محاضرة الزعيم الثانية في الندوة الثقافية
(في ما يلي ننشر نص محاضرة الزعيم الثانية في قاعة الندوة الثقافية في الحزب السوري القومي الاجتماعي، كما دوّنه الأمين جورج عبد المسيح.
لم يتمكن الأمين عبد المسيح من تدوين هذه المحاضرة تدويناً كاملاً. فحدث تقطع في سلسلة الأفكار والشروح التي أدلى بها الزعيم وحصلت فجوات كانت أحياناً واسعة. ولذلك تظهر هذه المحاضرة دون الانسجام والمتانة اللذين ظهرا في ارتجالها.
موضوع هذه المحاضرة شرح خطاب الزعيم التوجيهي الأول الذي القاه الزعيم في اجتماع الحزب المركزي العام الأول، في أول يونيو/ حزيران سنة 1935، وإيضاح أهميته التعليمية. ونص الخطاب مثبت في صلب المحاضرة. وهو يستحق شرح الزعيم له وللقضايا الخطيرة التي تناولها، فقد كان هذا الخطاب أول شرح تعليمي مدوّن لمبادىء الحزب السوري القومي الاجتماعي وأهدافه العليا، وهو الوثيقة الأولى التي اعتمدها المفكرون والكتّاب لبحث عقيدة الحزب.
وإننا نرى، في هذه المناسبة، أنه يحسن إبراز نقاط هامّة في خطاب 1935 في هذه المقدمة هي:
1 ـ حالة التزعم والولع باستعمال معانٍ مطلقة، مبهمة، كالحرية والمبادىء، بلا وضوح لحرية ولا تحديد لمبادىء، للتغرير بالشعب واستغلاله.
2 ـ الحالة الاجتماعية ـ السياسية في سورية، بجميع دويلاتها، التي تجعل النظام السياسي القائم في البلاد ـ إن صحّ تسمية ذلك نظاماً سياسياً ـ نظاماً أساسه البيوتات والعائلات الكبيرة ذات النفوذ. وقد عاد الزعيم إلى إيضاح هذه الحالة في كتابه الأخير الصراع الفكري في الأدب السوري فقال فيها إنها “حالة القرون الوسطى”. فالعائلات الكبيرة والعشائر هي القوى السياسية التي لا تزال مسيطرة في البلاد السورية وهي التي تساعد على التجزئة القومية وهي العامل الأساسي في تقرير مصير الأمة السورية.
3 ـ إعلان الإرادة القومية العامة وإنّ هذه الإرادة التي يعبّر عنها الحزب السوري القومي الاجتماعي، هي التي أصبحت تقرر شؤون الأمة والوطن وتبدّل مصيرهما السيّىء.
4 ـ إظهار أضرار الأنظمة المذهبية والحزبيات الدينية المشتملة عليها وكونها ذات فاعلية شديدة في مقاومة وحدة الشعب القومية.
5 ـ التصريح بأن نظام الحزب السوري القومي الاجتماعي لا يقوم على التقليد، بل على الابتكار الأصلي الذي هو من مزايا شعبنا، على قوة الخلق التي كانت كامنة في نفس الأمة السورية إلى أن ظهرت الحركة السورية القومية الاجتماعية وأعلنت في مبادئها أنّ النهضة القومية الاجتماعية تستمد روحها من مواهب الأمة وتاريخها الثقافي السياسي القومي.
إنّ خطاب أول يونيو/ حزيران 1935 هو من الوثائق والتعاليم الأساسية في الحركة السورية القومية الاجتماعية فهو يستحق محاضرة الزعيم التي أوضحت قيمته والقضايا الخطيرة التي عالجها والتخطيط الإنشائي الذي اعلنه).
* * *
أيها الرفقاء،
في اجتماعنا الأول الماضي، الاجتماع الذي كان تمهيدياً مفتتحاً أعمال الندوة الثقافية للحزب السوري القومي الاجتماعي، أعلنت بعض القواعد التي ترتكز عليها نهضتنا القومية، وما أعلنت في الاجتماع الماضي يقتضب أنّ مسالة الحزب القومي الاجتماعي ليست مسألة حزب سياسي بالمعنى الاعتيادي، أي حزب يتكتل فيه أشخاص أو مصالح معينة محدودة تجتمع وتنتظم وتعمل لبلوغ غاياتها وأغراضها الجزئية أو المحدودة، بل إنّ هذا الحزب يشكّل قضية خطيرة جداً وهامّة هي قضية الآفاق للمجتمع الإنساني الذي نحن منه والذي نكوّن مجموعه.
وقضية من هذا النوع تحتاج، لفهمها فهماً كاملاَ كلياً، إلى درس طويل عميق. لأن لكل قضية كلية، على الإطلاق، أضلاعاً رئيسية هامّة، كل ضلع منها يحتاج إلى درس وإلى تحليل وتعليل وإلى تفهّم تام شامل.
بديهي إذن أن لا نتمكن من فهم قضية الحزب السوري القومي الاجتماعي كلها بكامل أجزائها وفروعها وما تنكشف عنه من مناقب وأهداف سامية وما تتعرض له في سيرها من مثالب في الحياة، إلا بالدرس والتأمل الطويل. إنّ قضية من هذا النوع تتكشف عن كل هذه الأهداف الخطيرة تحتاج إلى دراسة منظمة متسلسلة لا تجمعها محاضرة واحدة أو كتاب بل هي تستمر، ويستمر الفكر يتغذى منها ويتفتح على شؤون العالم مطلقا، ويظل مجتمعنا يجد في هذا التفتح وهذا الاستمرار مراقي إلى ذروة الحياة الجيدة التي تليق بالإنسان الراقي ويليق الإنسان الراقي بها.
لا أظن أنّ ما سأقرأه الآن يكون البداءة الأولى لقضية الحزب السوري القومي الاجتماعي ولا التفكير الأول لها. ولكنه تفسير أوّلي، بعد أن تأسس الحزب، وتعيين المنهاج ورسم أهداف قريبة وبعيدة ضمن الاتجاه القومي، يحسن أن نرى ما هي أهميتها. إنّ ما أقرأه الآن هو خطاب أول يونيو/ حزيران 1935، وإني أرى أنّ هذا الخطاب يجب قراءته بكليته:
نص الخطاب
“منذ الساعة التي أخذت فيها عقيدتنا القومية الاجتماعية تجمع بين الأفكار والعواطف وتلمّ شمل قوات الشباب المعرضة للتفرقة بين عوامل الفوضى القومية والسياسية المنتشرة في طول بيئتنا وعرضها، وتكوّن من هذا الجمع وهذا اللم نظاماً جديداً ذا أساليب جديدة يستمد حياته من القومية الجديدة هو نظام الحزب السوري القومي الاجتماعي ـ منذ تلك الساعة انبثق الفجر من الليل وخرجت الحركة من الجمود، وانطلقت من وراء الفوضى قوة النظام، وأصبحنا أمة بعد أن كنا قطعاناً بشرية، وغدونا دولة تقوم على أربع دعائم: الحرية، الواجب، النظام، القوة، التي ترمز إليها أربعة أطراف الزوبعة القومية الاجتماعية الممثلة في علم الحزب السوري القومي الاجتماعي.
