حل الكومنترن
الزعيم يقول إنّ سبب الحل الفشل والإخفاق.
في الثاني والعشرين من مايو/أيار الماضي صدرت عن موسكو برقيات تحمل قرار اللجنة التنفيذية للمجمّع الشيوعي الإنترناسيوني الثالث، المعروف، اختصاراً، باسم «الكومنترن» وهي لفظة مركبة من كومونست وأنترناسيونال، باقتراح ما يأتي على جميع أقسام أو فروع الاتحاد الشيوعي الإنترناسيوني للمصادقة:
»يُحَل الإنترناسيونال الشيوعي، الذي له صفة المركز الإداري للحركة الإنترناسيونية المختصة بالطبقة العاملة، معفياً فروعه من كل واجب ناتج عن قانونه وعن المقررات المتخذة في مجامع الإنترناسيونال الشيوعي. ويكون أنّ ملاك لجنة الإنترناسيونال الشيوعي التنفيذية يصرف كل جهده إلى تأييد حرب تحرير الشعوب والدول، التي يقوم بها التآلف المقاوم الاشتراكية القومية، وإلى الاشتراك الفعلي فيها من أجل إحراز أسرع انكسار لعدو العمال الألدّ: الفاشستية الألمانية وشركائها ومواليها».
وفي بيان الأسباب الداعية إلى هذا الاقتراح الخطير تقول اللجنة في بلاغ مسهب إنّ الأسباب الموجبة لنشوء الإنترناسيونال الشيوعي سنة 1919 هي:
تشكيل وتثبيت طلائع العمال البارزين، في عدد من الأقطار، في أحزاب عمال حقيقية ومساعدتهم على حشد العمال للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية والسياسية ولقتال الفاشستية والحرب التي كانت الفاشستية تعدّها، فضلاً عن مساعدة الوحدة السوفياتية، بصفتها الحصن الرئيسي ضد الفاشستية، ويزيد البلاغ، إنّ الحالة الحاضرة، الناتجة عن الحرب، ومقتضياتها جعلت النظر في احتياجات الحرب أمراً أولياً.
ولذلك ترى اللجنة المذكورة ــــ كما ورد في بلاغها ــــ أنّ المهمة الأولى لجميع طبقات الشعوب المتحدة ضد الاشتراكية القومية (النازية)، ولطبقة العمال بنوع خاص كائنة في مساعدة حكوماتها بكل قواها لربح الحرب.
وترى أيضاً أنّ للأمم التي تؤلف الاتحاد، ضد النازية، قضاياها ومشاكلها الخاصة.
وإنّ واجب العمال في بعض أقطار هذه الأمم التي اكتسحتها القوات الهتلرية وفقدت استقلالها، أن يجعلوا مهمتهم الأساسية إضرام نار القتال المسلح، وتحويل هذا القتال إلى «حرب قومية تحريرية» ضد ألمانية الهتلرية.
ويفيض البلاغ في القول إن الحرب التحريرية التي تقوم بها الشعوب «المحبة للسلام ــــ ضد الطغيان الهتلري» قد أظهرت أنّ النهوض القومي العمومي يمكن أن يتحقق على أفضل وجه باهتمام طلائع حركة العمال بالعمل كل طليعة ضمن الشكل البنائي الموجود في وطنها.
ومن الأسباب الداعية للاقتراح ما ذكره البلاغ عن انسحاب الحزب الشيوعي الأميركاني من الإنترناسيونال الشيوعي سنة 1940.
لم يكن إمضاء ستالين بين إمضاءات الذين وقّعوا الاقتراح على الأحزاب الشيوعية إلغاء المجمّع الشيوعي الإنترناسيوني الثالث.
ولم يعلن رئيس حكومة السوفيات رأيه في الموقف، الأمر الذي دعا إلى إشاعات متضاربة، وكان لا بدّ من جلاء موقف ستالين لإعطاء الاقتراح قيمته النهائية. فأرسل رئيس مراسلي شركة «رويتر» في موسكو رسالة إلى السيد ستالين يسأله فيها عن وجهة النظر السوفياتية فيما يختص بإلغاء الإنترناسيونال الثالث فأجابه ستالين بكتاب مؤرخ 28 مايو/أيار الماضي يقول:
«إنّ حل الكومنترن صالح وموافق، لأنه يسهّل تنظيم الاقتحام المشترك بين جميع الشعوب الراغبة في الحرية الموجّه إلى العدو المشترك: الهتلرية».
