صحفي سوري في البرازيل يتحدث عن الثورة
الثورة البرازيلية:
رغبت إليَّ جريدة «القبس» الغرّاء أن أتحدث إلى قرائها عن الثورة البرازيلية الحالية فنزلتُ عند رغبتها شاكراً لها إيجاد هذه الفرصة لقول كلمة بشأن بلاد تضم جالية سورية كبيرة تُعد بالألوف في وقت من أحرج أوقاتها.
الحقيقة أنّ أنباء الثورة البرازيلية قد فاجأتني، كما فاجأت العالم الخارجي، وكما لا بدّ أن تكون فاجأت الكثيرين من سكان البرازيل أنفسهم. فقد تحدّث القوم هناك كثيراً عن الثورة أثناء الانتخابات الأخيرة لرئاسة الجمهورية وعدَّها بعضهم أمراً لا بدّ عنه. ولكن الانتخابات انتهت على سلامة، ولم يبدُ في الأفق شيء من دلائل العاصفة المنتظرة، واعتقد المجموع أنّ الثورة أصبحت في خبر كان، ومال عن الافتكار بها إلى انتظار السياسة التي سيتمشى عليها الرئيس المنتخب الدكتور جوليو برستس. بيد أنّ انفجار الثورة، على هذه الكيفية، يدل على أنّ أقطاب الحزبين المعارضين، حزب التحالف الحر والحزب الديموقراطي، لم يرتاحوا إلى نتيجة الانتخابات، فسعوا إلى الثورة بحجة أنّ التصويت في الانتخابات لم يخلُ من التزوير واستعمال القوة من جانب الحكومة ــــ وهي حجة يوافقهم عليها قسم كبير من الشعب والصحافة المعارضة والمحايدة ــــ أو بحجة جديدة لا أعرف عنها شيئاً عن هذا البعد.
مهما يكن من شيء فلا بدّ من حصر تعليل الثورة في البرازيل نفسها، أي أنه لا يجوز القول بأن الثورة البرازيلية نشبت بالعدوى من الأرجنتين أو بوليفيا أو أي بلاد أخرى في أميركة الجنوبية، فإذا كانت بلدان أميركة الجنوبية تتشابه في الوضعيات السياسية والأحوال الاجتماعية والعمرانية فهي بلدان يعالج كل شعب من شعوبها قضيته الداخلية على حدة. ولم تكن البرازيل في حاجة إلى أسباب خارجية للقيام بالثورة، وليست الأسباب ما فاجأتني به الثورة، بل هي قضية الظروف والأسباب المباشرة التي ليس عندي شيء من خبرها، إذ إني تركت البرازيل والجو فيها هادىء بعد أن كنت أتوقع رؤية لهيب الثورة يندلع فيها، وأنا هناك، لكثرة ما لهجت الألسن بها منذ بضعة أشهر أو ما يقارب السنة.
نوع الثورة البرازيلية:
ليست الثورة البرازيلية ثورة مبادىء ضد مبادىء أخرى، كالديموقراطية والأرستوقراطية، بل ثورة أساليب ضد أساليب، أي أنها ليست ثورة لتغيير نوع الحكم، بل ثورة لتغيير تنفيذ الحكم وأساليب مباشرة الحكم، أي أنها ثورة أحزاب جديدة ضد حزب قديم.
منذ تحويل الامبراطورية البرازيلية إلى جمهورية تولّى السير بالبلاد على المبادىء الديموقراطية «الحزب الجمهوري»، الذي أدى للبلاد في أوائل عهده خدمات جلى، وظل الحزب الجمهوري «الحزب الوحيد» في البلاد إلى بضع سنين خلت حين أنشىء في سان باولو «الحزب الديموقراطي»، وأنشىء في ريو غراندي دو سول حزب «التحالف الحر». فقام هذان الحزبان ينتقدان أساليب الحزب القديم ويوضحان عجزه عن مجاراة مقتضيات العصر وسد حاجات البلاد وتوفير أسباب تقدمها. والظاهر أنّ الحزبين المشار إليهما لم يحتاجا إلى طويل عناء للوصول إلى مواطن الضعف ومواضع الخلل في إدارة الحزب الجمهوري وإيضاحها للشعب الذي كان قد ابتدأ يدرك من تلقاء نفسه أنّ الأمور يجب أن تكون أفضل مما هي عليه. وأخيراً، أخذت الصحف المعتدلة نفسها، تلقي على الحكومة (والحكومة يقوم عليها الحزب الجمهوري) تبعة كثير من الشؤون الاقتصادية والمالية والقضائية.