“منذ تلك الساعة نقضنا بالفعل حكم التاريخ وابتدأنا تاريخنا الصحيح، تاريخ الحرية والواجب والنظام والقوة، تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، تاريخ الأمة السورية الحقيقي.
“منذ الساعة التي عقدنا فيها القلوب والقبضات على الوقوف معاً والسقوط معاً في سبيل تحقيق المطلب الأعلى المعلن في مبادىء الحزب السوري القومي الاجتماعي وفي غايته، وضعنا أيدينا على المحراث ووجّهنا نظرنا إلى الأمام، إلى المثال الأعلى، وصرنا جماعة واحدة، وأمة حية تريد الحياة الحرة الجميلة ـ أمة تحب الحياة لأنها تحب الحرية، وتحب الموت متى كان الموت طريقاً إلى الحياة.
“لم يكن للشعب السوري قبل تكوين الحزب السوري القومي الاجتماعي قضية قومية بالمعنى الصحيح. كل ما كان هنالك تململ من حالات غير طبيعية لا يمكن الشعب السوري أن يأنس إليها أو يجد فيها سداً لحاجاته الحيوية.
“وقد تزعّم جماعة تململ الشعب وجعلوا همّهم استثمار هذا التململ لينالوا مكانة يطمعون فيها، واستندوا في تزعمهم إلى بقية نفوذ عائلي مستمد من مبادىء زمن عتيق، تجعل الشعب قطائع موقوفة على عائلات معينة تبذل مصالح الشعب في سبيل نفوذها. ورأى هؤلاء المتزعمون أنّ العائلة والبيت لا يكفيان في هذا العصر لدعم التزعم فلجأوا إلى كلمات محبوبة لدى الشعب، كلمات الحرية والاستقلال والمبادىء وتلاعبوا بهذه الألفاظ، المقدسة متى كانت تدل على مثال أعلى لأمة حية، الفاسدة متى كانت وسيلة من وسائل التزعم وستاراً تلعب وراءه الأهواء والأغراض، خصوصاً المبادىء، ففيها يجب أن تتجلى حيوية الأمة وحاجاتها الأساسية. أما المتزعمون فقد اتخذوا من الشعب وسيلة للتعبير عن بعض المبادىء، فعكسوا الآية بطريقة لبقة، وقد يكون ذلك عن جهل مطبق، وكوّنوا قضية مضحكة مبكية هي قضية جعل الشعب وقفاً على مبادئهم وتضحيته في سبيل تلك المبادىء. وقد كادوا ينجحون في تضحيته. وبديهي أن لا تكون هذه القضية قضية قومية إلا للذين ضلوا ضلالاً بعيداً.
“ففي هذا الزمن الذي هو زمن تنازع الأمم البقاء، وفي هذا الوقت الحرج وشعبنا تعمل فيه عوامل الفساد والتجزئة والملاشاة القومية انبثق الحزب السوري القومي الاجتماعي كما ينبثق الفجر من أشد ساعات الليل حلكا ليعلن مبدأ جديدا هو مبدأ الإرادة ـ إرادة شعب حي يريد سيادته على نفسه ووطنه ليحقق مثله العليا ـ إرادة الحياة لأمة حية ـ مبدأ أنّ المبادىء توجد للشعوب لا الشعوب للمبادىء ـ مبدأ أنّ كل مبدأ لا يخدم سيادة الشعب نفسه ووطنه هو مبدأ فاسد ـ مبدأ أنّ كل مبدأ صحيح يجب أن يكون لخدمة حياة الأمة.
“ليس الحزب السوري القومي الاجتماعي، إذاً، جمعية أو حلقة، كما قد يكون لا يزال عالقاً بأذهان بعض الأعضاء، الذين لمّا يسمح لهم الوقت بالوقوف على المبدأ الحيوي الذي ينطوي عليه الحزب القومي الاجتماعي وعلى حاجة الأمة السورية في هذا العصر. إنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي لأكثر كثيراً من جمعية تضم عدداً من الأعضاء، أو حلقة وجدت لفئة من الناس أو من الشباب. إنه فكرة وحركة تناولان حياة أمة بأسرها، إنه تجدد أمة توهّم المتوهمون أنها قضت إلى الأبد، لأن العوامل العديدة التي عملت على قتل روحيتها القومية كانت أعظم كثيراً من أن تتحمل أمة عادية نتائجها ويبقى لها كيان أو أمل بكيان، إنه نهضة أمة غير عادية ـ أمة ممتازة بمواهبها، متفوقة بمقدرتها، غنية بخصائصها ـ أمة لا ترضى القبر مكاناً لها تحت الشمس.
“هذا هو الحزب السوري القومي الاجتماعي للذين وحّدوا إيمانهم وعقائدهم فيه، هذا هو الحزب السوري القومي الاجتماعي للذين وحّدوا قوّتهم فيه، هذا هو الحزب السوري القومي الاجتماعي للأمة السورية.
“إنّ الغرض الذي أنشىء له هذا الحزب غرض أسمى، هو جعل الأمة السورية هي صاحبة السيادة على نفسها ووطنها. فقبل وجود الحزب السوري القومي الاجتماعي كان مصير هذه الأمة معلقاً على إرادات خارجية وكانت أنظارنا دائماً تتجه إلى الإرادات الخارجية بعد أن نكيّف أنفسنا وفاقاً لها. أما الآن فقد غيّر وجود الحزب السوري القومي الاجتماعي الموقف. إنّ إرادتنا نحن هي التي تقرر كل شيء فنحن نقف على أرجلنا وندافع عن حقنا في الحياة بقوّتنا. ومن الآن فصاعداً تدير إرادتنا نحن دفة الأمور. كل عضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي يشعر أنه آخذ في التحرر من السيادة الأجنبية والعوامل الخارجية المخضعة، لأنه يشعر أنّ الحزب هو بمثابة دولته المستقلة التي لا تستمد قوّتها من انتداب ولا تستند إلى نفوذ خارجي.
