دروس قومية اجتماعية عود على النزعة الفردية في شعبنا
طرقنا في العدد السابق (ص 156 أعلاه) موضوعاً من أهم مواضيع حياتنا الاجتماعية والسياسية، التي تضعها النهضة السورية القومية الاجتماعية على بساط البحث، ألا وهو موضوع النزعة الفردية المتفشية في الجيل السوري الحاضر. وقد ظهر مبلغ خطر هذه الظاهرة الاجتماعية على منظماتنا ومؤسساتنا ومشاريعنا العمومية من الأمثلة الواقعية المضروبة في المقال المتقدم.
وهذا الخطر يبرر كل عودة إلى الموضوع ترمي إلى كشف غوامض هذه الظاهرة وتنبيهنا إلى وجوب مكافحتها بلا هوادة واستئصال شأفتها.
النزعة الفردية تجعل الفرد وميوله غاية كل فكرة ونهاية كل عمل.
ومتى قويت هذه النزعة في الأفراد، خصوصاً الأفراد الصالحين للفكر والعمل، وتملكت من نفوسهم صارت العدو الأول لكل غاية مجتمعية و العقبة الكأداء التي تعترض نشوء النظام الاجتماعي العام.
فطبيعتها مخالفة لطبيعة الاجتماع، لأنها ترمي إلى جعل السيادة في الفرد نفسه وليس في المجتمع ونظامه.
ولما كان الأفراد غير موجودين إلا في الجماعة، كانت النزعة الفردية، التي تعدّ الفرد كل شيء في العالم، أكبر عامل تفكك وهدم لكيان الجماعة، الذي هو الكيان الإنساني الحقيقي منذ ظهر الإنسان على مسرح الطبيعة. ذلك لأن كيان
الجماعة لا يقوم إلا بخضوع أفرادها طوعاً أو كرهاً، لكيانها ونظامها، لا فرق بين أن يكون هذا النظام جيداً أو رديئاً.
وإننا نلاحظ هذه الحقيقة من درسنا تاريخ التطور الإنساني وتواريخ أنظمة الجماعات والدول منذ أقدم الأزمنة التاريخية إلى اليوم.
والأنظمة يصير تطورها وارتقاؤها ضمن دائرة الاعتراف بالنظام وتقديم حق الجماعة على حقوق الأفراد.
فنظام الجماعة يتطور ولا يلغى، ويقوم على إرادة الجماعة حسب اختيارها أو قبولها وليس على إرادة الفرد.
وإرادة الجماعة تظهر بواسطة الحكم في أشكاله المتعددة، ومن هذه الأشكال السيطرة (الدكتاتورية) القائمة على تفويض الشعب أو العموم واختيارهم، فهي المعبّرة عن الإرادة الشعبية العامة، وتبطل السيطرة أن تكون المعبّرة عن الإرادة الشعبية العامة حين تكون أو تتحول إلى طغيان فردي قائم على النزعة الفردية وميولها.
ولما كانت النزعة الفردية متفشية في جيلنا صار كل مريض بهذا الداء يعتقد أنّ سيطرة الزعامة هي نوع من أنواع التسلط أو الطغيان الفردي على بقية الأفراد، غير عابىء بوقف الزعيم نفسه على القضية القومية العامة وتفانيه في سبيلها لا في سبيل ميوله الفردية ورغباته الخصوصية.
لما كانت النزعة الفردية تحمل الفرد على حسبان أنّ ذاته هي المبدأ والمعاد، فالنتيجة الحاصلة من هذه النظرة أنّ الفرد ينظر إلى المشاريع العمومية والأحزاب القومية نظره إلى شؤون تحتاج إليه أو موجودة له.
فإذا أقبل عليها كان إقباله بأحد دافعين:
إما دافع الغيرية البحتة، وإما دافع الاستثمار.
وهذان النقيضان كلاهما هدامان للمجتمع. فالغيرية هي دائماً اختيارية انفرادية في كيان أو مجتمع لا اختياري.
