محاضرة الزعيم السادسة في الندوة الثقافية
أيها الرفقاء والأصدقاء،
في حديثنا في الاجتماع الأخير تناولت المبدأ الخامس والمبدأ السادس من مبادىء الحركة القومية الاجتماعية. والآن أعيد قراءة المبدأ الخامس القائل: الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية، وهي ذات حدود جغرافية تميّزها عن سواها تمتد من جبال طوروس في الشمال الغربي وجبال البختياري في الشمال الشرقي إلى قناة السويس والبحر الأحمر في الجنوب شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة ومن البحر السوري في الغرب، شاملة جزيرة قبرص، إلى قوس الصحراء العربية وخليج العجم في الشرق. ويعبّر عنها بلفظ عام: الهلال السوري الخصيب ونجمته جزيرة قبرص.
هذا هو نص المبدأ الخامس من المبادىء الأساسية للحركة السورية القومية الاجتماعية.
في الاجتماع الأخير كانت معلقة خريطة كبيرة كان يمكننا أن ندرس عليها بوضوح وتفصيل الحدود التي ينص عليها هذا المبدأ. أما اليوم فقد ظن الرفقاء أننا لن نحتاج إلى الخرائط لذلك لم يعلقوها.
أدل على الحدود في هذه الخريطة الصغيرة. هذه جزيرة قبرص ـ جبال طوروس ـ جبال البختياري تكوّن قوساً من جبال ـ ترعة السويس ـ البحر الأحمر فقوس الصحراء العربية.
وأوضحت في حديثنا الأخير طبيعة البلاد الداخلية وأشرت إلى الفرق بين الصحراء السورية والصحراء العربية. الصحراء السورية بين دمشق وبغداد والصحراء العربية التي هي من وادي السرحان فما دون. وقلت إنّ الصحراء السورية تختلف عن الصحراء العربية بأنها ترابية اي أنها صحراء صالحة للفلح والري والزراعة، وأنها كانت مزروعة ينبت فيها نبات ولكنها أقفرت وأجدبت بعوامل متعددة. أم الصحراء العربية فهي صحراء رملية تختلف جداً عن الصحراء السورية لتي ليست هي بالحقيقة صحراء بالمعنى الصحيح.
إنّ كلمة صحراء بالمعنى الصحيح تطلق على الأراضي الرملية التي لا يمكن زرعها وفلحها.
ولكن، بما أنّ هذه القطعة من الأرض أصبحت جديبة مقفرة أطلق عليها اسم صحراء وسميت بالصحراء السورية، تمييزاً لها عن الصحراء العربية القاحلة التي هي إلى الجنوب منها.
في هذه الخريطة ترون كم هي جزيرة قبرص متممة للأرض كما ياتي في الشرح أنها قطعة من سورية في الماء وهذا واضح. هذه الجزيرة قريبة من الشاطىء متمة لهذه الأرض.
ثم تناولت أيضاً المبدأ القائل: الأمة السورية مجتمع واحد. وتكلمت على أهمية هذا المبدأ في النهضة السورية القومية الاجتماعية.
وننتقل اليوم إلى المبدأ السابع. المبدأ السابع يقول: “تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي”. يتضح من هذا المبدأ وهذا الكلام أنّ الاستقلال الروحي شيء واضح جداً ومبدأ فاعل له فاعلية عظيمة في حركة الحزب السوري القومي الاجتماعي. هو يوجه الفكر والشعور إلى الحقيقة الداخلية، إلى حقيقة هذه الذات الفاعلة التي هي المجتمع السوري بكل طبيعته بكل مواهبه بكل مثله وأمانيه. وقد قلت في حديث سابق وفي الاجتماع الأخير أيضاً إنّ النفسية السورية، إنّ هذه الحركة التي تميّز وتعبّر عن هذه النفسية هي الناحية الذاتية من هذا الوجود، الناحية الفاعلة فيما هو وضع وفيما هو كون.
نحن نكوّن الناحية السلبية، والأرض، وهذا الكون الذي أمامها هو الناحية الايجابية لنا. ومن هذا يقتضي أن يكون لنا استقلال نفسي بكل معنى الكلمة. ولست أدري كيف أنّ وجود مبدأ مثل هذا المبدأ، المبيّن في تعاليم الحركة السورية القومية الاجتماعية، لم يكن كافياً للمفكرين والأدباء في هذه البلاد ليدركوا أنّ حركة تقول بمبدأ من هذا النوع ليست بالحركة التي يمكن أن تخضع أو تسخّر لأغراض غريبة عن ذاتيتها أو مقاصدها في الحياة والفن.
لقد جاء في شرح المبدأ: “والحقيقة أنّ من أهم عوامل فقدان الوجدان السوري القومي، أو من عوامل ضعفة، إهمال نفسية الأمة السورية، الحقيقية، الظاهرة في إنتاج رجالها الفكري والعملي، وفي مآثرها الثقافية، كاختراع الأحرف الهجائية، التي هي أعظم ثورة فكرية ثقافية حدثت في العالم، وإنشاء الشرائع التمدنية الأولى، ناهيك بآثار الاستعمار والثقافة السورية المادية ـ الروحية والطابع العمراني، الذي نشرته سورية في البحر السوري المعروف في الجغرافية بالمتوسط، وبما خلّده سوريون عظام كزينون وبارصليبي ويوحنا فم الذهب وافرام والمعري وديك الجن الحمصي والكواكبي وجبران وطائفة كبيرة من مشاهير الأعلام قديماً وحديثاً.
“أضف إلى ذلك قوادها ومحاربيها الخالدين من سرجون الكبير إلى أسرحدون وسنحاريب ونبوخذ نصر وأشورباني بال وتقلاط فلاصر إلى حنون الكبير إلى هاني بعد أعظم نابغة حربي في كل العصور وكل الأمم إلى يوسف العظمة الثاوي في ميسلون”.
إذا تأملنا في هذا الشرح وجدنا منه خصائص ومزايا للنفس السورية التي قلت إنها ليست شرقية كما يظن وكما لا يزال يتكرر في الصحف ووالكتب في مجتمعنا.
من النظر في مآثر هذه الأمة، من النظر في أعمالها، من النظر في سيرها، في أدبها، في مكتشفاتها يتضح جلياً أنّ هذه الأمة ليست شرقية بالمعنى النفسي. هي ليست ذات نفسية شرقية لأن من خصائص النفسية الشرقية المعروفة والمعرّفة بهذا التعريف، إنّ من خصائص هذه النفسية ليس الاتجاه إلى المستقبل وليس النظر في الكون وطبائعه بقصد معرفته وبقصد تسليط العقل عليه، بل هي نفسية منصرفة إلى الشؤون الخفية من الاتجاهات النفسية. هذه النفسية لها نقطة ارتكاز أساسية هي ما يسمونه باللغات الفرنجية Mysticism. إنها تجنح بكليتها إلى الخفاء، إلى التعاليل الخفية للوجود وأغراض الوجود وتنتهي في الأخير في الغيب وفي الاعتناق الغيبي للمفترض الغيبي الذي تتجه إليه النفس، وتنتهي أخيراً فيما يسمونه باللغة الهندية “النرفانا”.
نحن لسنا نرفانيين. إنّ الاتجاه إلى اختراع الحروف الهجائية يدل على أنّ لنا ناحية عملية قديمة في الحياة.
إنّ الاستعمار وتنظيم المستعمرات وسلك البحار وإنشاء المستعمرات وتنظيم التجارة ووالمعاملات، درس طبائع الأشياء، الاتجاه إلى الاختراع والاتجاه نحو الفتوحات الحربية والفكرية تستر نظرة ذاتية مسيطرة طالبة التفوق وإخضاع المادة لأغراضها وذاتيتها.
هذه حقيقة قوية تختلف كل الاختلاف عن حقيقة التجرّد الوجودي والاتجاه نحو الغيب وترك محل الكيان الذاتي في الوجود.
في هذا المبدأ يتضح أننا لسنا من الذين يصرفون نظرهم عن شؤون الوجود إلى ما وراء الوجود. لسنا من الذين ينصرفون إلى ما وراء الوجود بل من الذين يرمون بطبيعة وجودهم إلى تحقيق وجود سام جميل في هذه الحياة وإلى استمرار هذه الحياة سامية جميلة.
