خطاب الزعيم في بوينُس آيرس
“نقلاً عن الآثار الكاملة، بيروت، ج 13، ص 13 – 18”
(نورد في ما يلي رسخ في ذهننا من خطبة الزعيم الشيقة المذكورة في وصف استقبال سفير لبنان في دار الجمعية السورية الثقافية. ونذكر بهذه المناسبة أنه حين طُلب إلى الزعيم الكلام كان يحادث بعض الفرنسيين إليه وفي يده بعض صور الاجتماعات في لبنان. فنهض الزعيم وسط عاصفة من التصفيق وبدأ كلامه فقال):
أيها الرفقاء القوميون الاجتماعيون، أيها المواطنون المحبّذون، إنّ لهذا الاحتفال الصغير بسفير لبنان الذي جاء بردّ الزيارة لفرع الحزب القومي الاجتماعي مغزى يجب أن لا تطمسه الغفلة. وإني أرى أن أحدثكم قليلاً في مغزى هذا الاجتماع.
إنّ في المظهر الذي يقدمه هذا الاجتماع ليس سوى حلقة في سلسلة طويلة من المظاهر الحديثة التي تثبت حقيقة كبيرة واضحة فى حياة وطننا السياسية ألا وهي حقيقة الحزب القومي الاجتماعي.
جميع المظاهر التى أعنيها والتي حملتها إلينا طائفة من السجلات الصورية والأخبار الواردة مؤخراً من الوطن تدل على مبلغ خطورة هذه الحقيقة العظيمة التي هي حقيقة الحركة القومية الاجتماعية في وطننا كله.
في يدي الآن بعض صور صغيرة من مجموعة صور وصلت إليّ من الوطن. إحدى هذه الصور تُظهر رئيس الجمهورية اللبنانية الأستاذ بشارة الخوري واقفاً في رواق قصر بتدّين يحيّي بعض الفرق القومية الاجتماعية. وقد وقف عن جانبه الأمين الجزيل الاحترام عبدالله قبرصي، هذه الصورة الصغيرة (ورفع الزعيم صورة بيده) ليست كثيرة الوضوح ويجب التدقيق فيها والتنبّه إلى العلامات لتمييز رئيس الجمهورية والأمين قبرصي فقربوهها إلى أنظاركم وتحققوا منها.
هذه صورة أخرى (ورفع الزعيم صورة بيده) هي أكثر جلاء من الأولى تمثّل حشداً من القوميين الاجتماعيين في مرجعيون التي أقام فيها الحزب القومي الاجتماعي مهرجاناً حزبيًّا أظهر قوته في جنوب لبنان الشرقي.
وهذه صورة أخرى تمثّل فرقة قومية اجتماعية سائرة بنظامها البديع وعلمها إلى المخيم الذي أقيم صيف السنة الماضية في عيناب.
وهذه صورة أخرى تُظهر الوزير الدكتور جميل تلحوق ممثل الحكومة في مهرجان الحزب القومي في الشوف، وهنالك صور أخرى كثيرة قد أصبحت الآن في إدارة الزوبعة ستنشر على صفحاتها ويعرض المواطنون الغافلون في المغترب أنّ الحزب القومي الاجتماعي هو نهضة عظيمة ممتدة في جمع أرجاء الوطن، وأنّ الحكومات الوطنية الحاضرة تقدّر هذه الحركة وتحسب حسابها.
إنّ سلسلة هذه المظاهر التى وصلت حلقاتها إلينا هي سلسلة شهادات بانتصار الحزب السوري القومي الاجتماعي على الأراجيف والإشاعات التي حاربته بها قرارت الرجعة وعلى السجون والمعتقلات التي زجت فيها الدولة المحتلة معظم أركان إدارته وعدداً من رجاله البارزين وأركانه العاملين مُحاولةً خنق حركته.
أجل، قد ساء فأل الذين أخذوا يشيعون أنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي هو وليد الحركة الفاشستية في إيطالية أو وليد الحركة الاشتراكية القومية فى ألمانية، وأنه يعمل بإشارة تينك الحركتين، والحقيقة أن هذا الحزب هو أول منظمة نبّهت الأمة السورية إلى خطر دعاوات الحركتين الاجنبيتين المذكورتين والقوة الوحيدة التي وقفت في وجه مراميها الاستعمارية، كما وقفت في وجه المرامي الاستعمارية التي سبقتها إلى وطننا. (هتاف وتصفيق شديدان).
