شق الطريق لتحيا سورية
(نشرت مجلة الجمهور في بيروت في عددها الصادر بتاريخ 12 يوليو/تموز 1937 المقال التالي بقلم سعاده وهو يستعرض جميع الحركات السياسية والاجتماعية التي توالت على البلاد السورية حتى نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي ونعيد نشره الآن لأن فيه علاجاً لقضايا الأمة وأساساً للتخطيط القومي الجديد على نور مبادئ النهضة القومية ونظرياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وإننا نلفت النظر إلى هذه المقالة بنوع خاص لأنها مصدر جميع مظاهر التفكير الاجتماعي الاقتصادي السياسي الجديد في وطننا، حتى أنّ مؤسسات معادية للحزب السوري القومي الاجتماعي كالحزب الشيوعي تقتبس من هذه المقالة كل ما تعالج به القضايا الداخلية كقضية الرأسمال الأجنبي وخطورتها. والظاهر أنّ الزعيم قد وضع في هذه المقالة تمهيداً لخطوط التطورات السياسية الاقتصادية في الدولة القومية الاجتماعية المقبلة خصوصاً القسم الأخير تحت عنوان “النهضة القومية وصعوبات الحالة الراهنة”:)
أخيراً وجدت الأمة السورية نفسها في النهضة القومية الاجتماعية التي أوجدها وقادها الحزب السوري القومي الاجتماعي. ومتى وجدت أمة نفسها فقد وجدت حقوقها ووجدت السبيل إلى هذه الحقوق.
منذ فقدت سورية سيادتها الملطقة، بزوال الإمبراطورية السورية (السلوقية)، ومنذ عادت ففقدت سيادتها النسبية بفشل العباسيين الذين سهلوا زوال السلطة من أيدي السورين وبطلان كون سورية مركز الدولة الدينية في الإمبراطورية الإسلامية، تعاقبت على سورية قرون من الخضوع للسيادات الأجنبية المتوالية عليها فأفقدت أهلها كل معنى من معاني القومية والسيادة القومية، وساعد اختلاف المذاهب الذي منيت به على إفقادها كل سبب من أسباب الوحدة الاجتماعية والسياسية وكل طموح إلى القوة السياسية التي يجدر بها الحصول عليها. وكان من نتائج تعاقب عصور الخضوع وحلول التصادم الاجتماعي الداخلي، المسبّب عن تزاحم الجماعات الدينية، محل التعاون الاجتماعي الذي هو الطريقة الأساسية لحفظ حياة المجتمع وشخصيته وتأهليه للتقدم في مراقي العمران والتمدن، أنّ الأجيال السورية أخذت تتوارث أمراً مفعولاً وحالاً راهنة فتحسبهما حادثين طبيعيين لا مفرّمنهما وتجتهد في توفيق حاجاتها لهما، فرأت الطبقات العليا أن تبحث عما يرضي المسيطر الأجنبي فتفعله، بائعة مصالح الطبقات العاملة، وسلّمت الطبقات الدنيا أمرها للقدر.
في هذه الحال التي عرفت فيها الأمة السورية استعبادين: الخضوع للإقطاعي المتحكم في رقاب الفلاحين وخضوع مجموع الأمة للطاغية الأجنبي، نام الوجدان القومي في سورية نومه العميق وأضاعت الأمة شخصيتها في الشخصيات الدينية المتضاربة المصالح وفي المؤسسات اللاقومية. وفي أثناء نوم الوجدان القومي ظلت المؤسسات الاجتماعية العتيقة مستمرة في عملها الكلاسيكي حتى كادت العقلية السورية تتحجر تحت مؤثراتها المحدودة الخالية من أي منبّه أو حافز لتجديد الحياة، وظلت الأمة السورية في غفلة عن أخطار تنازع الحياة والتفوق بين الأمم.
تحت هذا النير المزدوج من الخضوع وقفت الثقافة السورية عند الحد الذي كانت قد بلغته. فلم يحدث في سورية أي تطور جديد، لا في الثقافة المادية ولا في الثقافة النفسية، فلا الزراعة اكتسبت شيئاً ولا الصناعة زادت ولا العلم ازداد ولا الفنون الثقافة النفسية، فلا الزراعة اكتسبت شيئاً ولا الصناعة زادت ولا العلم ازداد ولا الفنون ارتقت. وظلت الحياة تجري ضمن مؤسسات المذاهب الدينية والإقطاع، ومشيخة العشائر في بعض الأنحاء، فلا يفتح سوري عينيه إلا على طائفته أو عشيرته أو سيده. وكان أساس الحياة الاجتماعية: إما الطائفة وإما العشيرة. وكان أساس الحياة الاقتصادية الرق الإقطاعيع وبعض المهن الحرة والتجارة التي لم تكن تستند إلى صناعة محلية.
