لمناسبة الأوّلِ من آذار وعيد المعلّم في لبنان
الرّفيق جهاد الشّوفي – ناظر الإذاعة في منفذيّة حاصبيّا
شُكــــرًا.. شكـــــرًا أنطــون سـعـــاده.. شكراً لِشغفِ الإثمِ المُقدّسِ العالِقِ في روحــي.
للمرّةِ الأولى أكتُبُ في بيتي(قيدَ الإنشاءِ)، قُبالةَ الوادي، الّذي أرادَهُ اللّهُ مزيجًا غريبًا من جُغرافيا الضَّوءِ، في وجهِ عتماتِ هذا العالمِ، هنا موطِنُ نُسْكِي، وأسُّ قلبي وروحي، وما عُدتُ أَحسُدُ جبران على بشرّي، ولا نعيمه على الشَّخروبِ، ولا الرّيحانيّ على الفريكة، ولا أَدَّعي شبَهًا بيني وبينَهم.
هنا وُلِدتُ، من سُلالةِ جبلِ الشَّيخِ ووادي التَّيمِ، وما بينَهما من أغاني الشِّيحِ والصَّنوبرِ، ونكهةِ الزَّيتونِ، كانت فلسطينُ قبلةَ صباحاتي، حتّى في عزِّ الغيمِ والمطر، كانت “فانوسي” السِّحريِّ لا أُبصِرُ بعيدًا عنهُ، لأنَّ اللّهَ قسمَ العالمَ للنَّاسِ، وقسمَ فلِسطينَ لنا.
تَعرّفتُ على “الفدائيّينَ” وأنا ابنُ خمسِ سنواتٍ، ونقلتُ لهم الزّادَ من دكاكينِ القريةِ، والماءَ من عينها، باكرًا غَسَلني اللّهُ منَ اليُتمِ (كنت أعيشُ في بيتِ جَدّي بسببِ طلاقِ والديَّ)، أَنضجت فلسطينُ وعيي، وولَّدت في نفسِي إيقاعًا لا يزالُ يُصرِّخُ في روحي.
في التَّاسعةِ من عمري انتقلتُ إلى عاليه (مكانَ سكن والدي)، فانتقلتُ من عسرٍ إلى عُسرٍ، وأدركتُ أنَّ الحياةَ قد رفعَتْ عنّي وسادةَ أمومتِها، وبالرّغمِ من هذا ظلّتْ فلسطينُ المعشوقَةُ، وكأنّي أنا العاشِقُ الوحيدُ، وأدركتُ أنَّ اللهَ لن يُزوّدني بالمالِ أبدًا، ولكنّهُ منَّ عليَّ بالعِشقِ، كأغنيةٍ ظامئةٍ إلى الموسيقى.
كانَ اصطدامِيَ الأوَّل بأنطون سعاده وأنا في الرّابعةِ عشرةَ من عُمري (الصَّفِّ الثَّامن)، حينَ كتبت لي مُعلّمتي: ” إذا لم تكونوا أحرارًا، من…” شعرْتُ أنَّها ألقت في نفسي بذرةَ الحياةِ، فأخذتُ أتردّدُ إلى مكتبةٍ في عاليه، (رحمَ اللهُ صاحِبها)، أقرأُ سعاده وقوفًا في زاويتها، وكنتُ أدفعُ (خمسةً وعشرينَ قرشًا لبنانيِّا) لصاحبِ المكتبةِ عن كلِّ كتابٍ أقرأهُ، قرأتُ المحاضراتِ العشر، نشوءَ الأممِ، و.و. ولا أدّعي أنّي فهمتُ الأشياءَ كُلّها، ولكنّي أعرِفُ أنَّ سعاده ولَّدَ فيَّ وعيِا شَقيًّا وقيصريًّا أثقلَ ساعدي لاحِقًا ببندقيّةٍ.
إزدادَ شغفي بسعاده، فكنتُ أقرأُ قبلَ النّومِ وبَعدَهُ ـ وما بينهما ـ مع سعاده انتقلتُ على ضَفّةِ الحنينِ إلى أور وبغداد، ودمشق، والإسكندرونة، والقدس، علّمني سعاده أن أكونَ مُحارِبًا وجريئًا وأن أقُصَّ الأشواكَ ما تسامقت قامتُها، وأن أبارزَ الحياةَ، لأنّها للأقوياءِ في نفوسِهم، علّمني أنَّ مصلحةَ بلادي فوقَ كلِّ مصلحة، وأن أكونَ سَخيًّا عليها، حتّى لو طلبت دمي، تعرفّتُ مع سعاده على وجِهِ اللّهِ المشرِقِ بعيدًا عن قبيلتي “كلُّنا مسلمونَ…”، علّمني سعاده أدبَ الحياةِ والمناقِب وألأخلاق، وأنَّ في الذّاتِ السّوريّةِ كلَّ الخيرِ والحقِّ والجمال، علّمني سعاده الشَّجاعةَ، وأنَّ الحياةَ وِقفةُ عزّ، ولا تستقيم في هوانٍ وذُلٍّ وارتهان، معَ سعاده تميّزتُ عنِ الحيوانِ، حينَ أَقررتُ معهُ أنَّ العقلَ هو “الشَّرعُ الأعلى”، علّمني سعاده احترامَ المرأة، ونفضَ عنّي عباءةَ الجاهليّةِ، حينَ وهبَ النَّهضةِ إلى “رجالِ ونساءِ”، علّمني سعاده أن أُحِبَّ أبنائي، وأحِسنَ تربيتهم :
“النبتُ الصَّالِحُ ينمو …”، علّمني أن أُحبَّ طلاّبي وأنْ أَجهد لألقِيَ في نفوسِهم كلَّ الخيرِ والحقِّ والجمال، ” الطُّلابُ نقطةُ الإرتكازِ…..”. علّمني أن أُحِبَّ أُمّي وأُمّتي:
“من حُضنِ أميِّ، إلى حُضنِ أمّتي”، علّمني حُبَّ القوانينَ والنِّظام حتّى ولو كانت جائرة: ” حاربوا الفوضى بالنِّظام….”، علّمني سعاده معنى السِّلمِ والحربِ:
“السِّلمُ أن يُسلّم أعداؤنا …. وعلاقتنا بالعدو علاقة النّارِ بالنّار”، وأنَّ بلادنا وأرضَنا ليست مسرحًا للديدانِ والغربانِ، علّمني سعاده وأدّبني بقولِهِ: “الحياةُ والحياةُ كُلُّها وقفةُ عزٍّ” ولا تَصُحُّ أبدًا بغيرِ ذلك، وقد دفعتُ كثيرًا لأجلِ هذا، ولا مانعَ من أن أدفعَ ما بقي من عُمري.
حينَ أقسمتُ اليمينَ مع سعاده، زالت عنّي كلُّ صفاتِ اليُتم، واستقرَّ لي، أنّني سوريٌّ قوميٌّ اجتماعيٌّ من الجنوب اللّبنانيِّ، وسيبقى سعاده في قلبي وروحي شعاعًا ذهبيًّا، وفوقَ ساعدي بندقيّةً.
لقد صرفتُ حياتي جُنديًّا في صفوفِ النَّهضة، ولن أبخلَ بما تبقّى لي منها.
بعدَ هذا، هل يجوز أن أُسمّى”مُعلّم”، يا لخجلي من أنطون سعاده!