الحقيقة أنّ وجود حزب وحيد في البرازيل، لا ينازعه على مناصب الدولة فيها منازع ولا ينتقد أعماله منتقد، جعل للمناصب والوظائف الدولية الأهمية الأولى عند أعضائه المقتدرين، ومن البديهي، في مثل هذه الحال، أن يكون النفوذ الشخصي والعائلي، لا الكفاءة والمقدرة الحقيقيتان، المعول عليه في تقرير المناصب والوظائف. لأنه ما زالت خطة الحزب واحدة لم يكن حاجة إلى الاهتمام بالبرامج السياسية والاقتصادية، الأمر الذي لم يخلُ من نتائج سيئة ابتدأت آثارها تظهر وتؤثر على أحوال البلاد الاقتصادية والمالية.
أسباب الثورة:
البرازيل تجني الآن الثمار الرديئة التي أثمرها وجود حزب وحيد فيها طيلة سنين عديدة. فلما أخذت الأحوال الاقتصادية تترجرج، وأصبحت البلاد عرضة للأزمات الشديدة، ابتدأ الشعب يتململ ويتذمر. وساعد على تذمره خلو البلاد من أحزاب تعالج قضاياه وتتسابق إلى تحسين أحواله، فكان من وراء تلك الحالة أنّ بعض ذوي النفوذ والمطامع كانوا يقومون بثورات عسكرية وغير عسكرية متظاهرين بمظاهر الأبطال المدافعين عن حقوق الشعب، ولكنهم كانوا أكثر الأحيان يفشلون بعد أن يكبِّدوا الحكومة والبلاد خسائر كثيرة. وظلت الحال، على هذا المنوال، إلى أن تنبّه بعض السياسيين إلى ضرورة إيجاد قوى شعبية جديدة تدخل ساحة المباراة وتولد نهضة سياسية جديدة في الأمة، وسرعان ما تكونت هذه القوى في حزب التحالف الحر والحزب الديموقراطي، فشعر الحزب الجمهوري بأهمية الحدث وابتدأ يتخذ الاحتياطات للمحافظة على مركزه والدفاع عن خطته، فهو الحزب المحافظ. ومن ثم ابتدأ أن يكون للبرازيل حياة سياسية بالمعنى الصحيح، فلم تعد السياسة مقتصرة على طبقة العائلات الكبيرة ذات الجاه والنفوذ كما كانت الحال على عهد الحزب الوحيد، بل أصبحت من حقوق كل برازيلي يمكنه أن يقرأ ويتتبع سير قضية بلاده، بل أصبحت من واجبات أفراد الشعب جميعهم. هذا الحدث المهم وضع الشعب البرازيلي في عداد الشعوب السياسية في العالم، وقد كان قبل ذلك شعباً يتصرف بمقدراته حزب واحد لا يحصي عليه أعماله أحد سواه.
منذ ذلك الحين ابتدأ التطاحن بين القوى الجديدة والقوى القديمة، فقامت الأحزاب الجديدة تنتقد سياسة الحزب الجمهوري وتقول بجعل التصويت مباشراً سرياً لضمان حرية المنتخبِين وصونهم من الوقوع تحت تأثير ذوي الأغراض، وقام الحزب الجمهوري يدافع عن سياسته وعن طريقة التصويت العلنية المتبعة إلى الآن. وكانت الانتخابات الأولى التي تلت ثورة سان باولو العسكرية سنة 1924، والأحزاب الجديدة لذلك العهد لم تزل في بدء وجودها فأسفرت عن فوز الحزب المحافظ فوزاً كبيراً. ولكن أعقب ذلك الفوز ابتداء الأزمة الاقتصادية الهائلة التي شلت حركة التجارة والصناعة البرازيليتين شللاً أخذ بتزايد سنة فسنة، وكثرت الانتقادات على سياسة حكومة واشنطن لويس التي ضحَّت بالمصالح التجارية والصناعية والزراعية من أجل توطيد قيمة العملة البرازيلية، كما تقول الانتقادات المذكورة. وأخذت فئات جديدة من الشعب تنضم إلى صفوف الحزبين الجديدين وهي ترجو أن يكون الفرج على أيديهما، فنما هذان الحزبان في خلال أربع سنين نمواً عظيماً.
التطاحن السياسي:
كانت الانتخابات الأخيرة، المعركة السياسية الحقيقية الأولى في تاريخ الجمهورية البرازيلية، فقد اتفق فيها الحزبان الجديدان على مناوأة الحزب المحافظ، ورشَّحا الدكتور جتوليو فرغس رئيس ولاية ريو غراندي دو سول لرئاسة الجمهورية، ضد الدكتور جوليو برستس رئيس ولاية سان باولو، الذي رشحه الحزب الجمهوري بإيعاز الدكتور واشنطن لويس رئيس الجمهورية الحالي، الذي تنتهي مدة رئاسته في الشهر القادم.
في هذه الأثناء، في أوائل هذه السنة أخذت الإشاعات تتكاثر عن إمكان وقوع ثورة وعن قرب وقوعها. وكانت الإشاعات المذكورة ترتكز على أنه لا بدّ لحزب الحكومة من أن يلجأ إلى التزوير واستعمال الطرق غير المشروعة للحصول على الأكثرية، فيما لو رأى نفسه في مركز حرج، وأنّ الأحزاب المعارضة لا بدّ أن تلجأ حينئذٍ إلى القوة التي لا تبقى وسيلة غيرها لتأييد حقوق المنتخبين الحقيقيين. وقد قابلت الحكومة تلك الإشاعات بحزم، وقال الناس إنها ابتدأت تستعد للطوارىء، فزادت معاشات أفراد الجيش وأنفقت بسخاء على الاستعدادات الحربية، فضلاً عن المقادير الكبيرة التي بذلتها للدعاية، وكان المعارضون يستثمرون هذه الأقاويل لزيادة تنفير الشعب من الحكومة وحزبها. وكان في جملة ما اتَّهمت الأحزاب المعارضة الحكومة به أنها أخذت تعطي الأجانب أوراق الهوية البرازيلية وتخوِّلهم حقوق الانتخاب على شرط أن يكون تصويتهم في جانبها، وقد رسموا لذلك صوراً هزلية علقوها في الساحات العمومية.
كان من وراء ذلك كله أنّ الناس أخذوا يتخوفون حقيقةً من نشوب ثورة هائلة تجتاح البلاد كلها، فابتدأوا هم أيضاً يستعدون لمقابلة الحوادث، فاحتاطوا بالمؤن وامتنعوا عن بذل المال ووقفوا ينتظرون على حذر، فشُلّت من جراء ذلك الحركة التجارية شللاً يكاد يكون تاماً وساءت أحوال التجار كثيراً. وفي هذا الدور أصيب كبار التجار السوريين، الذين لم يكونوا قد سقطوا بعد، بالإفلاس وحلّت بالجالية السورية الخسارة العظمى.
انتهى التصويت وأُعلنت نتيجة الانتخابات التي كانت في جانب حزب الحكومة، ولم يبدُ للثورة أثر، فقيل حينئذٍ إنّ ا لثورة ستنشب حين فحص أوراق التصويت وظهور التزاوير الهائلة. وظلّت النفوس منقبضة ولكن اللجان الفاحصة انتهت من عملها، ورغماً مما أذاعته الصحف المعارضة وبعض المحايدة وصرّح به فريق المعارضة من اكتشاف تزاوير كثيرة، لم تنشب الثورة. وابتدأت مخاوف القوم تضمحل رويداً، وعاد الناس إلى انتظار نتيجة السياسة التي ستتمشى عليها حكومة الرئيس المنتخب، والتهوا حيناً بالمفاوضات التي دارت حول عقد قرض قدره عشرون مليون ليرة إنكليزية في لندن.
نشوب الثورة:
لم توافنا الأنباء البرقية بشيء يمكن أن يُستشف منه أسباب الثورة البرازيلية المباشرة، بعد أن ظن الناس أنّ زمنها قد مضى، وبعد أن قام الرئيس المنتخب برحلة طويلة في الخارج. والظاهر أنّ الفريق المعارض للحزب المحافظ، أو بعض ذلك الفريق، لم يرضَ عن نتيجة الانتخابات، فبقي يعمل سراً لتغيير الحالة بالقوة، وهو لا بدّ أن يكون وجد أحوالاً ملائمة لغرضه. إذ إنّ الأزمة الاقتصادية لا تزال مستحكمة في البلاد والناس يتضايقون ويريدون الفرج بقطع النظر عن الجهة التي يأتي منها.
إنّ نشوب الثورة في جهات متعددة من البلاد، واندلاع لهيبها إلى ولايات غير قليلة، يدل على مبلغ خطورتها وسابق استعداداتها. فالأنباء البرقية تقول إنّ قسماً من الجيش لا يستهان به انخرط في سلك الثورة، وحذت حذوه بعض الوحدات البحرية.
موقف الجالية السورية:
لا تُستهدف الجالية السورية لغير الأخطار العادية في مثل هذه الأحوال، فالسوريون كانوا ولا يزالون يحافظون على نظم البلدان الذي ينزلونها ويحترمون شعور أهلها، ولا يتداخلون في انقساماتهم ولا يشتركون في ثوراتهم، ولكنهم سيتضررون، بدون شك، أضراراً مادية، تتوقف وفرتها على المدة التي تظل فيها الحرب قائمة. ولا شك في أنّ مركز معظمهم سيكون حرجاً، لأن الحرب ستذهب طبعاً بقسم كبير، على الأقل، مما لا تذهب به الأزمة الاقتصادية.
أما أبناء السوريين المولودون في البرازيل، الذين يُعتبرون، بموجب القانون البرازيلي، برازيليين، فإنهم معرّضون لأخطار الحرب المباشرة، إذ عليهم أن يلبّوا نداء التجنيد ومنهم من يكون انخرط في سلك الثورة.
نتائج الثورة:
لا يمكن التكهن بمبلغ الخسائر المادية، وخسائر الأرواح التي تسببها الثورة الحالية، ولكنها مهما قلَّت لا تكون قليلة، فالنتائج المباشرة ستكون، ولا شك، سيئة جداً وتبطل الثقة الخارجية بوضعية البلاد ومقدرتها.
بيد أنها، من الوجهة الأخرى، لابدّ أن تولد نتائج حسنة، فهي صدمة قوية، توقظ الشعب البرازيلي وتنبهه إلى وجوب إعداد مستقبله على صورة أفضل من الصورة التي عليها حاضره، إلا إذا أدت الثورة إلى انفصال بعض الولايات واستقلالها بأمرها، فيكون لذلك درس غير هذا الدرس ولا تتسع له هذه العجالة.
دمشق في 24 أكتوبر/تشرين الأول 1930.
أنطون سعاده
«نوع الثورة البرازيلية ـــ أسباب الثورة ـــ التطاحن السياسي
كيف نشبت الثورة ـــ موقف الجالية السورية ـــ نتائج الثورة»
القبس، دمشق، العدد 479، 26/10/1930