إنّ نتيجة نظام اجتماعي أولي هي بقاء الحياة في حالة أولية. وعدم تجدد المؤسسات الاجتماعية يعني اطراد الحياة على وتيرة واحدة وتحجّر الأنظمة الاجتماعية. ومما لا شك فيه أن مؤسسات حياتنا الاجتماعية المذكورة آنفاً هي مؤسسات عتيقة لا تصلح لحاجات الأمة إلا إذا بقيت الأمة جامدة لا تريد أن تتقدم خطوة واحدة عن الحد الذي كانت قد بلغته في العصور القديمة.
والواقع أن الأمة السورية ظلت جامدة بينما الأمم الأخرى ترتقي في تحسين حياتها وعمرانها وثقافتها. وكانت النتيجة أن انعدمت المثل العليا النفسية انعداماً تامًّا وأصبحت الحاجات الأولية محور الحياة.
ولما آذنت السلطنة العثمانية بالتفكك اتجهت أنظار الدول الكبرى إلى سورية وابتدأت تنشئ معها علاقات ثقافية فكانت البعثات الدينية والعلمية. وكان هم هذه البعثات بذر بذور آداب الدول التي تنتمي إليها ودعاواتها فتزاحمت تزاحماً شديداً، وكانت كل واحدة منها تعلّم السوريين عظمة أمتها وتاريخها وجغرافيتها فتحببها إليهم وترهبهم بعظمتها. واتفقت هذه البعثات كلها على تعليم السوريين المبادئ الإنسانية العالمية وكره الحرب وعلى إظهار ضعفهم المادي والمعنوي بالنسبة إلى أممها العظمية الغنية بمواردها، القوية بمعدّاتها. فأخرجت الثقافة الاستعمارية في سورية طبقة مثقفة خالية من المثال الأعلى القومي، مجرّدة من الثقة بمواهب الأمة السورية الممتازة، معترفة بعدم جدارة السوريين بالتشوق إلى السيادة القومية، مقتنعة بأن الحال الراهنة أمر إلهي أو طبيعي لا مندوحة عنه ولا سبيل إلى تغييره، مستشهدة بمركز البلاد الذي يجعلها مطمح أنظار الدول القوية وبتعدد سلالات الأمة وأديانها، منتهزة كل فرصة لإقامة الدليل على عدم جدارة الأمة بالنهوض وعدم أهليتها للتطلع إلى الاستقلال.
كل ذلك أسباب عملت على إبقاء السوريين في حال جماعات متفرقة متنابذة تتحرك بدوافع الحاجات الاقتصادية الأولية وتزاحم بعضها بعضاً من أجل هذه الحاجات، وعلى استنفاد المواهب السورية العالية وقوى السوريين في أعمال الاقتصاد الفردي أو العائلي، وفي سياسة العائلات والطوائف.
النهضة الرجعية
بيد أنّ الأمر لم يطل على تزعزع السلطنة العثمانية وابتداء احتكاك السوريين بالأمم العصرية في الغرب حتى أخذ التململ من الحال الراهنة يظهر بجلاء، وأخذ الضغط النفسي والاقتصادي يطلب مخرجاً فخرجت من المؤسسات العائلية والدينية فئة رأت المخرج في الرجعة إلى الدولة الدينية التي لا تزال المؤسسات الدينية تذكرها وتحنّ إليها، إلى دولة هرون الرشيد وما تركته من تقاليد الإدارة المعلقة بمشيئة أمير المؤمنين ورغبته الصادرة عن هوى نفسه. ومع أنّ عصر الدولة العباسية آذن بذهاب السيادة من السوريين وصار فاتحة انحطاط الحضارة والثقافة السوريتين فإن بعث النظام السياسي الديني كان المثال الأعلى للنهضة التي أطلق عليها أخيراً إسم النهضة “الوطنية” وتزعّمها نفر من الإقطاعيين وأبناء الإقطاعيين المتعلمين وعدد من النفعيين الراقين. وكان من عجز هذه “النهضة” عن إدراك الأساس القومي للحياة السياسية والاقتصادية أنها شيّدت صرحها على أساس إنكار القومية السورية وخلطها بين القومية والعصبية الدينية وبين معنى الأمة ومعنى العالم الثقافي أو اللغوي، وأنها أمنت على التعاليم المنافية لمصلحة الأمة ومعنى العالم الثقافي أو اللغوي، وأنها أمنت على التعاليم المنافية لمصلحة الأمة السورية القائلة إن سورية ضعيفة، فقيرة، يعرّضها مركزها لمطامع الدول الاستعمارية، لأنها “الجسر” بين الغرب والشرق. ونادت فئة بأنه لا نجاة لسورية إلا إذا دفنت شخصيتها في شخصية نظام سياسي أسموه “الإمبراطورية العربية” ونادت فئة أخرى بأنه لا يستقيم أمر البلاد إلا إذا أخضعت الدولة تؤمّن حقوق الأقليات أو تجزّئ البلاد إلى دويلات على أساس ديني.