وفي ما بقي من الكتاب يبدي ستالين رأيه أنّ حل الكومنترن سيقاوم الإذاعة الألمانية التي تثير دائماً مسألة الخطر الشيوعي على الأمم والدول، ويعتقد أنّ في الإلغاء المذكور ونتائجه ما يساعد على توثيق عرى جبهة «الحلفاء والأمم الأخرى في حربها للانتصار على الطغيان الهتلري».
أخيراً في العاشر من يونيو/حزيران الماضي وردت الأنباء أنّ اقتراح الحل قُبِلَ في أكثر الفروع ولذلك فقد أصبح إلغاء الكومنترون أمراً نافذاً واقعاً.
رحبّت صحف الأمم المتحدة بفكرة حل الكومنترن وكانت آراء الكتّاب والمراسلين مماثلة لما ورد في كتاب ستالين، الذي يمكن أن يعدّ بمثابة خلاصة للآراء الجارية في أوساط المحور الأنكلوسكسوني التي لا تريد أن تتعدى دائرة أغراض الحرب العملية. أما الآراء البارزة في المحور الألماني ــــ الإيطالي ــــ الياباني فخلاصتها أنّ حل الكومنترن ليس سوى خدعة لتقريب الأمم واكتساب ثقتها ليصير أسهل أخذها على حين غرة.
وتفرّغ شركة «ترانس أوسيان» جهدها في إيراد الحجج والوثائق لإثبات أنّ حل الكومنترن خدعة كبيرة كالحجة المأخوذة من خبر وارد في جريدة القصر الإسبانية أنّ الزعيم الشيوعي الإرهابي المعروف ديمترف أرسل كتاباً إلى جميع موظفي الحزب الشيوعي في العالم يعلن لهم فيه أنّ المرسوم بحل المجمّع الشيوعي الإنترناسيوني الثالث لا يرمي إلا إلى غرض تحريكي وأنّ المجمّع الثالث باقٍ في الحقيقة، الخ.
أوردنا وجهتي نظر الفريقين المتحاربين في حادث حل المجمّع الشيوعي الإنترناسيوني الثالث من باب تدوين الحوادث الجارية وردّ الفعل الذي تثيره. ولكننا لا نتقيد بأي رأي من هذه الآراء الأجنبية الرامية إلى أغراض ومصالح بعيدة عن أغراض حياتنا ومصالح أمتنا. ولذلك نحلل هذا الحادث الخطير تحليلاً جديداً ونعلله بنظرة مستقلة تحرق حجب الإذاعات المتضاربة لنصل إلى الحقيقة.
ولا بدّ لنا من إثبات ما قاله الزعيم جواباً على سؤال وجّهه إليه أحد الرفقاء المفكرين وهو:
»إنّ حل الكومنترن، سواء أكان صادراً عن رغبة حقيقية من قادة الحركة الشيوعية في حله أم عن غرض آخر لهم، لهو نتيجة لفشل القادة الذين قاموا على إدارة الحركة المذكورة منذ سنة 1919 ولإخفاق مسعى تلك الحركة لهدم القوميات وإلغاء فكرة الوطن وإنشاء نظام عالمي يقوم على أساس العمل الإنتاجي في نظرة اقتصادية مادية محدودة تكيَّف الحياة وشؤونها وفاقاً لمحدود المادية البحتة».
إنّ إخفاق المسعى الأساسي للمجمّع الشيوعي الإنترناسيوني الثالث حدث أولاً في البلاد التي استولى على إدارتها الشيوعيون. فمنذ أيام لينين إلى الوقت الحاضر، تعرضت فكرة الشيوعيين وخططهم لتعديلات كثيرة هامة لاشت كثيراً من أوهام متحمسي الشيوعية الذين تخيلوا إمكان وضع الإنسان ومركّبه النفساني في قالب من الحديد، وتحديد حياة الإنسان بكذا ساعات عمل، وكذا مقدار إنتاج، وكيت نزهة وكيت راحة وكذا غذاء.
وشيئاً فشيئاً أخذ المجمّع الشيوعي الثالث يتحول من منظمة مثالية تعمل لتحقيق فكرة، إلى مؤسسة تستخدمها روسية السوفياتية لأغراضها السياسية.
