حديث الزعيم إلى جريدة وطن التركية – تحقيقات من العالم العربي

 وطن، اسطنبول،
5/7/1947، 7/7/194

فاروق فينيك

دمشق – هل تعرفون أنّ الشخص الأكثر إثارة في الانتخابات السورية هو لبناني إسمه أنطون سعاده؟ طبعاً لا. أليس كذلك؟ أنطون سعاده هو الرجل المعروف بـ”هتلر الشرق الأدنى”.

قول معارضوه إنه فاشستي كبير، أما رجاله فيعتبرونه ديموقراطيًّا مثاليًّا. يقيم في لبنان، لكن حكومة لبنان لا تعرف إقامته. ولو عرفت مقره لاعتقلته منذ زمن طويل ولربما شنقته. وبرغم مذكرة التوقيف القديمة التي أصدرتها الحكومة بحقه، فلا يزال أنطون سعاده طليقاً، يقوم بجولاته من جبل إلى جبل وتستقبله المظاهرات الحاشدة أينما حل.

إنه زعيم الحزب السوري القومي الذي يقدّر عدد أعضائه المسجلين بـ40 ألفاً في لبنان، و60 ألفاً في سورية ومثلها في شرق الأردن وفلسطين. تحت إمرته قوات مسلحة خاصة وفرق منظمة. جاء لمتاعبة سير الانتخابات السورية، فكان لا بد من مقابلة أنطون سعاده المعروف بـ”هتلر الشرق الأدنى”.

ذهبنا إلى لبنان لمقابلة رجاله. ولأن لبنان هو بوابة سورية، فعندما تحصل على تأشيرة دخول إلى أحد البلدين يمكنك التجول بحرية في البلد الآخر. ومقابل خمس ليرات تنقلك أفخم سيارة إلى دمشق كلما ضاق بك المقام في بيروت. فإذا لم ترق لك الإقامة في دمشق، واشتقت في البحر، يمكنك العودة إلى بيروت، بخمس ليرات أخرى، لتغطس في بحرها.

في سورية، التي جئنا اليها لمتابعة سير الانتخابات، كان لا بد من مقابلة أقوى رجال المعارضة للحكومة، أعني أنطون سعاده. كان الأصدقاء الذين أفاتحهم بالأمر يقولون إنّ مقابلته “غير ممكنة” فهو “يختبئ في لبنان، ويعيش في الجبال ولا يستقبل أحداً”. وعندما رغب مراسل وكالة “فرانس برس” لقاءه مرة، وبلغ الأمر حكومة لبنان كادت تطرده إلى خارج الحدود، ولم يمكنه الوصول إليه بسهولة.

إنتظرنا يوماً ويومين بعد إبداء الرغبة ونحن بانتظار الجواب. وكان كل من تحدثنا إليه يقول: إن اللقاء غير ممكن. بعد تسع سنوات من الاغتراب، وفي اليوم نفسه الذي عاد فيه إلى لبنان ألقى خطبته العظيمة أمام 50 ألفاً من مستقبليه عند الطائرة وفيها: “إنّ سورية ولبنان دولة واحدة، ولا يمكن فصل أيهما عن الآخر. ولقد جئت إلى هنا من أجل توحيدهما”.

كان لخطابه هذا وقع القنبلة. واعتُبر الخطاب اعتداء على استقلال لبنان. فصدرت مذكرة توقيف بحق أنطون سعاده. ولكن ها أنّ الرجل الذي صدرت بحقه المذكرة في الجبل ويعمل للغاية نفسها. إلا أنه يتحرك سرًّا.

وبينما استمر ورود الإجابات التي تفيد استحالة الالتقاء به، إذ بصديق أعرفه من البلقان يأتي إليّ يوماً ويقول:

“هل تريد أن تقابل أنطون سعاده؟”

نعم.

إذن هيا بنا، إنّ سيارة تنتظرنا تحت.

صعدنا معاً إلى السيارة. وسارت بنا وقتاً طويلاً فسألته:

إلى أين؟

ليس واضحاً أين سيكون المكان. ألا تريد لقاء أنطون سعاده؟ الآن سوف تلتقيه.