أنشأت هذه “النهضة” مؤسسات الشركات السياسية المحدودة أو المغفلة التي سارت في عهد الانتداب على خطة المناورات الاعتباطية، وهي خطة كلّفت الشعب السوري خسارة قسم كبير من مصالحه وموارد ثروته ولم تمسّ نظامه الاجتماعي والاقتصادي لا بقليل ولا بكثير لا نظريًّا ولا عمليًّا. وقد عملت هذه الشركات تارة باسم “كتلة” وطوراً باسم “جمعية” وآناً باسم “حزب” وآونة باسم “عصبة” وحيناً باسم “مؤتمر” مضيفة إلى هذه الأسماء نعت الوطنية أو أي نعت له جاذبيته عند العامة السليمة الطوية. وجميع هذه الشركات عملت برأسمالها الخاص، ولحسابها الخاص، ولذلك بقيت “نهضتها منحصرة في ذاتها، لا تتناول الشعب بتربية ولا بتنظيم.
كان أبرز ظاهرة سياسية في هذه النهضة الرجعية أنها كانت تستمد حيويتها الضعيفة، غير الجديرة بالحياة، من العصبيات الدينية التي كان لا يزال لها بقية في نفس الشعب بعامل الاستمرار. وكان من نتائج هذه النهضة الرجعية أنّ سورية المشمولة بالانتداب الفرنسي انقسمت إلى دويلات مؤسسة كل واحدة منها على أساس مذهب ديني غالب فيها، وانّ سورية المشمولة بالانتداب البريطاني انقسمت إلى دولتين ومنطقة معلقة المصير تستثمرها بعض هذه الشركات.
وكان أبرز ظواهر هذه النهضة الرجعية من الوجهة الاجتماعية: التصادم الاجتماعي والسياسي والأنانية العمياء، والفردية الرعناء. وقوّتها كامنة في استثارة الغوغاء واستثمار هياجه، ووسائلها استئجار الصحف أو مراسلي الصحف والخطابة في الجوامع والكنائس.
الرأسمال والشيوعية
وسط الفوضى والبلبلة اللتين أثارتهما النهضة الرجعية أخذت قوتان مضادتان تمدّان حياتهما أمام الأمة الحائرة المشعثة النظام لتوقعاها، وهاتان القوتان هما: الرأسمالية والشيوعية.
ولقد كان الرأسمال اسبق إلى التكوّن في سورية. وكان بعد تكوّنه أكثر ما يكون قناعة بالحال الراهنة واشد ما يكون خوفاً من انقلابها. فلم يتحرك الرأسماليون السوريون لنهضة أو لأمر، بل تركوا الأمور تجري في أعنّتها وعملوا على تكييف أنفسهم للحال الراهنة واستثمارها مدفوعين بعامل الأنانية العمياء والمصالح المستعجلة.
أما الرأسمال الأجنبي فهو قد وجد في حالة الفوضى والتفسخ القومي مقاتل الفريسة التي يطلبها، فسارع إلى إنشاب مخالبه فيها. وليس يحسب الرأسمال الوطني شيئاً بالنسبة إلى الرأسمال الأجنبي الذي استولى على أهم مرافق حياة الأمة وأمسكها من خناقها ووضع لعبوديتها سلاسل وقيوداً وأغلالاً. وتواطأ الرأسمال الأجنبي مع الرأسمال الوطني والنفعية والأنانية مع ذوي المصلحة في الحكم.