إنّ نزاهة الحركة السورية القومية الاجتماعية الناصعة ظهرت دائماً حيث وجدت نزاهة في معرفة الحقيقة وحيث لم يوجد تحيّز لأغراض مستورة ومرامي رجعية او استعمارية مستورة. ففي المكسيك التي كانت في مقدمة الدول الأميركية التي أعلنت الحرب على المحور بحثت الحكومة المكسيكية في أمر الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي بلغها فيه وشايات وأقاويل كثيرة من مواطنين أعماهم هوس الرجعة وحب الباطل، فلما وقفت على حقيقة أمره رخّصت لفرع الحزب السوري القومي الاجتماعي متابعة أعماله علناً في المكسيك وخوَّلته حرية لم تعرفها أحزاب كثيرة غيره في اثناء الحرب. وفي أميركانية عرضت مبادئ الحزب القومي الاجتماعي وشرحها ودستور الحزب وقوانينه مترجمة إلى الإنكليزية على الحكومة في واشنطن فلما وقفت عليها ونظرت في جميع الأقاويل فيه لم تجد مستنداً حقيقيًّا واحدً للذين أرادوا تشويه حقيقته، ورخّصت للحزب للعمل بحرّية لغايته في أميركانية، وصار فرع الحزب هناك يعمل بحرّية تامة بينما الحرب بين الجبهة الديموقراطية والجبهة المحورية في أشدها!
وإذا نظرنا في شأن الحزبي في الوطن، ماذا نرى! نرى أنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي كان مضطهداً على عهد حكومة فيشي الموالية للمحور. وقد نفّذ فينا الاحتلال الفرنسي أحكامه العسكرية المشهورة المبنية على غير التهمة الأساسية التي وجّهت إليه واتخذت ذريعة لملاحقة أركانه وشلّ حركته. فقد كانت التهمة المذكورة تنص على التآمر على سلامة الدولة الداخلية والخارجية. ولكن لما لم تتمكن سلطة الاحتلال الاستعماري من إثبات تهمتها بحجة واحدة أو بشبه حجة فأسقطت دعواها وحكمت علينا أحكامها الباطلة الجائرة بتهمة أخرى لم يكن لها أساس في الدعوى وهي “الاشتغال بحزب غير مرخّص به وتوزيع مناشير وعقد اجتماعات غير مأذون بها”. وما أبعد هذه التهمة عن أي ظل لتلك الإشاعات المختلقة من تأثير الفاشستية الإيطالية والاشتراكية القومية الألمانية في الحزب القومي الاجتماعي وعن عمله لمصلحة دول المحور!
وبعد دور حكومة فيشي تعرّض الحزب لامتحان آخر على عهد الديغوليين الذين ورثوا السياسة الاستعمارية وأرادوا تطبيقها بالحرف، لكن تحت أسماء جديدة. ولكن تيار الشعور القومي وروح الدفاع عن حق الأمة اللذين نفختهما تعاليم الحزب السوري القومي الاجتماعي في نفوس الشعب، كانا قد أصبحا قوة كبيرة ساعدها على مظهرها الأخير، تغيير الوضع السياسي الإنترناسيوني وضعف القوة العسكرية الفرنسية، فخرج جنود الحركة القومية الاجتماعية ينظّمون الحملات ويعبّئون صفوف القوميين الاجتماعيين ويضمون إليهم قوات أخرى من الشعب ويهاجمون الفرنسيين في معاقلهم، فأبلوا أحسن البلاء ونالوا شهادات رجال الإدارة وإعجاب الشعب وتقديره. وفي لبنان نصر الحزب القومي الاجتماعي الأستاذ بشارة الخوري على إميل إده، وبفضل تدخّل الحزب القومي الاجتماعي في انتخابات لبنان فاز الأستاذ بشارة الخوري و”الكتلة الدستورية” وصار الأستاذ الخوري رئيس الجمهورية اللبنانية.
وها هي أخبار الوطن تعلن لنا أنّ الحزب القومي الاجتماعي يعمل برخصة رسمية في لبنان وتمتد حركته المباركة امتداداً سريعاً في جميع مناطق سورية في الشام وجميع جهات الجمهورية الشامية وفي فلسطين وفي عبر الأردن، والشعب الذي يرى اليوم مظاهر الاستقلال يشعر بالحاجة الماسّة إلى جعل هذا الاستقلال حقيقة متينة تستند إلى دعائم قومية راسخة ويشتد في هذا العهد يقينه بأن الحزب القومي الاجتماعي هو أمل الأمة الوحيد. (هتاف وتصفيق متواصلان).
إنّ الحزب القومي الاجتماعي قد انتصر على السجون والإرهاق، وعلى الإشاعات والأكاذيب، وعلى عراقيل الرجعة ومقاوماتها، وعلى الإرادات الاجنبية الطامعة في حقيقتنا وحقوقنا (هتاف شديد، ليحيى الحزب القومي الاجتماعي! ليحيى سعاده!).
ولكي نفهم قيمة انتصارنا يجب أن نعلم قيمة الحروب التي خضناها. كانت أولاها الحرب التى بادأتنا بها السلطة الاحتلالية التي أوعزت إلى أتباعها من أبناء البلاد أن تشيع عنا أننا نعمل لمصلحة إيطالية وألمانية وبأمر الفاشستية والاشتراكية القومية لكي يتسنى لها أن تتعقبنا وتضطهدنا بهذه التهمة وأن تضلل الشعب عنا.