“الحقيقة، أيها الرفقاء، أننا قد ترابطنا في هذا الحزب لأجل عمل خطير جداً هو إنشاء دولتنا وليكون كل واحد منا عضو دولته المستقلة، والعمل ولا شك شاق فهل نعجز عنه؟
“إنّ الجواب على هذا السؤال يختلج في نفوسنا ويتردد ضمن صدورنا، وقد يخرج من حلوقنا ولكن إثباته على صفحات التاريخ يتوقف على جهادنا. فالتاريخ لا يسجل الأماني ولا النيات بل الأفعال والوقائع. وما أشك، وهذه الوجوه المتجلية فيها دلائل القوة والعزم ماثلة أمامي، في أنّ أفعالنا ووقائعنا ستثبت حكم إرادتنا التي تعرف عجزاً.
“إننا قد حررنا أنفسنا ضمن الحزب من السيادة الأجنبية والعوامل الخارجية ولكن بقي علينا أن ننقذ أمتنا بأسرها وأن نحرر وطننا بكامله. وفي هذا العمل الخطير نواجه صعوبات داخلية وخارجية يجب أن نتغلب عليها، مبتدئين بالأولى منها لأنه لا يمكننا أن نتغلب على الصعوبات الخارجية تغلباً تاماً إلا بعد أن نكون تغلبنا على الصعوبات الداخلية. وأول ما يعترضنا من الصعوبات الداخلية هو خلو مجموعنا من تقاليد قومية راسخة نتربى عليها ونتمسك بها. فنفسياتنا الشخصية هي دائماً في تضارب مع نفسيتنا العامة في كل ما له علاقة بقضايانا العامة وكيفية التصرف فيها. أضف إلى ذلك التقاليد المتنافرة المستمدة من أنظمتنا المذهبية وتأثيرها في مقاومة وحدة الشعب القومية. ولا بد لي هنا من التصريح بأن الحزب السوري القومي الاجتماعي قد أوجد طريقة التغلب على هذه الصعوبات بنظامه الذي يصهر التقاليد المنافية لوحدة الأمة والنفسيات الشخصية المنافية لنفسية الأمة. والنجاح الأخير يتوقف فعلاً على إدراكنا قيمة هذه الحقيقة وعلى تطبيقنا رموز الحزب الأربعة التي تربطنا ربطاً لا يحل التي هي: الحرية والواجب والنظام والقوة. وإنّ إدراكنا لحقيقة التغير الذي شرع الحزب السوري القومي الاجتماعي يحدثه في حياتنا القومية يجعلنا لا نغفل عن طبيعة التغير وما يصحبه من حوادث. والحقيقة التي تثلج صدرنا هي: أنّ السوريين القوميين الاجتماعيين عموماً يؤمنون بضرورة هذا التغير إيماناً تاماً، ويظهرون استعدادهم التام وعزمهم الأكيد على أن يحققوا انتصار مبادىء الحزب السوري القومي الاجتماعي مبتدئين كل واحد بنفسه. وفي هذا الصراع بين عوامل الرجعة وعوامل التجدد تؤمن بانتصار القوى الجديدة، القوى المجددة، القوى التي تريد أن تتغلب على كل ما يقف في طريقها للخروج من حالة عفنة لا نظام فيها ولا قوة، إلى حالة صحيحة عنوانها النظام وشعارها القوة، القوة الممثلة في الحزب السوري القومي الاجتماعي.
“كذلك أريد بهذه المناسبة أن أطرح أنّ نظام الحزب السوري القومي الاجتماعي ليس نظاماً هتلرياً ولا نظاماً فاشستياً، بل هو نظام قومي اجتماعي بحت لا يقوم على التقليد الذي لا يفيد شيئاً، بل على الابتكار الأصلي الذي هو من مزايا شعبنا.
“إنه النظام الذي لا بد منه لتكييف حياتنا القومية الجديدة ولصون هذه النهضة العجيبة، التي ستغيّر وجه التاريخ في الشرق الأدنى، من تدخّل العوامل الرجعية التي لا يؤمن جانبها والتي قد تكون خطراً عظيماً يهدد كل حركة تجديدية بالفساد، في ظل النظام البرلماني التقليدي الذي لا سلطة له في التكييف. أزيد أيضاً أنّ نظامنا لم يوضع على قواعد تراكمية تمكّن من جمع عدد من الرجال يقال إنهم ذوو مكانة يقفون فوق أكوام من الرجال تمثّل التضخم والتراكم بأجلى مظاهرهما، بل على قواعد حيوية تأخذ الأفراد إلى النظام وتفسح أمامهم مجال التطور والنمو على حسب مواهبهم ومؤهلاتهم. لقد بلغني وطرق أذني مراراً أنّ اعضاء دخلوا الحزب متوقعين أن يروا اصحاب المكانة المتضخمة على رأسه ولكن عجبهم لم يلبث أن تحوّل إلى إعجاب حين وجدوا أنّ سياسة الحزب الداخلية تتجه إلى الاعتماد على القوة الحقيقية، قوة السواعد والقلوب والأدمغة لا قوة المكانة. إنّ مكانة كثيرين من رجال الزمن الذي نريد أن يزول مستمدة بالأكثر من مبادىء لا تتفق في جوهرها ولا في شكلها مع المبادىء التي ستجدد بها حيوية أمتنا.
“إنّ مبادئنا القومية الاجتماعية قد كفلت توحيد اتجاهنا، ونظامنا قد كفل توحيد عملنا في هذا الاتجاه، ونحن نشعر أنّ التغيير يفعل الآن فعله الطبيعي.
“إنّ مبدأ “سورية للسوريين والسوريون أمة تامة” آخذ في تحرير نفسيتنا من قيود الخوف وفقدان الثقة بالنفس والتسليم للإرادات الخارجية.
“ليست القومية إلا ثقة القوم بأنفسهم واعتماد الأمة على نفسها. ومن هذه الجهة نرى أنّ مبدأنا هذا يكسبنا الحيوية المطلوبة لجعل شخصيتنا القومية ذات مثال أعلى خاص وإرادة مستقلة هي اساس كل استقلال. ومبدأ “أنّ الأمة السورية مجتمع واحد” هو مبدأ يجب أن يتغلغل في أعماق نفوسنا لأنه المبدأ الذي يضع شخصية أمتنا فوق جميع الأهواء والنزعات الموروثة من تربية لا تزال البعثات والمدارس الدينية تزيد ضرامها ـ حالة سيكون من أهم أعمالنا وضع حد لها وابتداء قومية صحيحة تحل محلها وتكفل توحيد عواطفنا. ومبدأ “إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على محلها وتكفل توحيد عواطفنا. ومبدأ “إلغاء الاقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج” مبدأ تقرر ليقوم عليه بناء نجاحنا الاقتصادي الذي لا بدّ منه لتوفير القوة المادية والحياة الصحيحة لمجموع الأمة.
“تحت عوامل مبادىء الحزب السوري القومي الاجتماعي تسير عملية تحرير افكارنا من عقائد مهترئة وأوهام قعدت بنا عن طلب ما هو جدير بنا كالوهم الذي يدعو إليه فريق من ذوي النفوس السقيمة والعقول العقيمة، وهو أننا قوم ضعفاء لا قدرة لنا على شيء ولا أمل لنا بتحقيق مطلب أو إرادة، وأنّ أفضل ما نفعله هو أن نسلّم بعجزنا ونترك شخصيتنا القومية تضمحل من بين الأمم، ونقنع بكل حالة نسير إليها. إنّ السوريين القوميين الاجتماعيين قد حرروا أنفسهم من مثل هذا الوهم الباطل وأخذوا على أنفسهم تحرير بقية الأمة منه. هذه مسؤولية ملقاة على عاتق كل عضو من أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي وهي مسؤولية تصغر أمامها كل المسؤوليات الأخرى، وتعظم مع عظمها حيوية كل فرد من افراد مجموعنا. وسورية الناهضة، القائمة على القوى الجديدة الممثلة في الحزب السوري القومي الاجتماعي ستكون غير سورية القديمة الرازحة تحت التقليد، المسترسلة إلى أوهام فاقدي الروح القومية وعديمي الثقة بالنفس. إنّ سورية الحزب السوري القومي الاجتماعي هي سورية الوحدة القومية المنظمة بطريقة تجعل المواهب المخزونة فيها قوة عامة قادرة على تحقيق ما تريد. إنّا نؤمن إيماناً تاماً بأن الروح المتولدة من مبادئنا ستنتصر انتصاراً نهائياً وتتغلب على جميع الصعوبات الداخلية، وإذا كان ذلك يحتاج إلى وقت فذلك لأن الوقت شرط اساسي لكل عمل خطير.
“أما الصعوبات الخارجية فتهون متى تغلبنا على الصعوبات الداخلية وتمركزت إرادة أمتنا في نظامنا الذي يضمن وحدتها ويمنع عوامل القسمة المتفشية خارج الحزب من التسرب إلى وحدتنا المتينة التي نضحي في سبيلها بكل ما تطلبه منا التضحية. وبهذه المناسبة لا أريد أن أتناول وجهة قضيتنا الخارجية بتمامها فلهذه فرصة عسى أن تكون قريبة. فاقتصر على ذكر مبدأ عام سائد في التاريخ هو أنّ مصير سورية يقرر بالمساومات الخارجية دون أن يكون للأمة السورية شأن فعلي فيه. وعلى هذا المبدأ تعتمد الدول الكبرى في مزاحمتها لبسط نفوذها علينا. وأنا أريد الآن أن أصرح أنّ إنشاء الحزب السوري القومي الاجتماعي ونموه المستمر سيتكفلان بطرد مثل هذه الوساوس من رؤوس السياسيين الطامعين.
“إننا نشعر الآن بوجود دعاوة إيطالية قوية في هذه البلاد خصوصاً، وفي الشرق الأدنى عموماً. وكذلك نشعر نحن بمثل هذه الدعاوة من جهة ألمانية وبمثل ذلك من دول أخرى. فزعامة الحزب السوري القومي الاجتماعي تحذر جميع الأعضاء من الوقوع فريسة للدعاوات الأجنبية. إننا نعترف بأن هنالك مصالح تدعو إلى إنشاء علاقات ودية بين سورية والدول الأجنبية وخصوصاً الأوروبية. ولكننا لا نعترف بمبدأ الدعاوة الأجنبية. يجب أن يبقى الفكر السوري حراً مستقلاً، أما المصالح المشتركة فنحن مستعدون لمصافحة الأيدي التي تمتد إلينا بنيّة حسنة صريحة في موقف التفاهم والاتفاق.
“يجب على الدول الأجنبية التي ترغب في إيجاد علاقات ودية ثابتة معنا أن تعترف، في الدرجة الأولى، بحقنا في الحياة، وأن تكون مستعدة لاحترام هذا الحق، وإلا فالإرادة السورية الجديدة لا تسكت عن المناورات السياسية التي يقصد منها استدراج أمتنا إلى تكرار الأغلاط السياسية التي ارتكبت والتي كانت وبالاً عليها.
“إنّ مهمة صون نهضتنا القومية الاجتماعية هي من أهم واجبات الحزب السوري القومي الاجتماعي، ولن نعجز عن القيام بها على أفضل وجه ممكن، فيمكن الدعاوات الأجنبية أن تتفشى في فوضى الأحزاب ولكنها متى بلغت إلى السوريين القوميين الاجتماعيين وجدت سداً منيعاً لا تنفذ فيه، لأن السوريين القوميين الاجتماعيين حزب غير فوضوي، ولأنهم لا يتمشون إلا على السياسة التي يقرّها حزبهم. ليسوا هم جماعة مبعثرة بل قوة نظامية.
“أعود فأقول إنّ هذه القوة النظامية ستغيّر وجه التاريخ في الشرق الأدنى. ولقد شاهد أجدادنا الفاتحين السابقين ومشوا على بقاياهم، أما نحن فسنضع حداً للفتوحات!
“تحت طبقة الثرثرة والصياح المنتشرة فوق هذه الأمة، يقوم السوريون القوميون الاجتماعيون بعملهم بهدوء واطمئنان، وتمتد روح الحزب السوري القومي الاجتماعي في جسم الأمة وتنظم جماعاتها. ولكن سيأتي يوم، وهو قريب، يشهد فيه العالم منظراً جديداً وحادثاً خطيراً ـ رجالاً متمنطقين بمناطق سوداء، على لباس رصاصي، تلمع فوق رؤوسهم حراب مسنونة، يمشون وراء رايات الزوبعة الحمراء، يحملها جبابرة من الجيش فتزحف غابات الأسنّة صفوفاً بديعة النظام. فتكون إرادة للأمة السورية لا ترد، لأن هذا هو القضاء والقدر!”.
(وقد ابتدأ الزعيم تعليقه على الخطاب الذي جعله محور محاضرته فتناول الفقرة الأولى منه التي تشير إلى أنّ العقيدة السورية القومية الاجتماعية تنشىء نظاماً جديداً فقال):
إنّ هذا الكلام يتفق مع ما شرحته في الاجتماع الماضي إذ قلت: إنّ معنى النهضة هو الخروج من التناقض والتضارب. إنها تعني وضوحاً وجلاء وصراحة ـ نظرة واضحة، فاهمة، واعية. وهذه الفكرة الواضحة في معنى النهضة كانت ملازمة للحركة القومية الاجتماعية منذ بدئها كما جاء في الخطاب الذي تلوته الآن والذي هو أول منهاج للحزب. “منذ تلك الساعة نقضنا بالفعل حكم التاريخ” يعني أننا بارتباطنا في وحدة العقيدة قد عكسنا قول التاريخ عنا إننا جماعة لا تجمعها رابطة، لا تكوّن شخصية، لا تكوّن مجتمعا موحد الحياة، بل جماعة أو جماعات من البشر متنافرة متباينة متعايشة ليس لها إرادة، لا تعمل ما تريد، بل ما يفرض عليها من المجتمعات الخارجية الفاهمة التي تستخدم مجموعنا وسيلة لبلوغ أغراضها وغاياتها هي.
هذا الخطاب يُعدّ الخطاب المنهاجي الأول الذي لفظ في الحزب السوري القومي الاجتماعي وهو يكون، في الصحيح، أول شرح لمبادىء الحزب وكيفية فهمها وتطبيقها في حياتنا. وبديهي أنّ قصدنا نحن بالمبادىء ليس فقط صوراً جميلة على الورق، بل قوة فاعلة في الحياة ـ حياة تعمل وتنشىء وترتقي وتحقق وتخلق. وإذا تتبعنا هذا الخطاب من أول فقراته اتضحت لنا نقاط أساسية هامّة جداً خليق بنا أن نحيط بها وأن نفهمها فهماً لا التباس فيه.
إنّ أول نقطة هي ما علقته على نظرتي إلى أنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي يشكل خروجاً من الفوضى إلى الاتجاه، إلى النظام، إلى وحدة الاتجاه. ووحدة الاتجاه تعني حتماً وحدة النظر إلى الحياة، لأنه لا يمكن أن نوحد اتجاهنا إذا لم تكن لنا نظرة واحدة إلى الحياة والكون والفن.
القصد الأساسي في الحزب السوري القومي الاجتماعي هو توحيد اتجاه الأمة الموجودة مصغرة في الحزب. وإذا قلنا إنّ الأمة هي الحزب السوري القومي الاجتماعي، وإنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي هو الأمة، لم نقل إلا الحقيقة الحرفية المجرّدة، لأن الأمة هي هيئة تحقق فيها الوعي وحصلت النظرة الفاهمة الواضحة الصريحة إلى الحياة والكون والفن، فحيث لا توجد هذه الأسس تظل الأمة موجودة في حالة إمكانية فقط ولا تصير حقيقة إلا بعد أن يحصل الوعي للحقائق الأساسية التي تكوّن وحدة الاتجاه وخطط الاتجاه التاريخي. وإننا لا نجد هذه الأسس في سورية الطبيعية كلها إلا في الحزب السوري القومي الاجتماعي.
ولما كانت الأمة قد نشأت نشوءاً جديداً في الحزب السوري القومي الاجتماعي كان لنا الحق الطبيعي أن نقول إننا “منذ الساعة التي أخذت فيها عقيدتنا القومية الاجتماعية تجمع بين الأفكار والعواطف وتلّم شمل قوات الشباب المعرضة للتفرقة بين عوامل الفوضى القومية والسياسية المنتشرة في طول بيئتنا وعرضها وتكون من هذا الجمع وهذا اللّم نظاماً جديداً ذا أساليب جديدة يستمد حياته من القومية الجديدة وتعاليمها الاجتماعية، هو نظام الحزب السوري القومي الاجتماعي. منذ تلك الساعة انبثق الفجر من الليل وخرجت من الجمود وانطلقت من وراء الفوضى قوة النظام، وأصبحنا أمة بعد أن كنا قطعاناً بشرية، وغدونا دولة تقوم على أربع دعائم: الحرية، الواجب، النظام، القوة، التي ترمز إليها أربعة أطراف الزوبعة القومية الاجتماعية الممثلة في علم الحزب السوري القومي الاجتماعي.
“منذ تلك الساعة نقضنا، بالفعل، حكم التاريخ وابتدأنا تاريخنا الصحيح، تاريخ الحرية والواجب والنظام والقوة ـ تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، تاريخ الأمة السورية الحقيقي”.
عندما ننتقل إلى نقطة جديدة من هذا الخطاب، هي الموجودة في الفقرة حيث أقول “مبدأ أنّ المبادىء توجد للشعوب، لا الشعوب للمبادىء ـ مبدأ أنّ كل مبدأ لا يخدم سيادة الشعب نفسه ووطنه هو مبدأ فاسد ـ مبدأ أنّ كل مبدأ صحيح يجب أن يكون لخدمة حياة الأمة”، نجد نظرة واضحة في أساس الحياة والوجود الذي تقوم عليه نهضتنا.
وهنا قد يبدو أنّ هنالك تضارباً بين ما نعنيه من استعدادنا للسقوط في سبيل مبادئنا الوارد في فقرة سابقة وبين “أنّ المبادىء وجدت للحياة” لا لإفناء الحياة. فقد يخطر للبعض هذا السؤال: كيف نبذل أنفسنا في سبيل المبادىء إذا كانت المبادىء وجدت لتبذل نفسها في سبيلنا؟
نحن نبذل أنفسنا في سبيل المبادىء يعني: أننا نبذل أنفسنا أفراداً في سبيل تحقيق المبادىء التي في تحقيقها تحقيق لحياة أمة، وليس أنّ المبادىء مستقلة عن الأمة، خارجة عنها لا علاقة ولا صلة لها بها، وأننا من أجل المبادىء بذاتها، وليس لأنها تعني حياة الأمة، نحن مستعدون للتضحية.
نحن مستعدون لكل تضحية من أجل انتصار المبادىء وانتصار الأمة بواسطة انتصار هذه المبادىء، فإذا وجدت مبادىء لا يمكن أن تعني حياة الأمة، فمهما كانت جميلة في حد ذاتها ومهما كانت رائعة، ساحرة، فهي لا تستحق أن نبذل النفس في سبيلها ولا أن نضحي.
حينما تعني المبادىء حياة الأمة الجيدة، المرتقية، في هذا العراك، نحن مستعدون كلنا للتضحية لكن الذين يسقطون يظلون جزءاً من الكل يسقط في سبيل الكل، حتى إذا تحقق خير الكل وجد الكل في هذا التحقيق ما يرضي القيم الإنسانية العليا التي يفيض خيرها على مجموع الشعب تحقيقاً لما يتمنى المرء في نفسه لأمته أولاً ولنفسه ثانياً، وليس لنفسه أولاً ولأمته ثانياً.
من هذا الشرح يظهر جيداً أن لا تناقض بين أنّ المبادىء توجد لخدمة حياة المجتمع وأننا مستعدون لبذل النفس في سبيل المبادىء. كل واحد منا مستعد أن يسقط في سبيل المبادىء من أجل أن تحيا المبادىء وأن تحيا الأمة بهذه المبادىء.
فهنا توجد قاعدة مبدئية إنسانية في الحزب السوري القومي الاجتماعي وهي: إنّ المبادىء للانسان الحي وليس الإنسان للمبادىء. قال الدكتور خليل سعاده: “ليست الحياة وسيلة لتشريف الدين، بل الدين وسيلة لتشريف الحياة”، فقيمة المبادىء للأمة هي بمقدار ما تعني وتعمل لحياة الإنسان الجيدة لا بقدر ما هي خيالات جيدة في أدمغة بعض المفكرين.
من هذا الشرح يتضح أيضاً لماذا نقول إنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي ليس جمعية أو حلقة تحاول أن تقوم ببعض أعمال بسيطة أو تتفاعل في جزئيات تهم هذا العدد القليل أو الكثير في أنفسهم ولأنفسهم فقط، كما قد يكون عالقاً بأذهان بعض الناس أو بعض الأعضاء في الحزب الذين لمّا يتفهموا حقيقة الحزب وحقيقة مهمته العظمى كما عاد فعلق بذهن البعض، بعد مرور سنين كثيرة على نشوء الحزب القومي الاجتماعي، الظن الخاطىء أنه لم يكن للحزب السوري القومي الاجتماعي نظرة إلى الحياة والكون والفن، لمجرّد أنهم هم لم يقبلوا على تفهّم هذه النظرة التي بها تقوم رسالة الحزب القومي الاجتماعي. ليس الحزب السوري القومي الاجتماعي. ليس الحزب السوري القومي الاجتماعي عدداً من الناس مجتمعين للمناداة بوحدة سورية فحسب، أو للعمل للنيابة كما يعمل المشتغلون في السياسة متآزرين ومتكتلين لمصلحة شخصية، خصوصية.
إنّ أرقى درجة يبلغ إليها التمثيل السياسي في الحكومات عندنا هي عندما يقوم النائب بالعمل للمنطقة التي هو منها، أو لنفع أشخاص من منطقته أو لمن له بهم صلات شخصية بحتة. (وأعطى الزعيم أمثلة عن عمل نواب المناطق المختلفة) هذا معظم ما يبلغ إليه الفكر السياسي “المناقبي” في الدول الحاضرة. وهذه الدرجة العالية هي حقيرة بالنسبة إلى ما نرمي إلى تحقيقه نحن. عندما يفوز نائب من الحزب في أية حكومة من حكوماتنا لن يكون همّه أن يحقق الأمور الشخصية أو المنطقية (نسبة إلى المنطقة) بل تكون مهمته القيام بمجهود كبير قومي من أجل المصالح القومية عامة، كل المصالح الأساسية التي تتوقف عليها سلامة الأمة ومصيرها وارتقاء حياتها. فالأمور التي نُعنى بها نحن ليست جزئيات بل كليات تتعلق بحياة الأمة في أساسها، بجوهر الحياة وتجاه الحياة الأسمى والأكمل والأفضل ولذلك قلت في خطابي: “هذا هو الحزب السوري القومي الاجتماعي للذين وحدوا إيمانهم وعقائدهم فيه، هذا هو الحزب السوري القومي الاجتماعي للذين وحّدوا قوّتهم فيه، هذا هو الحزب القومي الاجتماعي للأمة السورية”.
ولما كان الحزب السوري القومي الاجتماعي هو الأمة مصغرة، كان عليه أن يعتبر نفسه، في حقيقته واتجاهه وأهدافه، دولة الشعب السوري المستقلة. ولذلك أعلنت أنّ القوميين الاجتماعيين يشعرون أنّ الحزب هو بمثابة دولتهم المستقلة.
وهذا يعني أنّ الحكومات السورية المستمدة من الانتداب الأجنبي، الخاضعة للانتداب الأجنبي، لا تمثل بالفعل إلا تلك الإرادات الأجنبية. فالحزب السوري القومي الاجتماعي بمجرّد نشأته المستمدة من إرادة الأمة هو بالفعل الدولة الصحيحة المستقلة فعلاً.
هذه هي النظرة الحقيقية لوجود الحزب السوري القومي الاجتماعي ولذلك عبّرنا عنه أنه دولة الأمة السورية المستقلة. ونحن لا نعلن هذا اليقين من أجل الافتخار، بل من أجل ما نعنيه فعلاً وهو حقيقة جوهرية أكيدة. ولذلك قلت: “إننا قد حررنا أنفسنا ضمن الحزب من السيادة الأجنبية والعوامل الخارجية، ولكن بقي علينا أن ننقذ أمتنا بأسرها وأن نحرر وطننا بكامله. وفي هذا العمل الخطير نواجه صعوبات داخلية وخارجية يجب أن نتغلب عليها مبتدئين بالأولى منها”.
إنّ هذه النقطة لا تزال تعني للحزب السوري القومي الاجتماعي خطة أساسية جوهرية لا يتقدم عنها قبل تحقيقها، فالتغلب على الصعوبات الداخلية هو هدف من الأهداف الرئيسية التي يجب أن نبلغها أولاً ثم نتقدم إلى التغلب على الصعوبات الخارجية إذ “لا يمكننا أن نتغلب على الصعوبت الخارجية تغلباً تاماً إلا بعد أن نكون قد تغلنا على الصعوبات الداخلية”.
كيف يمكننا أن نقف أمام الإرادات الأجنبية مبعثرين متنافرين متقاتلين؟ لا يمكننا أن نواجه القضايا الخارجية بنجاح لمقاصدنا في الحياة إلا بعد أن نتغلب على الصعوبات الداخلية ونجعل الأمة وحدة حياة ووحدة مقاصد ووحدة إرادة ووحدة مصير.
هنالك فقرة خاصة في الخطاب تشير إلى قضية خطيرة من القضايا التي يجب علينا حلها في الحزب السوري القومي الاجتماعي. إنّ نظامنا يرمي إلى صهر التقاليد المنافية لوحدة الأمة. والتقاليد كما أوضحت في نشوء الأمم (أنظر ج 3 ص 141) ليست شكلية، سطحية، بل لها مساس بالاقتناعات العميقة في نفس الإنسان، وهي تختلف عن العادات، فالعادات هي التي يمكن أن تتغير بسهولة لأنها تتعلق بسطحيات الحياة أما التقاليد فلها علاقة بالاقتناعات النفسية العميقة.
فالتقاليد التي تمثل إما مبادىء أو استمراراً ليست لأجل حياة الأمة وارتقائها يجب أن تصهر لأجل الحياة وليس لأجل أن تكون الحياة لها. إنّ التقاليد هي، في عرفنا، كالمبادىء، للحياة وليست الحياة للتقاليد.
والقضية التالية هي قضية الشخصية الفردية المنافية لنفسية الأمة وشخصيتها وارتقائها:
من الأول رأينا أنّ النزعة الفردية والرأي النفعي الفردي الشخصي هما مرض من أعظم الأمراض، وصعوبة من أعظم الصعوبات الداخلية التي يجب أن نتغلب عليها لنواجه العالم الخارجي كوحدة متينة وإرادة واحدة. فواضح، إذن، كم هو صحيح هذا القول: “والنجاح الأخير يتوقف، فعلاً، على إدراكنا قيمة هذه الحقيقة وعلى تطبيقنا رموز الحزب الأربعة التي تربطنا ربطاً لا يحل وهي: الحرية والواجب والنظام والقوة”.
وكذلك هام جداً أن نلاحظ هذا القول الهامّ: “وإنّ إدراكنا حقيقة التغيّر الذي شرع الحزب السوري القومي الاجتماعي يحدثه في حياتنا القومية يجعلنا لا نغفل عن طبيعة التغيّر وما يصحبه من حوادث” أي إننا كنا ننتظر، وكنا ننتظر منذ البدء، أنّ هنالك حوادث ستحدث ضمن عملية التغيّر. إنّ أفراداً وجماعات ـ إنّ كتلاً كثيرة، كبيرة أحياناً ـ تقول: “جيد، أعطونا الحرية لنؤيد هذا الحزب العامل لإعطائنا الحرية”. ولكنهم لا يفطنون إلى أنّ للحرية في هذا الحزب مقياساً يختلف عن مقاييسهم.
إنهم يريدون أن ياتوا إلى الحرية بكل السلاسل والقيود التي يرسفون فيها. يريدون أن يأتوا إلى ساحة الحرية مكبلين، ولا يريدون أن يقطعوا هذه السلاسل التي اعتادوا رنينها حتى إنهم لا يتمكنون من النوم إلا على رنينها! إنّ الحرية عندنا، تعني تقطيع السلاسل وكسر القيود، وأن نأبى الحزن على تقطيعها وتكسيرها والتخلص منها!
كنا ننتظر من البدء أنّ عملية التغيير ستلاقي حوادث من داخل الحزب السوري القومي الاجتماعي ومن خارجه. مع ذلك ومع انتظارنا هذه الحوادث كنت مؤمناً بأن القومية الاجتماعية ستنتصر في الأخير. ولذلك قلت: “إنّ السوريين القوميين الاجتماعيين، عموماً، يؤمنون بضرورة هذا التغيّر إيماناً تامّاً، ويظهرون استعدادهم التام وعزمهم الأكيد على أن يحققوا انتصار مبادىء الحزب السوري القومي الاجتماعي، مبتدئين كل واحد بنفسه”، أي أن يبتدىء كل واحد بالخير في نفسه فلا يعوقه عن السير في الحياة الجديدة نحو مطالب الحياة الجديدة شيء، ومعنى هذا تولد القوة المجددة الصحيحة “التي تريد أن تتغلب على كل ما يقف في طريقها، للخروج من حالة عفنة لا نظام فيها ولا قوة إلى حالة صحيحة عنوانها النظام وشعارها القوة”.
والنظام، في عرفنا، هو ما قلت وكررت أنه لا يعني الترتيبات الشكلية الخارجية، بل هو نظام الفكر والنهج، ثم نظام الأشكال التي تحقق الفكر والنهج.
النظام في عرفنا ليس مجرّد تنظيم دوائر وصفوف. النظام شيء عميق جداً في الحياة. ولذلك قلت إنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي هو قوة ستغيّر وجه التاريخ.
ينتقل الخطاب من هذه المسائل الأساسية إلى النواحي التطبيقية. ففي سير الفكر والتسلسل نصل إلى هذه النقطة “إنّ نظام الحزب هو النظام الذي لا بدّ منه لتكييف حياتنا القومية الجديدة ولصون هذه النهضة العجيبة، التي ستغيّر وجه التاريخ في الشرق الأدنى، من تدخّل العوامل الرجعية التي لا يؤمن جانبها والتي قد تكون خطراً عظيماً يهدد كل حركة تجديدية بالفساد، في ظل النظام البرلماني التقليدي الذي لا سلطة له في التكييف”. وهنا نصل إلى أمور تتعلق بكيفية تطبيق منهاج هذه النهضة. فما قلته يعني أننا نعتقد أنّ النظام الانتخابي الحاضر لا يمكن أن يكون الواسطة الصالحة لتحقيق المبادىء الجديدة ولتحقيق التغيّر. أي لنقل الأمة من حياة وحالة حياة إلى حياة وحالة حياة أخرى، لأنه في هذا النظام الاستمرار والتراكم هو الذي له اليد العليا على الخلق وعلى الفاعلية.
لذلك عندما كان يسألني بعض الأشخاص كيف يكون نهج الحزب السوري القومي الاجتماعي عند استلامه الحكم كنت أقول: “إنكم لا تفهمون الحزب السوري القومي الاجتماعي” وكان ذلك صحيحاً لأنهم لم يكونوا دارسين اتجاهات الحزب.
كنت أيضاً أزيد إنّ نظامنا لم يوضع على قواعد تراكيمة؟ إننا لا نجمع أعضاء كيفما اتفق. إنّ قواعد التراكم هي من قواعد الجماد لا من قواعد الحياة. إنّ الحياة تنمو وتنتعش وتمتد وتتسع، أما الجماد فباقٍ كما هو من الخارج يتراكم… نحن قوة حيوية. نحن نفعل من داخل الحياة ولا نقبل التراكم من الخارج. نحن قوة تنمو كما ترون بقوة من داخلنا نحو الشباب والرجولة، ولا نتراكم كطبقات الجماد. نحن قوة تنمو وتتحرك وتنفعل وتنشىء ولسنا تراكم جماد لا حياة ولا قوة له.