كان في السيارة رجل لا أعرفه. تبادلنا التحية. كانت المصابيح لا تعمل. فتقدمنا إلى الداخل وسط العتمة. خرجنا من بيروت، وقصدنا الجبال وانتقلنا من واحد إلى آخر لمدة ساعات ثم توقفت السيارة.

جاءتهم الشيفرة من ثلاثة أماكن ووردت إشارة من ثلاثة أماكن. ثم مرت السيارة قرب دكان في رأس الجبل. وهناك انضم إلينا شخص آخر. كنا ثلاثة أشخاص داخل السيارة. وبعدما قطعنا مسافة طويلة توقفنا في مكان ما. قالوا:

تفضلوا انزلوا. من هنا. لاحقاً سنسير على الأقدام.

كان المكان جميلاً. كانت جبال لبنان المكسوة بأشجار الصنوبر جميلة ذاك المساء، مثل “بويوك أضه” [جزيرة قرب اسطنبول] وممتعة مثل جزيرة هاييلي. ثم سرنا على الأقدام مدة تتراوح بين خمس وعشر دقائق، عبر ممرات ضيقة، مكسوة بالحصى، ورائحة الصنوبر تعبق المكان.

وصلنا إلى ساحة واسعة. قالوا: قفوا دقيقة”.

لعل هذه النقطة هي الموقع الذي يتحكم بجبال لبنان. كان الوادي تحتنا مغطى بطبقة من الضباب الأزرق مثل البحر. إنتظرنا على هذه الحال دقيقة أو دقيقتين.

فجأة، ظهر من وراء أشجار الصنوبر رجال يحملون رشاشات ويتمنطقون بالمسدسات والقنابل اليدوية.

في اللحظة التي ظننت فيها أنني في جبل لا حياة فيه، امتلأ المكان من حولي بعسكر أنطون سعاده. قالوا:

السلام عليكم.

وعليكم السلام.

تحدثوا طويلاً بالعربية إلى الأصدقاء الذي اصطحبوني.

خيل لي أنني وسط رجال عصابات في اليونان. كان يوجد حوالي 30 – 40 رجلاً مزودين بمسدسات أوتوماتيكية ورشاشات. قالوا:

هل تستطيع التحدث في ضوء القمر؟

نعم، نعم، بالطبع أستطيع ذلك.

إذن، انتظروا قليلاً.

بعد دقيقة أو دقيقتين، وفي ظل ضوء خافت يرسله القمر ويتسلل من بين أشجار الصنوبر، لمحتُ رجلاً يتقدم نحونا. كان شابًّا فتيًّا يسير بخفة ورشاقة تشيان باهتمامه بممارسة الرياضة.

فتح الرجال المسلّحون الطريق أمامه. كان بشوش الوجه وحيويًّا. قال مرحّباً بي أهلاً وسهلاً.

كان يعرف قليلاً من الفرنسية، ولكنه يتحدث الإنكليزية والألمانية بطلاقة قال: “ليس من السهل أن يعيش المرء في الخفاء”.

كان الرجل دائماً في حالة حماس وانفعال. أخذ نفساً عميقاً بينما التفت يمنة ويسرة. كان يحمل كتابين. هرع الرجال ثم جاؤوا ببعض الكراسي.

قال: لا يمكننا التحدث هنا. وأردف:

هل السيارة تحت؟

نعم.

تكلم إلى رجاله بالعربية. ثم التفت إليَّ وقال: سنذهبُ إلى أحد البيوت.

حسناً، حسناً،

لم أرَ حتى وجه الرجل. لعلني أراه أفضل في الضوء. قال هذا القول فاستحسنته.

سرنا بتمهل نحو السيارة. هرع نحونا رجلان أبلغاه أنّ الطريق آمنة. ثم ناولوه رشاشاً ومسدساً. فوضع المسدس في جيبه وأمسك الرشاش وصعدنا معاً إلى السيارة.

كان أحد الشبان الذين رافقونا يحمل رشاشاً ومسدساً أوتوماتيكيًّا. وشعرت بالخوف والانفعال الشديدين مع بدء السيارة تحركها.