إذا قلت إنّ سورية هي التي نشرت الطابع العمراني في البحر المتوسط الذي صار أساساً للتمدن الغربي الحديث، فإني أقول ذلك بأدلة وثيقة حتى من التاريخ الذي كتبه مؤرخون هم من تلامذة المدرسة الإغريقية ـ الرومانية، بعد انقراض المدرسة السورية للتاريخ. وعندما أقول تلامذة المدرسة الإغريقية ـ الرومانية للتاريخ أعني مدرسة التاريخ التي رمت إلى تشنيع كل صفة للشعب السوري بعامل العداوة بين السوريين والإغريق أولاً ثم بين السوريين والرومان أخيراً.
ففي الصراع العنيف على السيادة البحرية في المتوسط بين السوريين والإغريق أولاً ثم بين السوريين والرومان نشأ صراع قوي جداً بين أدب الإغريق وأدب السوريين وبين أدب السوريين وأدب الرومانيين. وقد أتيت بلمحة صغيرة في حديثي الماضي عن كيفية تشويه الحقائق التاريخية مثلاً ما رواه “النبع”، المصدر التاريخي للحروب الفينيقية المعروفة بالتسمية (بونك) تحريف الفينيقية عن الإغريق.
فوليبيو هو المصدر الأساسي لكل من يريد أن يكتب في تاريخ الحروب الفينيقية الثلاث التي نشبت بين قرطاضة ورومة. ففي رواية فوليبيو عن كيفية قطع هاني بعل لجبال الألب والبيراينيه قصد تشويه هذه الحملة التي لم يسبق لها مثيل ولم تصل إلى عظمتها أية محاولة شبيهة بها من قبلها أو من بعدها. قال مخطّئاً الذين يرون في هذا القطع لأعظم جبال في أوروبة عملاً عظيماً ـ قال إنه سبق لجماعات بشرية أن قطعت جبال الألب، وعنى بالذين عبروا تلك الجبال جماعات متوحشة من الجلالقة أو غيرهم واراد أن يقرن بين انتشار جماعات متوحشة بغير قصد، تدفعها في ارتحالها عوامل عمياء أو اضطرار قاهر، وبين حملة عسكرية مرتبة منظمة في الدماغ من قبل، مهيأة بترتيب ومجهزة بقصد وواضح وترتيب للقيام بها مع تقدير لكل خطورتها وبقصد، ليس فقط اجتياز هذه الجبال، بل إخضاع العدو.
إنّ تصميماً عظيماً من هذا النوع لا يمكن أن يمثل بجماعات متوحشة يمكن أن تصعد وتنزل في الجبال. إنّ فرقاً عظيماً بين هذين.
مع ذلك لم يجد فوليبيو أي فرق ولم يرد أن يجد أي فرق لأنه قصد في روايته لها أن يحقر كل عمل قام من الناحية السورية.
هذا مثل واحد وهنالك أمثال عديدة من هذا النوع تدل على كيفية رمي المدرسة الإغريقية ـ الرومانية التاريخية إلى تشويه الحقيقة السورية وعدم الاعتراف بأي فضل لها أو بأية قيمة. ولما كان لم يسلم، لا من حريق صور بعد فتح الإسكندر ولا من حريق قرطاضة بعد فتح سيبيو، كتبٌ عن التاريخ السوري أصبح التاريخ السوري وتأويل التاريخ ورواية التاريخ وقفاً على اتجاه المدرسة الإغريقية ـ الرومانية التي بخست السوريين حقهم في الإنشاء والإبداع والعمران.
أعود إلى الشرح: “إننا نستمد مثلنا العليا من نفسيتنا ونعلن أنّ في النفس السورية كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم… إذا لم تقوَّ النفس السورية وتنزه عن العوامل الخارجية وسيطرة النفسيات الغريبة فإن سورية تبقى فاقدة عنصر الاستقلال الحقيقي، فاقدة المثل العليا لحياتها”.
في حديث سابق ذكرت لكم شيئاً، مع شيء من التعليق، عن طبيعة الشعب السوري وعن مزيجه السلالي الممتاز وعن نوعية هذا المزيج وأهميته وعن أهمية الانتباه إليه لمعرفة الحقيقة السورية (ص 51 أعلاه). وما أقصد بالقول: “في النفسية السورية كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم” ليس أي شيء منساق مع فكرة تصل إلى نفي العقل تقريباً. وليس شيئاً مجارياً لبعض نظريات بركسون تقريباً، أو للمنطق الذي، صار في الخير، من جملة دعائم الحركات التي لها المزايا العمياء من الناحية النفسية، كحركات النقابات مثلاً التي تقوم على ناحية ليست فلسفية، من الـ (Untuition) ولا في الانسياق مع استنتاجات من هذا النوع، تقوم أيضاً وتنتقل في الاتجاهات الروحية القائلة باستقلال الروح عن المادة واستقلال مصدرها المطلق واستمرار العوامل الخفية في كل المقاصد الروحية والتسليم إليها يتنزّه عن العقل والقوى العقلية والمنطق العقلي. ولا شيء يذهب مع بعض المدارس الناشئة حديثاً، أي أنه مع الإقرار بوجود العقل والفكر يجب أن يظل الفرد شاعراً بحريّة عن العقل والفكر، بل قصدت أنّ العقل والشعور، أنّ عمل الإحساس والفكر، هو كلٌّ نفسي لا يمكن أن يزال العقل منه، وقصدت أنّ النفسية السورية قد برهنت وتبرهن اليوم بالبرهان التشريحي والعملي على أنها عظيمة المقدرة مستكملة شروط الوعي الصحيح والإدراك الصحيح، وأنّ لها مقدرة على إدراك واستيعاب كل ما يمكن النفس أن تستوعبه وتدركه في هذا الوجود.
إنها نفس تقدر في ذاتها على المعرفة والإدراك وتمييز القصد وتصوّر أسمى صور الجمال في الحياة. إنها نفس تسير بوعي ولها كل مؤهلات الإدراك الشامل العام لشؤون الحياة وللكون وللفن.
“إذا لم تقوَّ النفسية السورية وتنزّه عن العوامل الخارجية وسيطرة النفسيات الغريبة فإن سورية تبقى فاقدة عنصر الاستقلال الحقيقي وفاقدة المثل العليا لحياتها”.
تشير هذه العبارات إلى أنّ عوامل خارجية قد سيطرت مدة، سيطرت وأخضعت اتجاهات النفسية السورية الحقيقية لاتجاهات غريبة عنها. وإذا بقي بعض تأثيرات لتلك النفسيات الغريبة وتأثيرات نظرتها إلى الحياة مخضعة ولو جزءاً من النفسية السورية ومراميها الصحيحة، لم يمكن التأكد من أننا نصل إلى هذا الاستقلال الكلي الصحيح، إلى فسح المجال بكامله أمام فاعليتنا الذاتية في الوجود.
فيجب إذن أن نعود إلى حقيقتنا وأن ننزّه حقيقتنا عن العوامل الخارجية.
لا يعني هذا أيضاً أنه لا يمكن لنفسيتنا أن تتفاعل مع النفسيات الأخرى. لا يعني ذلك مطلقاً بل إنه يفسح المجال لهذا التفاعل. وكما قلت في عبارة في بعض المراسلات إنّ من شروط اعترافنا بحق أو خير أو جمال في العالم هو أن نرى نحن ذلك الحق وذلك الخير وذلك الجمال أو أن نشترك في رؤيته.
فإذا لم نَرَ نحن حقاً ولم نَرَ خيراً ولم نَرَ جمالاً لم يمكن أن نرى حقاً وخيراً وجمالاً تعلنه ذات أخرى. فلنا نحن لا يكون حق وخير وجمال حتى نراه أو حتى نشترك في رؤيته، فلا يمكن أن يفرض علينا فرضاً، لأننا نملك ذاتاً واعية فاحصة مدركة تقدر أن ترى الحق والخير والجمال، وأن تشترك في رؤية الحق والاخير والجمال بعواملها الخاصة باستقلالها الروحي ـ الفكري والشعوري.
فالاستقلال الفكري والشعوري ـ النفسي لا يعني مطلقاً الانعزال عن العالم أو الانعزال عن التفاعل مع العالم.
هذا الشرح يتفق كل الاتفاق مع ما ورد في خطابي 1935 إذ قلت إنّ المبادىء للمجتمع لحياة المجتمع لا المجتمع وحياة المجتمع للمبادىء. (أنظر ج 2 ص 4).
إنّ الفرد يعطي حياته كلها لمبدأ لأن في المبدأ حفظ حياة المجتمع ولأن الفرد من المجتمع. المجتمع هو الكل الذاتي ولكن لا يمكننا مطلقاً التسليم بأن المجتمع كله يجب أن يضحي نفسه أو إن يهلك نفسه من أجل مبدأ من المبادىء. يمكن أن تهلك بعض أفراد أو جزء لينقذ الكل ولكن لا يمكن أن نسلّم بانه يمكن أن يكون مبدأ صحيحاً إهلاك المجتمع في سبيل ذلك المبدأ. ولذلك أردت الحياة التي ذكرتها في مراسلة سابقة لهذا السؤال: “وماذا يفيدنا لو ربحنا العالم كله وخسرنا أنفسنا”.
بهذا المقدار نكتفي في ما يتعلق بالمبدأ السابع وننتقل إلى الثامن. يقول المبدأ: “مصلحة سورية فوق كل مصلحة” الشرح:
“ليس هنالك أثمن من هذا المبدأ في العمل القومي. فهو أولاً، دليل النزاهة للعاملين. ومن جهة أخرى يوجه العناية إلى الغاية الحقيقية من العمل القومي، التي هي مصلحة الأمة السورية وخيرها. إنه مقياس الحركات والأعمال القومية كلها. وبهذا المبدأ الواقعي يمتاز الحزب السوري القومي الاجتماعي على كل الفئات السياسية في سورية، فوق ما يمتاز بمبادئه الأخرى، في أنه يقصد المصلحة المحسوسة المعينة التي تتشارك فيها حاجات ملايين السوريين وحالات حياتهم. إنه ينقذنا من الحوم حول معان للجهاد القومي هي من باب اللامحسوس، أو غير المفيد.
“إنّ هذا المبدأ يقيد جميع المبادىء بمصلحة الشعب فلا يعود الشعب يقاد بالدعاوات لمبادىء تخدم مصالح غير مصلحته هو.
“إنّ حياة الأمم هي حياة حقيقية، لها مصالح حقيقية، وإذا كان الحزب السوري القومي الاجتماعي قد تمكن من إحداث هذه النهضة القومية الباهرة في وطننا فالفضل في ذلك يعود غلى أنه يمثّل مصلحة الأمة السورية الحقيقية وإرادتها في الحياة.
“وإنّ سورية تمثّل لنا شخصيتنا الاجتماعية ومواهبنا وحياتنا المثلى ونظرتنا إلى الحياة والكون والفن، وشرفنا وعزّنا ومصيرنا، لذلك هي لنا فوق كل اعتبار فردي وكل مصلحة جزئية”.
لا يُحتاج إلى شديد عناء لرؤية كم يترابط هذا الكلام مع الذي قلته فيما تقدم، فمصلحة سورية هي مصلحة هذا المجتمع السوري، لأن سورية هي الوطن وهي الأمة، هي المجتمع جسماً ومكاناً، إليها نعود في كل فكر أو رأي وعنها تصدر الإرادة. مصلحتها إذن هي المصلحة الأساسية الكبرى، هي الوجود القومي، هي الحدود الاجتماعي في كل ما يعنينا ويتعلق بنا.
إنّ هذا المبدأ مقياس الحركات والأعمال القومية كلها وبهذا المبدأ الواقعي يمتاز الحزب السوري القومي الاجتماعي على كل الفئات السياسية في سورية، فوق ما يمتاز “إنّ حياة الأمم هي مصالح حقيقية وإذا كان الحزب السوري القومي الاجتماعي قد تمكن من إحداث هذه النهضة القومية الباهرة في وطننا فالفضل في ذلك يعود إلى أنه يمثّل مصلحة الأمة السورية الحقيقية وإرادتها في الحياة” “وإنّ سورية تمثّل لنا شخصيتنا الاجتماعية، إلخ”.
