لم نسمع قـبله بكلّ ذلك
د. محمود شريح
لم نسمع بعدُ أنّ زعيماً كان سريره عتيقاً ومنحرفاً عند إحدى زواياه الأربع وأنّ سريره كان يهتز كلّما تنفّس، ولم نسمع بعدُ أنّ زعيماً كان يتغطّى بمعطفه ويَهِبُ حرامه لحارسه، ولم نسمع بعدُ أنّ زعيماً لم يكن سريره ملكه بل من أثاثِ بيتٍ استأجره، ولم نسمع بعدُ أنّ زعيماً كان يسرّح شعر بناته قبل خلودهنّ إلى النوم، ولم نسمع بعدُ أنّ زعيماً كان يستشير زوجته في كلّ شاردة وواردة، ولم نسمع بعد أنّ زعيماً كان يصفّ بنفسه بعد منتصف كلّ ليلة جريدة حزبه “الزوبعة” في بوينس آيريس، على جهاز أحرف صغيرة، أحضره معه إلى بيروت يوم 2/ آذار/1947 بعد غياب قسريّ لتسعِ سنين، ولم نسمع بعد أنّ زعيماً رأى أنّ الطائفيّة أودت بفلسطين، ولم نسمع بعد أنّ زعيماً أعلن في 1921 أنّ التعصّبات الدينيّة تسبّبت بمعضلات عديدة لا تلتئم مع مصلحة أمّة تريد النهوض وتُختصر في معضلة واحدة هي الصهيونيّة.
ولم نسمع بعد أنّ زعيماً أعلن في 1/حزيران/1949 وهو على مقربة من مخيم برج البراجنة، بعد أقلّ من سنة على نصب شوادره، أنّ مقرّرات الأمم المتحدة لا تحمل إلّا الظلم والعدوان على الأمّة السوريّة وحقّها في الحياة، ولم نسمع بعدُ أنّ زعيماً أدرك في نفاذ بصيرة أنّ الحكومات العربيّة القزمة هي التي خلقت “إسرائيل”، ولم نسمع بعدُ أنّ زعيماً عِيْلَ صبره فلم يبقَ أمامه إلّا الثورة لقلب لبنان الطائفيّ مدخلاً إلى وحدة بلاد الشام، ولم نسمع بعد أنّ زعيماً حبّر آخر مقالٍ له في مبنى مطبعة صحيفة حزبه في بيروت، وعلى مطلّ من مقهى الجميزة، عَنونَه “هشيم الطائفية يلتهب في الجميزة“، ولم نسمع بعدُ أنّ زعيماً ألقى خطاباً فجر 3 تموز في أتباعه ناحية دير العشاير على الحدود بين لبنان وسوريا، ثمّ ناداهم فرداً فرداً بأسمائِهم، ووزّع عليهم السلاح قطعةً قطعة، ودعاهم في واقعية دوّنها له التاريخ إلى قلب النظام الطائفي في لبنان مدخلاً إلى العلمانيّة في المشرق، فكانت أول انتفاضة من نوعها إثر فلسطين بسنة وآخر انتفاضة من نوعها قبل العراق بخمسين، فها اليوم ولا يُرجى تلاقينا، ولم نسمع بعدُ أنّ زعيماً سلّم نفسه ليل 6 تموز في قصر الرئاسة في دمشق لينقذ أتباعه من بطش عسكريتاريّة بيروت، ولم نسمع بعدُ أنّ زعيماً خضع لاستجواب من الساعةِ الخامسةِ صباحاً إلى الثامنة مساء من يوم 7 تموز، أي لنحو 15 ساعة لا محضر كاملاً عنه، ثم كانت محاكمة على مدى ثماني ساعات، وكان واقفاً لم تثنِ له ركبة ولم ينحنِ له ظهر، فدافع خلالها عن حزبِه لساعةٍ ونصفِ ساعة وكان الخطر اليهوديّ فيها محطّ اهتمامه.
ولم نسمع بعدُ أنّ زعيماً حُفر قبره سلفاً في مدافن مار إلياس بطينا قبل صدور الحكم بإعدامه في منطقة نائية عند جناح بيروت، ولم نسمع بعدُ أنّ زعيماً لمّا عُصبَت عيناه قبل إطلاق الرصاص عليه قال “شكراً”، ولم نسمع بعدُ أنّ زعيماً صرخ في بهيم ليلِ بيروت عند 2:51 فجراً “تحيا سوريا” فاخترق صوته السكون قبل أن تنهمر عليه إحدى عشرة رصاصة من اثنتي عشرة بندقيّة مزّقت صدره ورأسه ثم رصاصة رحمة، فاغتالهم إلى الأبد قبل أن يغتالوه للحظة، وسقطت المنطقة منذ فجر 8 تموز 1949 في أتون التعصّب الدينيّ، وتلظّت في مِرجَل الهوس المذهبيّ فاستعر لهيب الطائفة وتطاير شرر الجهل المطبق، فإذا بالحريق الأكبر .بين غزة والبصرة لم يُبق ولم يذر، وإذا المنطقة هالكة
كان ذلك الزعيم، وكان الأمل معقوداً. كان أنطون سعاده الذي أمضى خمسة وأربعين على ظـهر هـذه الفانـية، وهي أصلاً لم تُسَوّ له. وكان قرينه فيها أنّ الحياة وقفة عزّ فقط، وهي كذلك حتى قيام السـاعة، ولم يبـقَ من دقائقها الكثير.
(نُشرَت في جريدة “النهار” بتاريخ 3 تموز 2004، كذلك في كتابه “ياسمينة جان دارك أو مثقل الحنين من عكا إلى جزين“).