وخدمة هذه الأغراض كانت من جملة أهداف المجمّع المذكور الأساسية كما ورد في بلاغ اقتراح الحل المشار إليه فيما سبق، الصادر عن اللجنة التنفيذية لذلك المجمّع، في عبارة «فضلاً عن مساعدة الوحدة السوفياتية، بصفتها الحصن الرئيسي ضد الفاشستية».
من الأغلاط الشائعة أنّ الألمان هم الذين أدركوا قبل غيرهم خطورة الإذاعة في الجماعات البشرية في العالم، ولذلك أنشأوا في حركتهم الاشتراكية القومية وزارة خاصة بالإذاعة.
والصحيح أنّ الروس الشيوعيين هم الذين أوْلوا الإذاعة أهمية خارقة العادة، وعوّلوا عليها في هدم النفسية الحربية الألمانية في الحرب الماضية، ولا شك في أنّ الإنكليز كانوا يعوّلون على قاعدة الإذاعة من زمان ويستعملونها بحكمة لأغراضهم السياسية.
ولا شك أيضاً في أنّ الألمان أتقنوا فن الإذاعة وتوسعوا في اختصاصاته التقنية أكثر من غيرهم.
بعد أن أدرك الروس أهمية الإذاعة في التأثير على المجاميع الإنسانية وخبت نار الثورة الاشتراكية المادية باصطدامها بمبادىء أساسية للوجود الإنساني صار استغلال العقيدة الاشتراكية في جماعات العمال البسطاء للأغراض والأهداف السياسية التي تعيَّن في روسية تحت قيادة ستالين وإشرافه.
وهكذا صارت الأحزاب الشيوعية في العالم، المتقيدة بقرارات المجمّع الشيوعي الإنترناسيوني الثالث، تعمل بعماوة وصمم لتنفيذ الخطط المقررة في روسية لأهداف بعيدة جداً عن دائرة الحياة التي نشأت فيها تلك الأحزاب، كما هو شأن تلك الفئة المفسدة في سورية التي سمّت نفسها «الحزب الشيوعي السوري» و«الحزب الشيوعي الفلسطيني» العاملة للأغراض الأجنبية البعيدة عن مصلحة الشعب السوري، وكادت تنجح كثيراً لولا حملة الحزب السوري القومي الاجتماعي عليها تلك الحملة المشهورة التي حدثت سنة 1938 في دمشق واضطرت أكثر رجال إدارة الحزب الشيوعي للهرب من دمشق والتفرق في البلاد وكان لها صدى في موسكو وباريس، كما أثبت عدد جريدة صوت الشعب الشيوعية الذي خصص لذكر حوادث دمشق وصداها في الخارج.
وفي فرنسة تنبّه أهل الرأي الفرنسيون متأخراً جداً للخطر الذي زجتهم فيه أصابع المركزية الشيوعية الروسية.
وعبثاً حاولت جريدة الطان في سنة 1938، بمناسبة أزمة السودت تنبيه الفرنسيين إلى خطر الانقياد للخطط التي تأتي من الخارج.
إنّ قبضة الشيوعية على فرنسة من أيام «الجبهة الشعبية» دفعت فرنسة إلى المهواة. ولو أنّ فرنسة انتظرت إلى أن تشتبك ألمانية وروسية أولاً، لكان الأرجح أن لا تكون صارت إلى ما صارت إليه.
ومهما يكن من الأمر، فلا شك في أنّ المجمّع الشيوعي الإنترناسيوني الثالث، من حيث هو جسم يمثّل فكرة مثالية، قد مات.
وإذا بقي منه شيء منه مركز للدسائس السياسية.
إنّ الأمم التي تنبهت نهضاتها القومية إلى خطر تضخم الرأسمال الفردي وتسلطه على مجرى حياتها، كالأمة السورية مثلاً، ليست بحاجة لتوجيهات موسكو في حل مشاكلها الاقتصادية، ولا إلى المبدأ الشيوعي، ولذلك كان من الضروري استئصال شأفة الشيوعية منها لكي لا تغدو ضحية الدسائس السياسية الخارجية التي تدخل بلادها بواسطة الأحزاب الشيوعية المرتبطة بمركزية شيوعية قائمة تحت نفوذ، وفي ظل دولة معينة لها أغراض ومصالح خصوصية في العالم. ولذلك لم تعد مهمة المركزية المذكورة هينة. وحبوطها أمر طبيعي، سواء أتمّ بالإلغاء أم تمّ بالجمود في طريق البقاء.
أنطون سعاده
الزوبعة، بيونس آيرس،
العدد 62، 1/7/1943