لقــَــاؤنـا – ادويك

 عُد بي يا قارئي، في وثبة الخاطر الجموح، إلى صيف 1937، إلى عين القسِّيس في الشوير. حيث أصطاف مع عائلتي في بيت وديع إلياس مجاعص، الذي شغل مع أختيه (نايفه وعفيفه) الطابق الأرضيَّ تحتنا.

… حركة غير عادية حَول البيت وفي الجوار … لم نلبث أن عرفنا محورها إنه ” الزعيم” المُقيم عند ابنِ عمته صاحب البيت… بعد حين، زارنا لفترة، رفيق الطفولة بدري جريديني (أصبح زوج أختي هلن). كان منتمياً إلى الحزب السوري القومي، ومنه سمعنا الأخبار المثيرة عن “الزعيم”.

عندما كان بدري يمضي لحراسته ليلاً على مطلّ الدير، كانت عيوننا المبهورة ترمقه بنظرات الدهشة، والغيرة أحياناً. أجل! كان يبدو متميِّزاً علينا “بشيء” لم نكن ندرك كنهه يومذاك.

ولما كانت متعة الصيف التنزُّه في أحراج الصنوبر، فقد تكرَّرت مشاويرنا على المنسرحات الخضراء، وكان من البديهيّ ألاّ نبتعد كثيراً عن “العرزال”، ملتقى العديد من النخبة، سواء أهل الفكر والسياسة، أو الطلاب الناشئين.

في ضحىً مشمسٍ ناعس التقيناه على درب المطلّ، فسارع بدري يؤدي التحية ويقوم بدور التعارف… أذكر جيداً أنني مددت يدي إلى يده، ولم أرفع عينيَّ إلى وجهه، أما هو فقد تمهَّل برهة، يداعبنا ويطلق نكاته… بدري يدرِّب هلن على ركوب الدرَّاجة وعلى الصَّيد، يضع لها “القرش المثقوب” على جذع صنوبرة، وننتظر الطلق. ولما يتناثر الخردق حول القرش، دون إصابته، يتضاحك الزعيم، مبرِّراً فشلَ هلن، من أن الخردق، حتماً، دخلَ كلُّه في ثقب القرش!

ويقهقه الجميع ما عداي! أنا الساهمة أبداً كنتُ أكتفي بالابتسام، مجاملة، مثلُ هذه النشاطات منافٍ لطبيعتي.

وجاء يوم، لزمتُ فيه الفراش، متخلِّفة عن المشاوير الصباحية… وصف لي الطبيب الهبرة المدقوقة والملوَّحة، فحَملت الخادمة اللحمة لتدقَّها في جرن الحجر عند الجيران، وكم كانت دهشتها عظيمة عندما استقبلها “الزعيم” بلهفة، مستفسراً عن صحتي. ولما عرف طبيعة مهمَّتها، نشل اللحمة من يدها، وتولَّى دقَّها بنفسه، غير مصغ ٍ لثورة احتجاجاتها… بعد دقائق صعدت المرأة والذُّهول يعقد لسانها. وهمست الخبر في أذني، فأصابني من الدهشة والذهول ضعفَ ما أصابها.

عصر ذلك اليوم، فاجأتني بنتُ عمَّته عفيفة بزيارة خاطفة. أخرجت من عبِّها ورقة مطوية، دفعتها بعصبيَّة إليَّ وانصرفت. أطبقتُ راحتي على الرسالة، وارتميت على السرير ألهث، وقلبي يقرع صدري… كانت رسالته هذه، بعد حادثة الصباح، بمثابة الشرارة الأولى لحبٍّ صاعق نما وكبر بسرعة، وتوضَّحت معالمه في الأسابيع اللاحقة.

قالت الرسالة:

“أيتها الصديقة!
إني آسف جداً أن تحول الظروف بيننا وبين الاجتماع والمحادثة. وزاد أسفي ما علمته من اعتلال صحتك، فقد كنت آمل أن أراكِ جذلة طروباً وسط هذه الطبيعة الجميلة.
ومهما يكن من شيء فأودُّ أن تتشدَّدي وتكوني قوية. فليس ما تعانين سوى مظهر فردي من مظاهر الصراع العنيف بين نفسيتين، قديمة وجديدة. بين قوّتين: قوة التقاليد وقوة الحياة.
إن رسالتنا القومية هي رسالة الحياة والتحرُّر، وإخضاع التقاليد للحياة الجيدة،ودعامة هذه الرسالة القوة، القوة العظيمة المتغلبة.
كوني قوية وثقي بنفسك!
أحب أن أراكِ قوية”.

(التوقيع)
في 22 أغسطس 1937


كيف أصف أنطون سعاده كما عرفته في صيف 1937؟ ذروة ما ترومه الأميرات: شخصية فذ َّة تشعُّ رجولة ً وذكاء، وسط َ هالة من المناقبية العالية والظرف… فهل يعقل أن أُمعن في التدلُّل،وقد فرط حبَّه في حضني دفعة واحدة؟ لذا، أجبتُ “بنَعَم”، رغم كلِّ ما حملق بتلك “النَّعَم” من مخاوف وتساؤلات مبْهمة، قريبة وبعيدة… كان واضحاً في حسِّي المرهف أن بيننا فروقات جذرية، فما الذي جعله يجزم بصوابية رأيه، وبأنني، وحدي، فتاتهُ المختارة؟

تلاحقت لقاءاتنا على المطلّ. هلن تراقب القادمين من بعيد… لكأنَّه أمامي الآن، مسترسلاً في التخطيط لحياتنا المشتركة، وأنا غالباً مصيغة في ارتباك، وعاجزة عن تحديد مشاعري نحوه، بالسهولة التي فعل…

ولَّما احتجَّت أُمي على اجتماعاتنا، وقد أضحت مثارَ لغط العائلة وقلقها، صعد إلى أمي، وبكل بساطة واحترام طلبَ يدي منها، كما كلَّم أخي ميشال.

كان ضنيناَ على هذا الحبّ، يدافع عنه بكلّ ما ملك من حجَّة وبلاغة. وشقَّ عليه عدمُ تجاوبي مع رغبته للبقاء في بيروت “كناموسه” الخاص، أنا بنت الجريديني اليافعة المحافظة، في حمى عمي المسلم وأُمي القوية الشخصية، كم كنت أَفتقرُ للقدرة على الأخذ برأي أقرِّره بنفسي!

في ضوء هذه الخلفيَّات، ودَّعته ورجعت إلى البصرة في العراق، مؤكدة له، بإيماني العفوي، أنني لن أكون لسواه. سأنتظره وأصلّي من أجله، والمراسلة حتماً، ستحلحل العقد القائمة بيننا.

وتلاحقت رسائله إليَّ، حتى بلغت الثماني عشرة مؤرَّخة تباعاً، بين 2 تشرين أول 1937 و14 نيسان 1938، كما هي مدرجة في هذا الكتاب.. لكأنه كان سلفاً يعلم، أن مصيرها سيضحي يوماً ذا شأن.

أما أنا، فلفرط سذاجتي عهد ذاك، أتلفتُ مسوّدات رسائلي إليه… كلّ ما يشير إلى مضمونها ما جاء في تعليقاته هو عليها.. لقد كنت أطلعه، بمنتهى الصراحة، على ما دارَ ضمن العائلة من أحاديث عنه وعنا، ومعظمها اتَّسم بالولدنة والتصلُّب، مما لم يتناسب وماهو عليه من جديَّة ومقام!

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى