قواعد الترشيح للنيابة في الحزب القومي الاجتماعي
في افتتاحية العدد العاشر من النشرة الرسمية (ص 214 أعلاه) عالجنا مسألة تهدّم المثالية النظامية والعقدية في الحزب، في المدة التي غاب فيها الزعيم عن الوطن، وما جرّه ذلك التهدم من ميعان أخلاقي وعقدي، الأمر الذي أدى أخيراً إلى فسح المجال لنشوء عقلية النفعية والانتهازية والتسوية بين القضية القومية الاجتماعية المقدسة والمآرب الفردية الخصوصية، في عدد من الذين احتلوا مراكز أمامية في صفوف الحزب، وإلى تسرب هذه العقلية الانحطاطية الذميمة إلى أوساط القوميين الاجتماعيين دون أن تلقى وازعاً أو رادعاً.
قلنا في الافتتاحية الماضية المشار إليها: “إن عدداً من الذين ترشحوا من صفوف الحزب القومي الاجتماعي للنيابة في لبنان والشام وشرق الأردن لم يكونوا من الذين يعدّون الغاية القومية الاجتماعية هي الغاية الحقيقية، بل كانت لهم، تحت ستار الغاية القومية الاجتماعية غاية خفية، تذرعوا ببلوغها بمختلف محاولات التسوية”. (ص 214 أعلاه) وإننا نثبت هنا هذه الحقيقة المؤلمة لكل قومي اجتماعي مثالي حارب وقاسى وتحمّل كل أنواع الاضطهاد والخسائر والألم من أجل قضية حزبه المقدسة، ونتناولها هنا بالمعالجة التي تستحقها. ولكي نتمكن من المعالجة كما يجب، لا نرى مندوحة عن استعراض حوادث الانتخابات النيابية الماضية في لبنان والشام:
عندما قدم الزعيم، بعد غيابه القسري الطويل بسبب الحرب العالمية الثانية، كان أكثر المتهيئين للترشح للنيابة من صفوف الحزب في عملية الانتخابات التي كانت ستجري في لبنان والشام وشرق الأردن سنة 1947، قد هيأوا أنفسهم وكان القابضون على زمام الحركة السياسية في المجلس الأعلى اللادستوري والمكتب السياسي قد قرروا خطة ينتهجونها وأعضاء معيّنين لدخول الانتخابات. وكانت سلسلة الخطابات التي ألقيت في مهرجان “يوم الإصلاح” في مصيف الشوير في فندق القاصوف في الواحد من سبتمبر/ أيلول سنة 1946 نوعاً من استعراض للمقرر ترشيحهم أو للذين يرشحون أنفسهم للانتخابات النيابية في لبنان. فكان ذلك المهرجان أشبه شيء بافتتاح الحملة الانتخابية من قبل الحزب القومي الاجتماعي. فينتج من هذه المقدمة أنّ وضعية الحزب للانتخابات عند عودة الزعيم التي سبقت موعد الانتخابات اللبنانية بنحو شهرين ونصف فقط مرت في ذلك العراك التاريخي الذي اثارته عناصر الرجعة وتبنّته الحكومة اللبنانية، كانت وضعية مفروغاً منها ولم تكن للزعيم الأسباب الكافية والظروف المساعدة لتعديلها. ولما لم يكن بد للحزب من خوض الانتخابات بصفته أقوى قوة سياسية بمفردها في البلاد السورية كلها، لم يكن هنالك مناص من التقدم إلى الانتخابات بالجهاز السياسي الترشيحي الذي كان قد تكوَّن في غياب الزعيم.
سقط من ذلك الجهاز في لبنان، المدعو نعمة ثابت الذي اهتم كثيراً، وهو بعد في المعتقل، بترتيب وضعيته السياسية الشخصية في الحزب، فتولى رئاسة المجلس الأعلى ورئاسة المكتب السياسي واستحصل مصادقة من المجلس الأعلى على قانون وضعه للمكتب السياسي يجعله المسيطر على سياسة الحزب ويجعل رئيسه عضواً في مجلس العمد بصفة عميد، فصار نعمة ثابت رئيساً في المجلس الأعلى، وعضواً في مجلس العمد، ورئيساً للمكتب السياسي، بحيث أصبح محتكراً الأعمال السياسية في الحزب كلها، وبالنظر للاتكالية المبنية على اساس الثقة التي أوجدتها النهضة القومية الاجتماعية في سابق عهدها البطولي الأول، أصبح المسيطر المطلق على سياسة الحزب والمحتكر لجميع اتصالاتها وخفاياها. وكان سقوط ذلك الشخص من جهاز الترشيح للنيابة لأنه لم يتمكن من تأمين مركز له في القائمة الحكومية التي كان أخذ الأستاذ كميل شمعون، وهو وزير المالية في ذلك الحين، في تأليفها، لأنه لم يتمكن من الإثبات أنه لا يزال قادراً على جر الحزب القومي الاجتماعي عن عقيدته وعلى جعله مطيَّة للأغراض السياسية الرجعية، ولأنّ الزعيم رفض أن يكون للحزب مرشحان اثنان فقط في القائمة الحكومية في جبل لبنان، هما: نعمة ثابت وأسد الأشقر، ولم يقبل بأقل من أربعة مرشحين يستحق الحزب أكثر منهم، بالنظظر إلى قوّته الانتخابية العظيمة في محافظة جبل لبنان.