وسارت الامتيازات وفساد الادارة والأنانية الجاهلة يداً بيد وبيعت مصالح الأمة بالمزايدة السرّية. وجرت إذاعات النهضة “الوطنية” تحثّ الشعب على تأييد الصناعة الوطنية والإقبال على مصنوعاتها، فكانت “الوطنية” وسيلة من وسائل الرأسمال الوطني المساهم في “النهضة الوطنية” لاستثمار عواطف الشعب واستغلال وطنيته وقوميته.
وجاءت الشيوعية مع الجوالي الأجنبية تزيد الطين بلّة، وقد جلبت معها النظرة الأفقية في المسائل الاجتماعية وهي النظرة اللاقومية القائلة بحرب الطبقات في جبهة عامة من العمال التي لا ترى وطناً ولا تعرف قومية ولا تشعر بعصبية غير عصبية الطبقة. ولم تأتِ الشيوعية سورية بغير الحركة السياسية التي تديرها موسكو. فإن النظريات والمبادئ الشيوعية نفسها لا أثر لها في البلاد سوى النشرات الحاثّة العمال على الثورة وعلى محاربة الفاشستية الألمانية التي تحولت كل جهود موسكو والشيوعية الإنترناسيونيةإلى مهاجمتها بعد ظهور التضارب في المصالح الروسية والألمانية.
وإذا كان الرأسمال الوطني قد أصبح صنيعة الرأسمال الأجنبي، فإن الشيوعية الوطنية ليست سوى صنيعة الشيوعية الإنترناسيونية. ولعل أعظم ما تطمح إليه الشيوعية العملية تأسيس حكم الشيوعية السياسية ونقل امتيازات الإقطاعيين إلى الطبقة الشيوعية الحاكمة.
ومع كل مظاهر التنافر بين الرأسمالية والشيوعية فالمذهبان يتفقان في اللاقومية، وتختلف لا قومية الواحدة عن الأخرى نوعاً، فعصبية الراسمالي في رأسماله وعصبية الشيوعي في طبقته. ولسنا هنا في مقام تشريح النظرة الشيوعية الخطرة على الأمم في عالم أو عصر، أظهر مظاهره حياة الأمم وتنازعها الحياة والتفوق، ولا في بحث المذهب الرأسمالي وخطره على معنوية الأمة واقتصاد الدولة وسياستها، ولكننا نكتفي بتسجيل سوء أثرهما في حياة الأمة السورية وحيلولتهما دون استيقاظ الوجدان القومي وإعادة تنظيم المجتمع السوري تنظيماً يعطيه التجانس والحيوية الضروريين لتقدمه ورفع مستوى حياته.
النهضة القومية
قامت النهضة “الوطنية” (الرجعية) على المبادئ الآتية:
1 – إنه ليس في سورية أمة.
2 – سورية بلاد صغيرة لا تتمكن من الصمود لعدو ولا تقدر على الحياة مستقلة.
3 – عدم التعرض للنظام الاجتماعي الداخلي.
4 – الدين أساس الدولة.
5 – الاعتراف بصلاحية رجال الدين للتدخل في شؤون البلاد السياسية والإدارية والقضائية.
6 – توفيق الرغبات لمجرى الارادة الأجنبية.
7 – عدم التعرض لمسألة مستوى الحياة.
8 – المصلحة الفردية أساس كل مصلحة.
وقد توفقت هذه النهضة إلى ايجاد مؤسسة واحدة هي مؤسسة الشركة السياسية المحدودة التي وضعت يدها بيد الرأسمال خصوصاً الرأسمال الأجنبي. وتوفقت إلى تأسيس دويلة في الشام دين رئيسها المحمدية، وتأسيس دويلة في لبنان يتنازعها نفوذ البطريركية المارونية والمؤسسات المحمدية ودويلة في ما بين النهري ملكها من نسب الرسول، وجعل مفتي فلسطين مرجع الحركات السياسية في هذه المنطقة.
أخيراً انبثق فجر النهضة القومية التي جاءت تنقض تعالم “النهضة الوطنية” الفاسدة وتحلّ محلها تعاليم قومية تظهر الشخصية والنفسية السوريتين وتوقظ الوجدان القومي، أول خطوة نحو التحرر من الخمول والقضاء على خرافة “الوطنيين” القائلة ان لا أمة في سورية.