إنها لا تعرف الواجب في حكم حق الجماعة، ولذلك لا يحسب نفسه ذو النزعة الفردية مقيداً بواجب دائم حتمي أو شبه حتمي. هذه النظرة تبعد بالفرد عن أغراض الجماعة، ومتى أخذت بهذه النظرة أكثرية المجتمع فتفكُّك المجتمع وانحلاله نتيجتان مؤكدتان لا مهرب منهما.
الغيرية نفسها تصبح محدودة جداً لذي النزعة الفرية، لأنها من وجهة نظره، شيء غير ضروري ويمكن الاستغناء عنه في كل لحظة.
لذلك هو يجد نفسه مطلوباً من المشاريع العمومية أو من المنظمات والمؤسسات الاجتماعية، لا طالباً لها.
هي محتاجة إليه وهو غير محتاج إليها، فإذا جاءت تسعى إليه تكرّم بالعطف عليها والاهتمام بها، لإظهار أريحيته، وليس للقيام بواجب اجتماعي حتمي لا مفرّ له منه ولا غنى له عنه.
لا مشاحة في أنّ من الأسباب التي عملت على توطيد هذه النظرة في ذي النزعة الفردية، كون أكثر الأعمال السورية العمومية التي نشأت في الماضي، واتخذت صبغة سياسية أو اجتماعية أو خيرية صدر عن أسباب فردية شخصية.
وهذا دليل آخر على استفحال أمر النزعة الفردية وشدة إفسادها للمجتمع السوري.
ومن أهم نتائج النظرة المذكورة ازدراء النظام واحتقار العرف وجعل الشذوذ عن القواعد المؤسسة قاعدة.
وهو أسوأ أنواع الانحطاط الاجتماعي وشر ضروب الانحلال القومي.
قلنا في المقال السابق (ص 157 أعلاه) إنّ فكرة التنظيم الاختصاصي هي فكرة جديدة أوجدتها في سورية والشرق العربي الحركة السورية القومية الاجتماعية.
وبيّنا أنّ هذه الفكرة لا تزال غير مفهومة الفهم اللازم، حتى عند أكثر القوميين الاجتماعيين أنفسهم، بدون استثاء المتنورين منهم. وعنينا بهم الذين لم يصهرهم النظام القومي الاجتماعي، إما لحداثة عهدهم في الحركة، وإما لعدم اختبارهم في النظام والإدارة.
وسياق المقال الحاضر يكشف لنا عن خفايا أخرى من هذا المركّب النفسي الذي تتألف منه النزعة الفردية أو الذي تنطوي عليه، كالشعور الغيري تجاه المنظمات والمؤسسات القومية والاجتماعية.
فالشعور الغيري تجاه الأعمال الاجتماعية الحيوية تجعل الفرد يحسب نفسه غريباً عن العمل إلا إذا كان العمل كله في يده ليسير به كما يشاء. والفرد يتدخل في العمل، إما بدافع إظهار الأريحية، وإما بدافع الاستغلال لمصلحة أخرى خصوصية. فإذا اصطدم منهاجه في شيء، أو في مكان، أو في زمان، عدّ ذلك جريمة ضده وطلب الانسحاب والانزواء عن العمل أو الانقلاب عليه.
ولولا هذا الشعور الغيري الخارج عن محله لرأى الفرد أنه مهما كانت أسباب الاصطدام فهو لا يتخلى عن العمل ولا يخرج على النظام والقانون. ولولا النزعة الفردية، التي هي مصدر هذا الشعور المختل، لخضع الفرد لحقّ الجماعة الممثّل في النظام، حتى ولو وجد فيه بعض الإجحاف بمنازعه الخصوصية أو بآرائه التي يتشبث بها عادة تشبثاً شديداً يؤدي إلى كثير من الاختلاف، ولعدّ نفسه أحد المسؤولين عن العمل ومصيره فلا يجوز له التخلي عنه لأي سبب شخصي.
فالنزعة الفردية تحرمه الشعور بالمسؤولية الاجتماعية، والشعور الانفرادي المكسي بكساء الغيرية يعدمه الإدراك أنه من الجماعة ومرتبط بها وأنّ شخصيته ليست سوى جزء من شخصيتها، أي أنه من العائلة ومن أهل البيت.
إنّ الاختبار في الحزب السوري القومي الاجتماعي قد أعطى نتائج هامّة لدارسي النفس وحالاتها والمسائل الاجتماعية، ومن هذه الحالات والمسائل:
النزعة الفردية وحالاتها وقضاياها.
فقد تبيّن أنّ الأفراد، غير الخالصين من النزعة الفردية، كانوا يؤيدون جميع التدابير والإجراءات المتخذة من قِبل المنظمة القومية الاجتماعية ضد غيرهم طالما الأمر لا يسهم شخصياً.
فهم يؤيدون حق الجماعة ونظام العمل العام ضد ما يعدّه الأفراد الآخرون من حقوقهم، ولكن متى اصطدموا هم أنفسهم بهذا الحق العام وهذا النظام عينهما خرجوا وانقلبوا.
ويمكن القول بتأكيد إنه لا يوجد فرد واحد مطرود من الحزب السوري القومي الاجتماعي إلا كان موافقاً قبل طرده على تدابير الطرد بحق غيره لأسباب شبيهة بالأسباب التي طرد لأجلها هو.
إنه كان يقبلها ويجد فيها العدل.
ولكنه كان يحسب ذاته فوقها فلما بلغ الحق العام إليه وحاولت المنظمة إقامة الحد عليه تمرد وانقلب وطرد.
ذو النزعة الفردية لا يعرف، ولا يريد أن يعرف، أنّ هنالك حدوداً واختصاصاً ومراتب للشؤون والأعمال، أو هو يعرف أنّ هذه الأمور موجودة ولكنه هو فوقها كما رأينا في مثل مترجم بعض الكتب المضروب في المقال السابق.
فهذا الشخص توهم أنه إذا كان يحق للزعيم أن يتكلم باسم الحزب السوري القومي الاجتماعي كله، وهو فرد، فإنه هو فرد آخر يحسب نفسه قدر عشرين زعيماً أو مقابل جميع زعماء العالم.
وليس ذلك إلا من الجهل المقرون بالنزعة الفردية، لأن الزعيم وإن كان فرداً فهو المبايع من جميع القوميين الاجتماعين ليمثلهم كلهم ويعبّر عن إرادتهم، تشريعاً وتنفيذاً، وكلمته هي كلمة القوميين الاجتماعيين جميعهم، والنظر إليه يجب أن يكون بمثابة النظر إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي كله.
هذه هي قيمة الزعيم ومنزلته وتحدي هذه المنزلة من قِبل الأفراد هو تحدٍ للحزب كله، ويدل على شدة الجهل وعماوة البصيرة بسبب النزعة الفردية المملوءة غروراً.
وفي هذه الحقيقة نجد السبب الأساسي لمخاطبة ذاك المغرور الزعيم بلقب «الرفيق» وليس بلقب الزعيم، ولمجادلته الزعيم في شؤون سياسة الحزب العليا مجادلة تبلغ مبلغ التحدي لصلاحيات الزعيم وسلطته.
النزعة الفردية المنتفخة غروراً والمشبعة من المآرب الخصوصية جعلت ذاك الشخص يشعر بأنه أعظم كثيراً من أن يقول لزعيمه:
«يا زعيمي»، أو «يا معلمي» أو «يا قائدي ماذا أقدر أن أفعل لأكون مفيداً لقضيتنا المقدسة، أو للخطة المرسومة؟» إنه يضن «بكرامته» أن تنزل إلى هذا الدرك!
وجهله مبادىء النظام الأساسية ولعدم تأدبه في الأنظمة الاجتماعية ــــ السياسية، ظن أنه موجود في الحزب لمشاركة الزعيم في صلاحياته، أو لمزاحمته عليها أو لمقاسمته إياها، غير حاسب لإرادة الحزب العامة الممثلة في الزعيم أي حساب!
ليس هذا الشخص المضروب مثلاً الوحيد في هذا التفكير.
فقد أشرنا إلى أنه واحد من كثيرين إلا أنه بزّ كثيرين في غلوه.
وفي الولايات المتحدة ظهر فرد انخرط في سلك القوميين الاجتماعيين وكتب مقالات في تأييد الحزب السوري القومي الاجتماعي والدفاع عن عقيدته ونظامه، وحمله ذلك على توهّم أنه أصبح سيد النظام ومعيّن حدوده.