من استعراض حركات المرشحين الحزبيين وخطبهم الانتخابية في المعركة الانتخابية التي مرت في الدويلات السورية المذكورة آنفاً، يتبين أنّ المرشحين الوحيدين الذين عملوا بروح حزبية صحيحة في الجمهورية اللبنانية كانوا: الرفقاء الأمين عبد الله سعاده في الشمال، والأمين أديب قدورة في بيروت، والرفيق عبد الله محسن في البقاع. أما باقي المرشحين فلم يعملوا بروح حزبية ولا تقدموا إلى الناخبين على أساس التمثيل الحزبي التعليمي والسياسي، بل عملوا بروحية شخصية فردية وتقدموا إلى الناخبين على أساس شخصي لا حزبي وبأسمائهم الشخصية وليس باسم حزبهم ومبادئه. وتجاه التراخي في الروحية الحزبية والتعليمية وضع الزعيم بنفسه البيان الأول لمرشحي الحزب في محافظة جبل لبنان (أنظر ج 7 ص 256)، فطُبع ووزع باسم أولئك المرشحين الذين سكتوا عليه ولم يعتمدوه ولا اعتمدوا ما ورد فيه أساساً لحملتهم الانتخابية، بل نبذوه وأصدروا بيانات وخطباً مخالفة له ولا تعلن لهم غير صبغتهم الشخصية. وكانت دعاوتهم كلها لأشخاصهم ولأشخاصهم فقط. وأنفقت الأموال المخصصة للحملة الانتخابية على تلك الدعاوة الشخصية. وإنّ واحداً منهم، هو المدعو حافظ منذر، فاق كل رصفائه بإصداره، عقب البيان الذي وضعه الزعيم، بياناً شخصياً وزّعه بهذا الاسم المشترك: “حافظ منذر والكتلة الدستورية” الأمر الذي أعلن استعاضة الشخص المذكور عن ولائه الحزبي بالتزلف إلى “الكتلة الدستورية” تقرّباً من السيد سليم الخوري شقيق رئيس الجمهورية وأحد العاملين في فئة “الكتلة الدستورية” الذي كان في القائمة المختلطة التي تشكلت من مرشحي الحزب وغيرهم. وذلك “البيان” الذي أذاعه المدعو حافظ منذ كان أول أعمال خيانته للحزب وأول الأسباب العديدة التي أدت إلى سحب الحزب ترشيحه وطرده من صفوفه. وفي محافظة البقاع كان الحزب قد رشّح الرفيق عبد الله محسن و”الرفيق” الدكتور كريم عزقول: وكان الزعيم قد أمر بترشيح الدكتور كريم عزقول بعد اعتراف الدكتور عزقول بغلطه وانحرافه عن العقيدة والنظام ووعده بلزوم العقيدة والنظام القوميين الاجتماعيين. فلم يكن من الدكتور عزقول الذي ظل المرشح الحزبي الوحيد في البقاع بسبب انسحاب الرفيق محسن لمصلحة ترشيح عزقول، إلا أن أذاع بياناً على الناخبين البقاعيين يقول فيه إنّ ما تحتاج إليه الجمهورية اللبنانية لاستقامة أمورها ليس تعاليم الحزب القومي الاجتماعي ولا منهاجه الاقتصادي ولا تنظيمه الاجتماعي الاقتصادي، بل هو العلم والنزاهة والاخلاص، ولذلك يطلب هو من الناخبين، في بيانه المذكور، أن ينتخبوه لعلمه ونزاهته وإخلاصه! وفي بيروت لم يسلك الدكتور أديب معلوف مسلكاً قومياً اجتماعياً وصار يخبط بين الدعوة إلى العروبة وبين غيرها. وتحت ضغط الاجتماعات الحزبية ظهر بمظهر قومي اجتماعي موقتاً ثم عاد إلى الشذوذ بعد مرور الانتخابات، ولم يكن في بيروت سوى الأمين أديب قدورة مرشحاً حزبياً واضحاً جريئاً يحارب في سبيل القضية القومية الاجتماعية. وفي الجنوب تقدم مرشحان: أحدهما الأستاذ نظمي عزقول الذي ليست له في العراك القومي الاجتماعي أية جولة مذكورة، والسيد بشارة الطرابلسي الذي لم يظهر أنّ له أية علاقة بالحزب القومي الاجتماعي، إلا عندما برزت مسألة الانتخابات النيابية. وفي محافظة الشمال (طرابلس ـ الكورة ـ عكار ـ الزاوية) كان للحزب مرشح قومي اجتماعي واحد يمثّل قضيته ويحارب في سبيل فوزها، هو الأمين عبد الله سعاده، أما المرشح الثاني الدكتور عفيف عبد الوهاب، فليس من الذين يسمع لهم صوت في المعركة العقائدية والسياسية الجارية بين القوميين الاجتماعيين وغيرهم، فهو تقريباً حيادي مع ميل لجهة الحزب لا يزيد على ميل أي محبِّذ من خارج الصفوف القومية الاجتماعية، بل إنّ بين المحبِّذين من خارج الصفوف من له نضال في سبيل الحزب، يفوق بكثير موقف عدد ممّن انضموا إلى الصفوف القومية الاجتماعية بعقلية الوصوليين الخصوصيين، فلم يجعلوا حرب الحزب حربهم ولا قضية الحزب قضيتهم.