كان انبثاق هذه النهضة المحييه فكرة فاعلة اتخذت شكلاً سياسيًّا في خريف 1932، حين أسفرت المحادثات مع بعض الطلبة في الجامعة الأميركانية عن اعتناق المبادئ التي تأسس عليها الحزب السوري القومي الاجتماعي، ومنذ ذلك الوقت وحركة الحزب السوري القومي الاجتماعي تعمل في طول سورية وعرضها جاذبة ألوف الشبان والشابات إلى الإيمان القومي المحرر النفوس من عبودية الاستسلام للحال الراهنة ومضاربات الشركات السياسية مكونة منهم، لأول مرة في التاريخ الحديث، إرادة قوية واحدة ومصلحة قومية واحدة.
إنّ إيقاظ فكرة الأمة غيّر كل مقاييس القوة الكامنة في الشعب السوري الغني بمواهبه الفطرية، وفتح أمام الأمة السورية مجالاً لعدد لا يحصى من الممكنات العملية، لقتل الدعاوات الأجنبية الفاسدة وتغيير التاريخ ونقض الأمر المفعول الذي يضع سورية في عداد الأمم الميتة وبحسبها مغنماً من مغانم تركة “الرجل الذي احتضر”، في حين أنه ليس سوى حادث من حوادث التاريخ.
إنّ النهضة السورية القومية الاجتماعية تضع تجاه التسليم بالحال الراهنة نظرية تقول: إنه إذا كان التاريخ قد تغيّر مرة ففي الإمكان أن يتغير مرة أخرى وإذا كانت حوادث تاريخية معيّنة قد أفقدت سورية إمبراطورية الهكسوس وإمبراطورية صور وقرطاضة وبابل وأشور والإمبراطورية السورية (السلوقية) وزعامة الإمبراطورية المحمدية، فإن حوادث تاريخية معيّنة جديدة تدفع سورية مرة أخرى إلى مرتبة أمة حية وقوة سياسية يجب أن يراعى حقها في الحياة. هذه الحوادث التاريخية المعيّنة الجديدة هي حوادث النهضة السورية القومية الاجتماعية.
شقت النهضة السورية القومية الاجتماعية أمام سورية طريق القومية والمبادئ الاجتماعية، وهي الطريق التي تخرج قوى الأمة الجديدة من مكامنها لتسير عليها في تقدم مطرد، نحو المستوى الأعلى والحياة المثلى.
تمكن الحزب السوري القومي الاجتماعي من شق الطرق لتحيا سورية بفضل مبادئه التي توجد الوحدة القومية على أسس راسخة وروحية نهضته المولدة إرادة في الحياة لن تحول دون نفاذها كل شعوذات الإرادات المعادية، الرامية إلى إقرار الحال الراهنة على أساس تثبيت مجحف بحقنا في الحياة ومصلحتنا.
إنّ النهضة القومية الاجتماعية تعترف بأنه ليس أفضل من تنازل بعض الأمم عن حقهن في الحياة لتوطيد سلام دائم وبأن سورية ليست ولا تريد أن تكون من هذا البعض. وهي ترفض التسليم بإخضاع الأمة لحوادث التاريخ.
إن وضع العصبية القومية موضع العصبيات الدينية والعشائرية أنقذ الحيوية السورية من فوضى التجزئة، وأطلق قوة روحية عظيمة لا حدّ لممكناتها، وأقام في المجتمع السوري نظام التعاون بدلاً من نظام التصادم الذي أسسته النهضة الرجعية، التي أطلق عليها خطأ نعت “الوطنية”، وأحلّ مصلحة الأمة محل مصلحة الفرد، التي يقول بها النفعيون والرأسماليون ومحل مصلحة الطبقة التي ينادي بها الشيوعيون.
1 – سورية للسوريين والسوريون أمة تامة.
6 – الأمة السورية مجتمع واحد.
8 – مصلحة سورية فوق كل مصلحة.
4 – (إصلاحي) إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة.