التعيين هو شرط الوضوح، والوضوح هو الحالة الطبيعية للذات المدركة الواعية الفاهمة. كل مطلق ليس واضحاً هو نسبي مهما قيل إنه مطلق غير نسبي. كل مطلق مبهم هو لا شيء. المطلق الذي هو شيء هو المطلق الواضح. فإذا وجدنا أمامنا مطلقاً غير واضح، وإذا افترضنا أي مطلق افتراضاً وابتدأنا نحوم حول فهم هذا المطلق ومعرفته، فإننا عيّنا مبهماً للخروج من جدل لم نصل فيه إلى الحقيقة.
فكل لا وضوح لا يمكن أن يكون أساساً لإيمان صحيح، وكل لا وضوح لا يمكن أن يكون قاعدة لأي حقيقة من جمال أو حق أو خير.
فالوضوح ـ معرفة الأمور والأشياء معرفة صحيحة ـ هو قاعدة لا بد من اتباعها في أية قضية للفكر الإنساني وللحياة الإنسانية.
ولذلك نرى كيف امتاز الحزب السوري القومي الاجتماعي على غيره بأنه حدد واضح ـ أعطى الـ Définition التحديد ـ للقضايا والأمور التي تواجه الحياة السورية والمجتمع السوري.
قبل هذا التوضيح كان كثير من المشتغلين يتحدثون عن المجتمع بعبارات مطاطة كالقول بالوطنية دون تحديد أي وطن، والتكلم على الحرية بأشكال فوضوية للكلام قد تعني وقد لا تعني شيئاً. لا مقاييس للأعمال ولا للفكر، أشياء لا ضابط لها لا بالمنطق ولا بالحس. والحزب السوري القومي الاجتماعي أخرج العمل القومي والاجتماعي من فضاء الفوضى إلى نطاق الوضوح والتحديد. إلى معرفة صحيحة للأمور الموجودة والمقصودة ولذلك قلت في كتابي إلى الأستاذ حميد فرنجية الذي أرسلته له من سجن الرمل أنّ عملي أوضح وحدد المقاصد الكبرى والمطلقات للحياة القومية والوجدان القومي.
لم يعد العمل القومي للمصلحة العامة شيئاً هائماً في الفضاء بل صار قصداً واضحاً لغاية واضحة وهذا القصد الواضح للغاية الواضحة هو هو الذي يصلح معه القول بأن هناك نهضة صحيحة، لأن النهضة ليست صياح حقد وفوضى بل صعوداً نحو أهداف واضحة معينة.
“إنّ هذا المبدأ يقيد جميع المبادىء بمصلحة الشعب فلا يعود الشعب يقاد بالدعاوات لمبادىء تخدم مصالح غير مصلحته هو.
“إنّ حياة الأمم هي حياة حقيقية، لها مصالح حقيقية، وإذا كان الحزب السوري القومي الاجتماعي قد تمكن من إحداث هذه النهضة القومية الباهرة في وطننا فالفضل في ذلك يعود إلى أنه يمثل مصلحة الأمة السورية الحقيقية وإرادتها في الحياة”.
قد يبدو للبعض من بعض كلمات هذا النص أنّ هناك مجرّد مسائل مادية تقع تحت لفظة مصالح لأن استعمال المصلحة في التعابير اليومية جعل للمصلحة ناحية مادية ومفهوماً مادياً هو مفهوم المنفعة المادية أو “المصلحة القريبة”.
الحقيقة ليست هذه. المصلحة هنا، تشمل ما يتعلق بالنفس وما يتعلق بالعيش والكسب والأغراض المادية أو الحيوية. المصالح ليست، بروحها، منافع مال أو بضاعة أو تجارة أو شيء من ذلك، المصالح هي كل ما يرى الإنسان في الحقيقة تحقيقاً لجمال وجوده، تحقيقاً للغايات السامية ولجميع الغايات التي تجعل حياته جميلة ومطمئنة. فالمصالح إذن ليست مجرّد منافع، المصالح هي مصالح الارتقاء والفن مصالح جمال الحياة كما هي مصالح الاقتصاد والصناعات والتجارة، المصالح المادية التي يتوقف عليها المجتمع مادياً.