ماذا لو علمت القوات الحكومية بنا وحصل صدام واشتباك فذهبنا ضحيته؟ والحمدلله أنّ وساوسي لم تتحقق.

كانت السيارة تطير بنا فوق طريق الإسفلت. توقفنا أمام بيت عند قمة أحد الجبال كانت الظلمة الدامسة تغطي المكان.

أشاروا إلى كنبة على السطيحة. قال سعاده:

تفضل، إجلس،

كنا جميعاً وقوفاً. بدأت تتناهى من داخل البيت أصوات وقع أقدام. ثم فتح الباب وأطلت منه امرأة شابة قالت:

تفضّل.

دخلنا البيت.

كانت النوافذ والستائر والدُرف الخارجية مغلقة تماماً. والمناوبون (الحرس) خارج الباب وفي الشارع ينتظرون نوبة حراستهم.

وأخيراً.. ها نحن وجهاً لوجه تحت ضوء كهربائي ساطع.

أهلاً وسهلاً.

وهكذا بدأنا الحوار مع أنطون سعاده. (تفصيل الحوار في المقال المقبل).

تحقيقات من العالم العربي

هذيانات

المطالب الحمقاء لفاشيّي سورية

بيروت. نحن وجهاً لوجه مع رئيس الحزب السوري القومي، أنطون سعاده:

س – لماذا صدرت مذكرة التوقيف بحقكم؟

ج – وأنا أيضاً لا أعرف… قال ثم أردف: أنا منذ تسع سنوات أقيم في أميركة الجنوبية. عدت إلى هنا في 2 مارس/آذار. إستقبلني عشرات الآلاف. قلقت الحكومة من وجودي. وظنوا أنهم بتوقيفي يضربون الحزب. لقد اتضح مستقبل الحزب. وأظن أنهم اتخذوا هذا القرار من أجل إبعادي وعزلي عن الساحة السياسية.

وكما في كل مكان، هنا أيضاً، يريد بعض الذين على رأس الحكومة أن يديروا البلاد كأنها مزرعة لآبائهم. الذين يقودون الحكومة لا يقومون بشيء سوى الحفاظ على النظام الإقطاعي. يسمونها حكومة هذه الإدارة التي تستمر بدون إصلاح ودون برامج. إن هذا استمرار مباشر للنظام الإقطاعي.

س – ما هو إسم حزبكم؟

ج – إنّ حزبي هو الحزب السوري القومي. أما الآن ولتسهيل ظروف العمل، فإننا نكتفي باستخدام إسم “الحزب القومي”.

س – ما هي غاياتكم؟

ج – تحقيق وحدة سورية.

س – هل يعني ذلك سورية الكبرى؟

ج – نعم.

س – هل تعملون سوية مع الملك عبدالله؟

ج – لا. بدأ الملك عبدالله هذا العمل منذ ثلاث أو أربع سنوات، بينما نحن أسسنا ذلك قبل 15 سنة.

الملك عبدالله يريد الآن، ما نحن أردناه قبل 15 سنة. إنّ حزبنا يسير اليوم وفق مبادئ تستند على اسس اجتماعية وإتنية. إذا تأسست سورية الكبرى يوماً ما، فسيكون ذلك من أجل خدمة قضية حزبنا. عندنا أعضاء مسجّلون ما يقارب 60 ألفاً في سورية و50 ألفاً في لبنان ومئة ألف في شرق الأردن وفلسطين، ولنا أضعاف هؤلاء من المناصرين.

بدون مساعدتنا لا يمكن لأحد أن ينجح ولا يمكن فعل أي شيء.

س – ماذا تريد أن تفعل؟

ج – نريد تأسيس سورية الكبرى. ونعمل من أجل تحقيق سورية الكبرى ضمن الحدود الطبيعية.

س – ما هو قصدكم بالحدود الطبيعية؟ هل يمكن أن نعرف ما يجول في بالكم؟

ج – توجد نظرتان لحدود سورية: الحدود الطبيعية والحدود السياسية. حدود سورية الطبيعية تمتد إلى طوروس، أما بالنسبة إلى الحدود السياسية، فإنها تتحدد وفقاً للعلاقات بين البلدين.