ولذلك عندما أوضحت بالمقاييس المحصورة هذه القوة قلت إنها قوة السواعد الحرة، قوة القلوب، قوة الشعور، قوة الإحساس المرهف، قوة الأدمغة، قوة التفكير والتوليد والإبداع والتصور، لا قوة المكانة المتراكمة.
المكانة الاجتماعية تمثل قوة تراكمية مع الزمن اكتسبت نفوذاً وصار هذا النفوذ يستمر ويتراكم ويقوى بمساعدة العادة ومرور الزمن.
أما نحن فلسنا على هذه القوة بمعتمدين: أي فرد من أفراد الأمة فيه مبدأ الحياة هو الذي يهمّنا، أكان ذا مكانة تراكمية أم لم يكن، لأن فيه فاعلية الحياة والنمو التي لا توجد في الأشياء التراكيمة.
في هذه القواعد الارتكازية المختصرة في هذا الخطاب، المزحومة فيه، وفي هذا الاستعراض المختصر جداً يمكننا أن نعدّ أنه مبرر كل التبرير هذا القول: “إننا نؤمن إيماناً تاماً بأن الروح المتولدة من مبادئنا ستنتصر انتصاراً نهائياً وتتغلب على جميع الصعوبات الداخلية، وإذا كان ذلك يحتاج إلى وقت فذلك لأن الوقت شرط أساسي لكل عمل خطير”.
وبديهي أن لا ينتظر أحد أنّ هذا التغيير الخطير جداً سيتم بين ليلة وضحاها. ولكن متى ابتدأت مبادىء الحياة توقط وتنشىء وتوجه، أصبحت المسألة مسألة وقت، ومتى صارت مجرّد مسألة وقت لم يعد هنالك من شك في النتيجة النهائية. “أما الصعوبات الخارجية، فتهون متى تغلبنا على الصعوبات الداخلية وتمركزت إرادة أمتنا في نظامنا الذي يضمن وحدتها ويمنع عوامل القسمة المتفشية خارج الحزب من التسرب إلى وحدتنا المتينة التي نضحي في سبيلها بكل ما تطلبه منا التضحية”. إذ إنّ نظامنا هو الوحيد الذي يؤمل أن يكفل لهذه الأمة مستقبلاً غير الحالة الزرية التي تتعثر فيها.
من الأمور الهامّة في هذا الخطاب أننا أعلنّا، منذ البدء، محاربتنا للدعاوات الأجنبية ونبهنا إلى خطر المطامع الألمانية والإيطالية، ومنذ البدء أوضحنا أنه إذا كان يمكن أن يكون هنالك أية علاقة في الشكليات مع المانية أو مع إيطالية فهذا الاتفاق في الشكليات لا يعني ولا بصورة من الصور أنّ الحزب قد استمد من تلك المصادر أية فكرة من الفكر التي قام عليها. وفي الخطاب تصريح واضح أن نبقي الفكر السوري حراً مستقلاً، لأنه متى خضع الفكر القومي لفكر أجنبي فماذا يبقى من الاستقلال؟ وإذا خضع النظر إلى قيم الحياة إلى نظر أجنبي فماذا يبقى من الاستقلال”
إنّ الأمم تتشابه في تشكيلاتها. إنّ الأنظمة تتشابه في الدول البرلمانية، والأساليب العسكرية تتشابه في جميع الدول. لكن التشابه بين جيش وجيش لا يعني أنّ هذا التشابه يضع إحدى هذه الأمم تحت إيعاز أو خضوع لأمّةٍ أخرى. كذلك إذا تشابهت بعض الشكليات بين الحزب السوري القومي الاجتماعي ودول أخرى، فما ذلك إلا لأن بعض الأوضاع، في ذاتها، تطلب بعض الأشكال في ذاتها.
لذلك ومنذ ذلك الوقت وحين كان الحزب لا يزال سرِّياً غير معروف لا من السلطات ولا من الوساط الشعبية، أعلنت للقوميين الاجتماعيين في اجتماع سري “إننا نشعر الآن بوجود دعاوة من جهة إيطالية قوية في هذه البلاد، خصوصاً، وفي الشرق الأدنى عموماً. وكذلك نشعر نحن بمثل هذه الدعاوة من جهة المانية وبمثل ذلك من دول أخرى. فزعامة الحزب السوري القومي الاجتماعي تحذّر جميع الأعضاء من الوقوع فريسة للدعاوات الأجنبية”. هذا ما أعلن نحو ستة أشهر قبل اكتشاف الحزب وإزاحة الستار عنه للرأي العام [سنة] 1935.
إننا ارتبطنا لنسير على سياسة واحدة في نظام له منا كل ولائنا في الحزب القائم على يقين كلي وإيمان مطلق لا سبيل، معه، إلى الشكوك. فالشكوك تكوّن الجبن والخوف والتردد والفوضى وعدم الوضوح. فلا سبيل لهذه المخاوف إلى يقيننا.
إنّ الذين لا يثقون بحقيقة قضيتهم لا يثقون بحزبهم ونظامهم ولا بشيء على الإطلاق، ومتى حلت الثقة محل الشكوك، متى حل الإيمان محل الشك، قضى على التردد والفوضى والبلبلة. فإذا كنا نعود من الإيمان إلى الشك كان لائقاً أن نقول بحق إننا لا نتقدم بل نتراجع.
يمكننا أن نتقدم من الشك إلى الإيمان، ولا يمكننا أن نتقدم من الإيمان إلى الشك، بل يمكننا أن نرجع القهقرى.
بمثل هذا اليقين بهذه الحقيقة الصريحة الواضحة تصورت أنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي ينمو، يوماً بعد يوم، ليصير تلك الصفوف من الرجال “المتمنطقين بمناطق سوداء على لباس رصاصي، تلمع فوق رؤوسهم حراب مسنونة يمشون وراء رايات الزوبعة الحمراء يحملها جبابرة من الجيش، فتزحف غابات الأسنة صفوفاً بديعة النظام، فتكون إرادة للأمة السورية لا ترد، لأن هذا هو القضاء والقدر”.
بيقين مثل هذا فقط يمكن الانتصار. بهذا الإيمان بمبادئنا، بأمجادنا، بحقيقتنا، بأننا قضية، بأننا الخير والحق والجمال كله، نحقق كل ما هو سامٍ وجميل وخيّر للمجتمع.
هذا بالاختصار ما عناه خطاب أول يونيو/ حزيران 1935.
في 18 يناير/ كانون الثاني 1948
دوّنها الأمين جورج عبد المسيح
النظام الجديد، بيروت، المجلد 1، العدد 2، 1/4/1948. ص 7 ـ 23