هذه مبادئ أساسية للنهضة القومية الاجتماعية التي بعثت الأمة السورية حية وهي ذات معنوية عظيمة في هذه النهضة. ففي الأول ينقض السوريون القوميون الاجتماعيون حكم الحقوق المكتسبة من عوارض التاريخ. وفي المبدأ السادس يضع السوريون القوميون الاجتماعيون فكرة المجتمع السوري مكان فكرة الطائفة أو العشيرة وهو مبدأ ذو فاعلية عظيمة في توحيد الأمة توحيداً ثابتاً راسخاً. وفي المبدأ الثامن يعلن السوريون القوميون الاجتماعيون صراحة أنه متى بلغت الأمة مفترق طريقين تؤدي الواحدة منهما إلى الفناء وتؤدي الأخرى إلى الحياة والارتقاء فليس هنا الزمان والمكان لتبشيرها بالسلام الانساني والإخاء البشري وتنازع الطبقات في مذهب اللاقومية. وفي الرابع الإصلاحي يوجد أساس جديد للمجتمع وفاعليته يكسبه قوة جديدة وصحة وسعاده.
النهضة القومية وصعوبات الحال الراهنة
إن صعوبات الحال الراهنة هي الحصن الذي تتمركز فيه النهضة الرجعية على أمل أن تصدّ تقدّم النهضة القومية الاجتماعية، لأن تقدمها يعني القضاء على الرجعية العاملة على استثمار الأمة وتركها في تفسخها.
توجه النهضة الرجعية إلى النهضة القومية أسئلة تعجز هي، لعقمها، عن إيجاد جواب إيجابي لها، ظانّة أنّ العقم وفقد الإيمان القومي صفتان متلازمتان لكل نهضة، حتى وإن كانت صحيحة. ومن هذه الأسئلة النموذج الآتي:
هل تقدر سورية، على صغرها وقلّة عدد سكانها وفقرها، أن تستقل وتؤمن استقلالها وتحمي حدودها؟
وبديهي أن لا تتمكن الرجعة من إيجاد الحل الإيجابي لهذا المسألة لأن الرجعة جاهلة موارد الأمة السورية وقوّتها المخزونة، وجاهلة مبادئ القوة السياسية والنظام السياسي والاقتصادي العام في العالم.
أما النهضة القومية فقد وجدت الحل الإيجابي لهذا السؤال وغيره. فإن في سورية موارد للثروة عظيمة جداً كالبحر الميت، الذي يقدّر بملايين ضخمة العدد والنفط ومعادن أخرى. وإذا علمنا أنّ ثروة سورية الزراعية وحدها يمكن أن تتضاعف ثلاث وأربع مرات مضاعفة، أدركنا أنّ سورية ليست باقية في فقرها إلا بسبب الشعوذة الوطنية التي قامت بها الحركة الرجعية فصرفت حيوية الأمة في غير مصلحتها. وأما من حيث عدد السكان فسورية الجغرافية تتسع لنحو خمسين مليوناً يمكن بلوغها في مدة غير طويلة من إدارة يومية اجتماعية! أضف إلى ذلك ما يمكن النهضة السورية القومية أن تكسبه من القوة السياسية باشتراكها في النظام السياسي – الاقتصادي العام.
لا تكتفي النهضة القومية الاجتماعية بهذه الممكنات العملية، فإن القوة النفسية التي أطلقتها في الأمة السورية قد رفعتها من درجة الانهماك في الحاجات الاقتصادية الأولية وإدراك أولي للحاجة الاقتصادية إلى مرتبة فهم الحاجة السياسية وإدراك القوة السياسية التي ستمكنها من بلوغ السيادة وتأمين الدولة الاجتماعية.
إنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي قد رفع الأمة السورية من حال مجتمع يشعر بالضيق الاقتصادي والفقر والنكبات إلى حال مجتمع يتمكن من تعيين مصالحه بالنسبة إلى المصالح الأجنبية ويأخذ الأهمية للثبات في مجال تنازع الحياة والتفوق. وإنّ الطريق، التي شقّتها النهضة القومية لإبلاغ سورية القوة السياسية والاقتصادية ستصيّر مركز سورية الجغرافي، الذي كان فيما مضى سبباً في ضعفها وفقدان سيادتها، سبباً في قوة سورية السياسية. إنّ لمركز سورية الجغرافي أهمية إنترناسيونية ستعيده موضع قوة لنهضة سورية القومية الاجتماعية.
إنّ الطريق قد شُقّت والأمة تسير نحو مثالها الأعلى وإنها لبالغته.
انطون سعاده
نشرة عمدة الإذاعة، بيروت،
المجلد 3، العدد 9، 31/10/1947