ثم كانت الحرب التي أثارتها علينا الحزبيات الدينية من مسيحية ومحمدية، فقام أصحاب الحزبية المسيحية يقولون إننا نعمل لجعل المسيحيين تحت حكم المحمديين الذين هم الأكثرية في سورية ليذلّوهم، وقام أصحاب الحزبية المحمدية يقولون إننا نريد إذلال المحمديين للمسيحيين ومحاربة المحمدية.
ثم كانت الحرب التي أضرمت نارها النفعية على اختلاف طبقاتها وألوانها التي لها غرض واضح هو أن تظل الفوضى متفشية فى البلاد. وأن تظل الأمة مقسمة بين حزبياتها الدينية لتتمكن النفعية من الاصطياد فى الماء العكر.
وقد توهّم ذوو النظر الضعيف أنّ هذه الحروب التي أثيرت علينا تشهد على فساد تعاليمنا وبطلان دعوتنا، فأنا أسألكم وأسألهم، أليست المسيحية والمحمدية رسالتين إلهيتين أتتا العالم بأمر الله وإذنه؟ ألم تكن العزة الالهية ذاتها مستنداً لهما ولرسوليهما؟ وماذا فوق العزة الإلهية فإنها من صدق وقدوة؟ وماذا كان موقف الناس من هاتين الرسالتين الإلهيتين؟ هل انضموا إليهما حالما سمعوا دعوتيهما الإلهيتين؟ هل مجّدوا صاحبيها اللذين أرسلهما الله؟
كلا، بل قاوموهما أشد المقاومة وسخروا من صاحبي الرسالة واحتقروهما، وقالوا عن المسيح الذي هو الأقنوم الإلهي الثالث عند المسيحيين أي الذي تتمثل فيه إرادة الله بالذات إله بعلزبول وإنه يأمر الشياطين أن يدخلوا ويخرجوا لأنه رئيسهم، وفي الآخر صلبوه على رواية المسيحيين، أو رفعة الله من بينهم على رواية المحمديين، وترك تلامذة قليلين يتعهدون دعوته ويتعرضون للإهانة الكثيرة. وقالوا عن محمد إنه مجنون وإنه مشعوذ وأصلوه حرباً شديدة ورموه عن فرسه في معركة أُحُد وجرحوه وكادوا يقتلونه، ثم جمعوا عليه العرب قاطبة في يوم الأحزاب فضربوا عليه نطاقاً متيناً. وكانوا حملوه على الهجرة من مكة مرتين وتفرّق أتباعه عنه في المرة الأولى والتجأوا إلى الحبشة وظن الناس أنّ العرب مزهقون دعوة محمد. فماذا على الناس أن يكونوا أشد عداء لصاحب الدعوة السورية القومية الاجتماعية. وهو لا يزعم أنه آت إليهم من الله ليدعوهم إلى الله!
كما حارب أعداء المسيحيين هذه الدعوة فى المسيح وكما حارب أعداء المحمدية هذه الدعوة في محمد، كذلك حارب أعداء القومية الاجتماعية هذه الدعوة أنطون سعاده فقالوا فيه كل قول شرير ورموه بكل باطل.
إنّ الطعن في كل صاحب دعوة جديدة، وكل موجد عقيدة وكل شارع نظام جديد، هو خلة كل رجعة وطريقة كل فئة متشبثة بالوضع القائم. وإنّ من فنون الحرب الحديثة تدريب مهرة الرماة على طلب قائد الحملة وتسديد بندقياتهم إليه وتصويب المدافع إلى حيث يظن أو يعرف أنّ مركز القيادة قائم، لأن قتل القائد أو إهلاك مركز القيادة بكامله يؤدي إلى تضعضع الصفوف وانسحاق القوات المحاربة تحت إمرة القيادة المذكورة.
إلى هذه النتيجة رست السلطة الاحتلالية بتوجيه حملات حرب الأعصاب التي أصلت نارها على الزعيم وأعوانه في إدارة الحزب القومي الاجتماعي العليا. وإلى هذه النتيجة رمت الرجعية والحزبية الدينية برمي الزعيم بقذائف ألسنتها. إنها كانت تعرف لماذا كانت تطلب أن ترمي الزعيم، والزعيم كان يعرف غرض محاولاتها الأثيمة.
ولكن المسيحية والمحمدية انتصرتا في الأخير على جهالات الناس وأباطيلهم وأوجدتا حياة جديدة لأتباعهما، والرسالة القومية الاجتماعية تضيف اليوم انتصاراً جديداً عظيماً مشرقاً إلى انتصاراتها الماضية، وإن كنا لا نزعم لها صفة تينك الرسالتين الإلهتين، فإننا نؤكد أنها تستحق ما استحقتا من الانتصار، لأنها هي أيضاً، وهي تصدق لما تشابه، آخذة في ايجاد حياة جدية للأمة السورية وقوة الناس في كيف يكون الانسان أفيد للإنسان، وحبيباً إليه كنفسه.
الزوبعة، بوينُس آيرس،
العدد 86، 2/8/1946