س – هل تقصد الإسكندرونة؟

ج – نعم، إننا مستعدون دائماً للحوار مع تركية من أجل حلّ مسألة الإسكندرونة.

س – ألم تُظهر لكم الأحداث والوقائع أنّ تركية غير مستعدة للدخول في مساومات حول ارض هي جزء من الوطن؟ هل تعرف اللغة التركية؟ لو كنتم تعرفون لكنت سأقول لك قولاً مأثوراً.

قال مساعد له كان يجلس إلى جانبه:

ج – إذا أعدتم الإسكندرونة فسنذهب إلى هناك ونتعلم التركية.

س – لا، لا تتعبوا أنفسكم. نحن نجيء إلى هنا ونعلمكم التركية. فهذا أسهل. عندها لاحظ أنطون سعاده أنّ الحديث أخذ شكلاً جديًّا فأراد تغيير منحاه:

ج – إنّ العلاقات بين البلدين تتواصل دائماً في ظل نطاق الصداقة. إنّ حزبنا حزب قومي. نحن معادون للشيوعية، ونعرف أطماع الشيوعيين. إذا استلمنا السلطة فسوف نعاقبهم بجرم التعامل مع العدو. إننا نعرف أنّ تركية تقف ضد الشيوعية. ونحن لهذا السبب نقدر تركية.

س – ما هي نظرة حزبكم إلى مسألة فلسطين؟

ج – إنّ فلسطين جزء من سورية. وهي لا يمكن أن تنفصل عنها. يمكن أن نقبل بوجود الأقلية اليهودية تحت الحاكمية السورية وضمن حدود سورية. ولكن لا يمكن أبداً الاعتراف بالاستقلال لهم.

س – هل أنت فاشتسي؟

ج – إنّ معارضينا يقولون أي شيء في حقنا من أجل تشويهنا. يقولون إننا فاشستيون وإننارجال الملك عبدالله. وإننا دمى بيد الإنكليز. هذا لا أصل له ولا أساس. نحن رجال سورية العظمى، ونعمل فقط لمصلحة سورية الكبرى.

إنهم يريدون إظهارنا كرجال للملك عبدالله بسبب السمعة السيئة للملك عبدالله في البلاد لكي يضعفوا قوة حزبنا في انتخابات سورية.

لحزبنا فروع في شرق الأدرن، لقد ذهبت إلى عمّان عام 1938 ويمكنني الذهاب مجدداً. هل يُظهر ذلك أننا نتعامل مع الملك عبدالله؟

س – هل أنتم متفائلون بالنجاح في الانتخابات؟

ج – سوف نخوض الانتخابات السورية. الحكومة لم تعترف رسمياً بحزبنا. الشعب سيكون حتماً معنا. لكن مهما تفعل فإن القوة بيد الحكومة. هذه الانتخابات لن يكسبها الشعب بل الحكومة.

س – لقد تحدثنا كثيراً عن السياسة. لنتحدث بعض الشيء عن حياتكم. كيف تمضون وقتكم؟

ج – معظم وقتي أمضيه في القراءة.

س – كم عمرك؟

ج – 42 سنة.

س – هل أنت متزوج؟

ج – زوجتي في الأرجنتين. بعد شهر ستكون هنا. عندي بنتان.

كان الوقت متأخراً والخروج غير ممكن فقيل لنا: إذا أردتم يمكنكم أن تقيموا هذه الليلة في أحد الفنادق في الجبل.

لم يكن بد من ذلك، فوافقنا.

ودّعنا أنطون سعاده. ورافقنا رجاله المسلحون حتى السيارة. أمضيت تلك الليلة في فندق لا أعرفه في قمة جبل لا أعرفه أيضاً. وفي صباح اليوم التالي جاؤوا إليّ ونقلوني بالسيارة.

هكذا تحدثنا مع أنطون سعاده زعيم فاشستيي سورية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى