقالي “العروبة أفلست؟ اشتمل على عبارات صريحة لقولي “بواقع العالم العربي والعروبى الواقعية التي أعلنتها” إشارة إلى ما ورد في خطابي يوم وصولي إلى الوطن في 2 آذار/ مارس 1947، إذ قلت: “إذا كان في العالم العربي عروبة حقيقية صميمة، فهي عروبة الحزب القومي الاجتماعي. الجامعة العربية اليوم هي محاولة تحقيق ما نادى به الحزب القومي الاجتماعي (أي القول بالجبهة العربية)، فكنا نحن أصحاب العروبة الواقعية الحقيقيين وكان غيرنا أصحاب العروبة الباطلة، وبعد، فنحن جبهة العالم العربي ونحن صدره ونحن سيفه ونحن ترسه!” وورد في مقالي أيضاَ: “وناديت الأمة السورية إلى النهوض بنفسها لتتمكن من الاشتغال في قضايا العالم العربي ولتكون قوة فاعلة في تكوين الجبهة العربية”.
إنّ موقفي من العالم العربي موضَّح من زمان. هو موضح في رسالة قديمة مني إلى أحد المعارف، نشرت في جريدة النهار في كانون الثاني/ يناير 1936 أثناء وجودي في السجن لإظهار فساد حملة الرجعيين والنايو رجعيين العروبيين على الحزب، وهو موضح في نصوص تعاليم النهضة السورية القومية الاجتماعية. ففي رسالتي المذكورة، وهي مؤرخة في 15 كانون الثاني/ يناير 1935، اقول: “إني أؤمن بأنّ الأمة السورية هي الأمة المؤهلة للنهوض بالعالم العربي، ولكنها لا تستطيع القيام بهذا العمل إلا إذا كانت ذات عصبية قوية في ذاتها تجعل ثقافتها مسيطرة وإرادتها نافذة”. (أنظر ج 2 ص 13) فالنهوض بالعالم العربي بواسطة القومية السورية التي تنهض بسورية أولاً، هو، في عُرف الرجعيين والنايو رجعيين، “عداوة للعرب وحقد على العرب والعروبة”، لأنّ النايو رجعيين العروبيين يريدون عروبة نيو رجعية غير واقعية ويحاربون كل من لا يرى في العروبة رأيهم ويتهمونه “بالعداء للعرب والعروبة”.
“إنّ الذين يعتقدون أنّ الحزب القومي الاجتماعي يقول بتخلي سورية عن العالم العربي، لأنهم لا يفهمون الفرق بين النهضة السورية القومية الاجتماعية وقضايا العالم العربي، قد ضلوا ضلالاً بعيداً.
“إننا لن نتنازل عن مركزنا في العالم العربي ولا عن رسالتنا إلى العالم العربي. ولكننا نريد، قبل كل شيء، أن نكون أقوياء في أنفسنا لنتمكن من تأدية رسالتنا. يجب على سورية أن تكون قوية بنهضتها القومية الاجتماعية لتستطيع القيام بمهمتها الكبرى” (عن الطبعة الأولى من التعاليم ص 31 والطبعة الرابعة ص 48). (أنظر ج 7 ص 329).
هذا هو نص التعاليم (الدكترين) السورية القومية الاجتماعية، وهي التعاليم التي يتعلمها كل قومي اجتماعي ويعتقدها. فهي ليست للسياسة ولا للمناسبات! وقد وضعت هذه التعاليم أمام كل طالب وكل راغب في الاطلاع، ولكن علماء النايورجعية قلّما عنوا بها وكثير من الناس اكتفوا بما وصل إليهم من إشاعات وتآويل مغرضة. وقام الاحتلال الأجنبي والرجعية والنايورجعية تتحالف على محاربة الحزب القومي الاجتماعي فأودَعَ ومعاونيّ السجون، وتحمل علينا الرجعية والنايورجعية في الصحف وتضطهدنا “السلطة الرابعة” المأجورة أو المغرضة، ونُمنع من إصدار صحف قومية اجتماعية وتمنع الصحف من نشر ما يظهر الحقيقة من أمر الحركة القومية الاجتماعية، فبقي معظم الناس في جهل من حقيقة هذه الحركة التي تريد إحياء الأمة السورية وتقوية شخصيتها وإرادتها، وزيادة فاعليتها “لتتمكن من الاشتغال في قضايا العالم العربي ولتكون قوة فاعلة في تكوين الجبهة العربية”.
يقول لنا الذين يتعجبون من قولنا “إنّ انتصار القومية السورية يحقق الجبهة العربية القوية”: لماذا لم تعلنوا هذه الأمور من قبل؟ فنجيبهم: إننا قد اعلنّا ذلك من قبل بكل الوسائل التي كانت في متناول أيدينا وأقلامنا، وقد حالت السجون والاضطهادات دون تعميم تعاليمنا التعميم الذي نتوخاه، ثم إنّ الإشاعات المغرضة وصخب الرجعيين أسدلت غشاوات على الأفهام وصمّت الآذان. فكثيرون هم الذين يقرأون ولا يفهمون ويقال لهم القول فلا يستمعون!
إنّ العروبة الواقعية التي تقول بها الحركة السورية القومية الاجتماعية هي عروبة العالم العربي. وهي تختلف كل الاختلاف عن عروبة “الأمة العربية والقومية العربية والوحدة العربية والخمسين مليون عربي” الوهمية. إننا واقعيون في الوجود، نرى العالم العربي في واقعه لا في تخيلات الواهمين. والعالم العربي في واقعه عالم بيئات وشعوب وأمم فلا نحاول إيهام الناس أنه يمكن تحويل هذه البيئات المختلفة والشعوب والأمم إلى بيئة واحدة وشعب واحد وأمة واحدة، بواسطة رابطة اللغة والدين أو بواسطة دخول كمية من الدم العربي فيما بين تلك الشعوب والأمم من نحو ألف سنة ونيف، أو بواسطة الطيارات والبواخر والقطارات!
إنّ العروبة الوهمية التي تقول بإمكان إحداث هذا التحويل وتدفع أبناء الأمة السورية إلى التعلق بهذه الإمكانية الموهومة، كما يتعلق بعض الجهلة الذين لا يعرفون النواميس الطبيعية بإمكانية اختراع الحركة الدائمة فيقضون عمرهم وينفقون ما في أيديهم ويبيعون رزق عيالهم في هذا السبيل؛ إنّ هذه العروبة الوهمية الهدامة هي العروبة التي يحاربها الحزب القومي الاجتماعي ـ هي العروبة التي وصلت بالأمة السورية إلى كوارث كيليكية والإسكندرونة وفلسطين عن طريق العمل لتحقيق الوحدة العربية!
يمكن العروبيين النايو رجعيين المولعين بجمع شعوب العالم العربي مجتمعاً واحداً وجذب بيئاته المنتشرة في قارتين حتى تصير بيئة واحدة أن يقضوا حياتهم، إذا شاؤوا، وينفقوا ما في أيديهم في هذا السبيل. ليذهبوا ويهتموا بضم العُربة إلى اليمن وتحضير العرب. ليذهبوا ويجمعوا المغاربة والمصريين ليصيروا شعباً واحداً وأمة واحدة ويمدوا سكك الحديد بين القطرين أو لينشئوا المراكب البحرية الكبيرة لنقل الناس مجانا بين ذينك القطرين ليتعاشروا ويتزاوجوا ويعالجوا المصالح والقضايا والأهداف معاً. إننا لا ننكر عليهم شيئاً من ذلك إذا كان من ثروتهم الخاصة. ولكننا ننكر عليهم أن يغرّروا بشباب الأمة السورية في مثل هذه المحاولات عملاً بالعروبة النايو رجعية.
ولكن هل هذه العروبة هي كل العروبة؟ إنّ هنالك عروبة أخرى هي العروبة الواقعية. هي العروبة التي تقول إنّ في العالم العربي أمماً وشعوباً لكل منها خصائص ومقومات ووحدة حياة وإمكانيات، فعلى كل أمة أن تعي وجودها وحقيقتها وأهدافها ومصالحها وأن تنهض معتمدة على نفسها ثم على تعمل على التعاون مع الأمم الأخرى ـ هي عروبة الحركة السورية القومية الاجتماعية.
إنّ القومية السورية لا تصرف الناس إلى الأوهام والسعي وراء السراب. إنها تدعو السوريين عامة في لبنان وفلسطين وشرق الأردن والشام وما بين النهرين إلى الاتحاد القومي والنهوض الاجتماعي ـ إلى العمل على سحق الرجعية والنايو رجعية وأوهامها ـ إلى فصل الدين عن الدولة واعتبار الأمة مجتمعاً واحداً ـ إلى إقامة نظام نفسي ـ ثقافي ـ عملي يزيل الشِّقاق ويمحو التفسخ ويبعث اليقين والإيمان والثقة.
إنّ صفوف النظام القومي الاجتماعي هي الصفوف الوحيدة في الشعب السوري الخالية من كل حزبية دينية ومن كل فوضى وميعان ورجعة. إنّ النايو رجعيين يستخفون بهذا العمل البنائي الذي لم يقدروا أن يقوموا بشيء منه. إنهم يستخفون به لأنه عمل شاق مضن ـ لأنه ليس سهلاً كبناء وهم “الخمسين مليون عربي”.
إنّ بناء النفوس بصبر طويل في إيمان جديد ونظام جديد هو عمل سخيف في نظر النايو رجعية. أما العمل المجيد عندهم فهو محاولة جمع ما كوّنته الطبيعة م
كل شيء، بيروت،
العدد 98، 11/2/1949