ما قيل في حالة المرشحين للنيابة في لبنان يقال في حالة المرشحين من صفوف الحزب في الشام وشرق الأردن. ففي محافظة اللاذقية ترشّح الرفيق جميل مخلوف وهو من الرفقاء المتيني العقيدة والنظام القوميين الاجتماعيين، والرفيق عبد العزيز الأرناؤوط وهو من الرفقاء الذين كانت لهم سابقاً مواقف حزبية ممتازة، وكان موقفه في الترشيح صريحاً باسم الحزب ولكنه انسحب أخيراً هو والرفيق مخلوف بسبب اختلال تحالف القوى. وكذلك انسحب الرفيق محمود أحمد حبيب الذي ترشّح بصورة شخصية عن قضاء بانياس، محافظة اللاذقية، والدكتور إسبر حنا الذي ترشّح عن الحزب في قضاء صافيتا، ولم تقتنع الإدارة الحزبية المركزية بصواب انسحابه. وانسحب أيضاً الرفيق إلياس عبد الله يازجي الذي ترشّح عن الحزب في قضاء الحصن من المحافظة المذكورة واسباب انسحابه مبررة في المركز. وحاول عبد اللطيف اليونس اللعب على الحبلين، فانتمى إلى الحزب الوطني ليربح عطف الحكومة وظل يتظاهر أمام مركز الحزب أنه قومي اجتماعي، ولكنه اندحر على الرغم من أنَّ الحزب لم يكن قد اتخذ قراراً بطرده قبل الانتخابات. وفاز في منطقة وادي العجم الرفيق كمال كنج وهو يحتاج إلى نظامية حزبية. وفي شرق الأردن فاز عبد الحكيم النمر وابو جابر ولكنهما منقطعان عن الحياة والعمل القوميين الاجتماعيين.
يتضح من هذا الاستعراض، أنّ الفئة التي تقدمت للترشح للنيابة من صفوف القوميين الاجتماعيين في الانتخابات النيابية الماضية، كانت فئة فقيرة في الإيمان القومي الاجتماعي وفي روحية الصراع العقائدي والسياسي، فما خلا ثلاثة مرشحين استثنيناهم نجد بقية المرشحين عملوا بنظرات خصوصية وخطط خصوصية واندفعوا بروحية انتهازية وأحياناً بروحية انهزامية وبطمع في الكرسي النيابي، إذ ليسوا من حملة العقيدة والقضية ولا من المحاربين من اجل انتصارهما ولا من مقدَّسي النظام والخاضعين له. وقد تأخذ بعض القوميين الاجتماعيين الحيرة تجاه بعض من تناولهم هذا النقد إذ إنّ بينهم من قد سمعوا له خطباً رنانة وطافحة بعبارات الاتّقاد القوي الاجتماعي وبعبارات أخرى تستميل هوى النفوس. والحقيقة أنَّ بعض العاملين بروحية خصوصية ضمن الحركة القومية الاجتماعية، لم يغفلوا أهمية اكتساب شعبية بين الرفقاء القوميين الاجتماعيين فاهتموا كثيراً بالبروز، خطباء متوقدين حمية في الاجتماعات الحزبية، ولكن عملهم القومي الاجتماعي كان ينتهي بانتهاء تلك الخطب كما كان يبتدىء بابتدائها. فينصرفون من الاجتماعات القومية الاجتماعية إلى اجتماعات أخرى يكون كلامهم فيها مخالفاً لكلامهم في الاجتماعات الحزبية.
إنّ من أشد العلل التي يحاربها النظام القومي الاجتماعي خبثاً وخطراً علّة التلاعب بعواطف الجماهير وتسخيرها للمآرب الخصوصية ـ علّة الديماغوجية Demagogie. فإنّ هنالك أشخاصاً لا قدرة لهم على بناء القضايا ولا على العمل النظامي المثمر، ولكن لهم مقدرة على دغدغة ميول الجماهير وعنعناتها، فيجعلون همّهم استثمار النظام والقضايا لاكتساب شعبية تفيدهم في مراميهم اللابنئية واللانظامية. هؤلاء قد لا تكتشف شعوذتهم الجماهير إلا بعد نكبة أو فضيحة. ولكن عين القيادة القومية الاجتماعية الساهرة تكتشف خططهم ومراميهم وغاياتهم وتضع حداً لتلاعبهم بآلام ألوف المؤمنين القوميين الاجتماعيين الذين قاسوا وبذلوا وضحّوا بكل ثمين وضروري من أجل قضيتهم القومية المقدسة وليس من أجل أن يرفعوا أفراداً إلى السؤدد ونيل المآرب الخصوصية.
ينتج من هذا الجرس، أنه يجب القضاء على جميع المآرب الخصوصية التي أخذت تتولد في رؤوس البعض ضمن الحزب القومي الاجتماعي، في غياب الزعيم، وأنه يجب وضع حدّ للميعان العقدي والنظامي ضمن الحزب، وأنه يجب قطع دابر الانتهازية التي تطعن القضية في صميمها، وأنه يجب حفظ المراكز الأمامية في الحزب للذين يحاربون حرب القضية والنظام، فلا يجوز أن يتقدم إليها من لا يحملون حمل العقيدة والنظام، مهما بلغت مهارتهم في اجتذاب ميول الجماهير بأساليب الديماغوجية.
وينتج من هذا الدرس، أنه يجب أن يخضع الترشيح للنيابة من ضمن الحزب لقواعد ثابتة، لأنّ النيابة تعني التعبير عن القضية القومية الاجتماعية وعن إرادة القوميين الاجتماعيين العامة المتجلية في تعاليم حزبهم وفي زعامة سعاده، وهذه القواعد الثابتة هي:
أولاً ـ أن يكون المرشح مشبعاً بروح التعاليم القومية الاجتماعية وقوي التعبير عنها.
ثانياً: أن يكون ذا نظامية ممتازة.
ثالثاً ـ أن يكون منفّذاً للخطط السياسية المقررة من المراجع المختصة بكل دقة وأمانة.
رابعاً ـ أن يكون من غير الذين ظهر منهم ترجرج في العقيدة أو النظام.
خامساً ـ أن يكون من المحاربين في الصفوف الأمامية في سبيل العقيدة القومية الاجتماعية ونظام الحركة القومية الاجتماعية، وأن يكون حاملاً في جبهته ولو أثراً من آثار المعركة (وآثار المعركة ليست سجناً أو اعتقالاً بسبب القيام بوظيفة أسندت اضطراراً، في بعض الظروف، كما كان الحال مع عدد من الخونة المطرودين، أمثال صلاح لبكي ومن جرى مجراه، بل تحمّل الاضطهاد والخصومة والاستمرار في العراك بالقول والفعل تحت كل الظروف).
إنّ الذي يتجنب الصراع ويزعم أنّ مشاكل خصوصية، من تجارية وغيرها، تمنعه من القيام “بالواجب”، ثم يُقبل قبيل الانتخابات على الاجتماعات الحزبية لإلقاء الخطب وعلى التجول في أوساط القوميين الاجتماعيين لاكتساب رضاهم وميلهم، زاعماً أنّ تلك المشاكل قد انتهت، أو أنّ “الواجب قضى” في هذه الظروف أن يقوم بقسط من “العراك”، ليس محارباً قومياً اجتماعياً ولا يجوز اعتباره صالحاً لتمثيل مصلحة الحزب أو للتعبير عن القضية القومية الاجتماعية المقدسة وعن إرادة القوميين الاجتماعيين.
وإننا نكرر هنا ما قلناه في افتتاحية العدد العاشر من النشرة الرسمية: إننا نريد جنوداً في السياسة ومحاربين تحت خفق الزوبعة لا مراوغين ومشعوذين واصحاب تسوية بين القضية والمآرب الخصوصية!
[1] صدرت تحت هذا الاسم إثر قرار الحكومة اللبنانية بتعطيل النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية.
هاني بعل
مجموعة الأعمال الرسمية للحركة القومية الاجتماعية،
بيروت، يناير/ كانون الثاني 1949