فكتب مرة إلى المنفذ العام كتاباً يؤنِّبه فيه ويبيّن له الواجبات التي كان ينتظر منه إكمالها.
فأجابه المنفذ العام مستغرباً شذوذه عن قواعد النظام ومخاطبته الرؤساء بلهجة لا تتفق مع واجب المرؤوسين، ويا للمصيبة!
فما كاد الرفيق المذكور يتسلم كتاب المنفذ العام حتى ردّ عليه بكتاب تهكم لاذع، ومن جملة أقواله أنه قد لاحظ على المنفذ العام استعمال كلمة «الرؤساء» بالجمع، وأنه يجد في هذا الاستعمال محاولة التكبر، وأخذ يشرح للمنفذ العام أنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي أُنشىء لإلغاء هذه الأمور التي هي من الشؤون الماضية!
صار المأمور آمراً، والمرؤوس رئيساً، والتلميذ معلماً، والجندي قائداً، وكانت النتيجة أنّ المنفذ العام اتخذ قراراً بإيقاف ذاك العضو عن ممارسة حقوق عضويته في منطقة صلاحياته ورفع قضيه إلى الزعيم.
وأغرب من كل ذلك أنّ رفيقاً آخر صديقاً للعضو الموقوف كتب إلى الزعيم كتاباً تكلم فيه عن المسألة، كما لو كانت مسألة خلاف بين شخصين، وذكر المنفذ العام باسمه الشخصي وليس بلقب وظيفته وصلاحيته القانونية، وسأل الزعيم أن لا يكون هذا الشخص (المنفذ العام) حائلاً بين العضو الموقوف وأعماله القومية!
الأغرب بعد، أنّ صاحب هذا الكتاب الأخير إلى الزعيم أعطى الزعيم بعض النصائح والإرشادات في كيف يجب أن تكون خطة الحزب السوري القومي السياسية مع الولايات المتحدة الأميركانية!
من أعظم مصائب تفشّي النزعة الفردية في مجموعنا في المغترب وفي مجتمعنا أنها ومصاحباتها، كالنظرة المادية الدنيا، تحول دون نشوء تقاليد جديدة وعرف على أساس المناقب السامية.
فالتقاليد والعرف هي من أنظمة المجتمع وروابطه الهامّة التي تحدد موقف الفرد وتضبط تصرفاته الاجتماعية التي لا يحددها القانون.
وهذه الحالة تساعد على تمادي النزعة الفردية، لأن الفرد لا يجد في المجتمع قوة رأي عام ضد شذوذه وعبثه بالنظام وبالحق العام. لذلك لا يستحي الفرد أن يحنث بيمينه، أو أن يتخلى عن عمل قومي اجتماعي أو سياسي أو غيره، لمجرّد أنّ الأمور لم تجرِ حسبما يشتهي أو لأن يعدّ نفسه أكبر من أن يقبل حكم المنظمة ويعمل بموجبه.
ومن نتائج النزعة الفردية الطموح بغير استحقاق، وهو ما يؤدي إلى كثير من المنافسات الهدامة، لأنه مقياس للأمور والقيم عند النزعة الفردية.
النزعة الفردية لا ترى في الكون إلا صاحبها ولا تراه إلا جديراً بأرفع المناصب. فإذا شاء الفرد أن لا يطلب أرفع المناصب فذلك منّةٌ منه على الناس.
إنعدام الثقة المتبادلة والثقة بالرؤساء هو من نتائج النزعة الفردية، وفقدان الثقة هو أعظم النكبات التي يمكن أن تحلّ بكيان أو نظام.
قلنا ونكرر القول بوجوب مكافحة النزعة الفردية مكافحة شديدة على نسبة شدة خطرها. فهي من ألدِّ أعداء نهضتنا النفسيين.
أيها القارىء إقرأ هذا البحث لنفسك قبل غيرك. لا تبحث عن القذى في عين أخيك قبل أن تزيل الغشاوة عن عينيك.
أنطون سعاده
الزوبعة، بيونس آيرس،
العدد 50، 15/8/1942