“إنّ سورية تمثّل لنا شخصيتنا الاجتماعية ومواهبنا وحياتنا المثلى ونظرتنا إلى الحياة والكون والفن، وشرفنا وعزّنا ومصيرنا، لذلك هي لنا فوق كل اعتبار فردي وكل مصلحة جزئية”.
وهنا أيضاً تظهر ناحية هامّة من عملنا، من طريقة تفكيرنا، ناحية مجتمعنا، ناحية الأمة، ناحية الجماعة.
القضية هي قضية كل المجتمع لا قضية الفرد، لكل فرد منهم قضية تختلف عن قضية الفرد أو الأفراد الآخرين. القضية هي حياة المجتمع وقضية مصير المجتمع قضية ارتقاء المجموع أو انحطاط المجموع، قضية جمال حياة المجتمع لا قضية جمال حياة الفرد.
يوجد بعض المجتمعات في العالم لم يمكن أن تصل إلى هذه النقطة من التفكير. وبالنظر لحالة نجاح أو لحالة استقرار واطمئنان وبحبوحة في حياتها، يوجد من يظن أنّ عدم وصولها لها ـ إلى هذه النقطة ـ هو الفاعل الرئيسي في نجاحها في حياتها. إنّ هذه النظرة هي نظرة خاطئة لأنها لا تشبه نظرة شعوب أخرى شددت على الناحية الفردية من الأمور أو لم تجد ما يدفعها على وجوب التشديد على الناحية الاجتماعية على الناحية المجموعية.
مثلاً أميركانية (استعمل أميركانية، لما أشار به المرحوم جبر ضومط الذي استحسن أن يسمي ابناء الولايات المتحدة أميركان تمييزاً لهم عن باقي سكان القارة الأميركية أميركيين. أميركان أبناء الولايات المتحدة والأميركيون جميع الشعوب التي تقطن أميركة. وإني مجاراة لهذا التمييز ابتدأت أسمّي الولايات المتحدة أميركانية اختصاراً ولصعوبة النسبة). إذا أخذنا أميركانية مثلاً نجد أنّ الأميركان مولعون ولعاً شديداً بالتكلم عن الشخصية الفردية والشعور الفردي وسائر شؤون الفرد. والبعض منا، وأعني بهذا البعض الذين لم يدرسوا أسباب الأشياء يظنون أنّ هذا منتهى درجات الرقي في التمدن والنظرة الاجتماعية الإنسانية.
ولكن الواقع هو غير هذا. الواقع هو أنّ الأميركان لم يكونوا قد وصلوا، ولست أدري بالتدقيق إذا كانوا قد وصلوا إلى هذه الدرجة التي أشرت إليها في مقدمة نشوء الأمم ـ درجة الوعي للشخصية الاجتماعية. إنهم شعروا مرة واحدة فقط بنظرة الجماعة وبفرق المجتمع والجماعة. تلك كانت في الوقت الذي أحتاج الأميركان إلى إعلان الثورة على “المتروبول”.
بعد أن حققت تلك الثورة ما حققت لم يعد الأميركان يشعرون بنظرة المجموع، بنظرة المجتمع، إلى الكون والحياة لأن أميركانية بعد استقلالها وجدت نفسها جسماً عظيماً جداً كبيراً هائلاً بثروته المادية، بغناه بالحديد بالفحم بالزيوت بالحبوب بالماشية، بكل ما يحتاج إليه الإنسان. وهي مع هذا الغنى على بعد كبير عن أي مجموع آخر يمكن أن يكون عدواً مزاحماً على الخيرات والبلاد.
كان بعدهم وعظم جثة الوطن الأميركاني من عوامل الاطمئنان مع السعة الداخلية في البلاد فانصرف الناس إلى الشؤون الداخلية، إلى مسائل التفاعل الداخلية، إلى المصالح الجزئية الداخلية التي برّرت وتبرّر نظرة الأميركان إلى الكون والفن.
لم توجد الولايات المتحدة بحاجة إلى مجهود روحي لكي تصبح عظيمة، لذلك نجد، حتى حروبها، فاقدة المعنى الروحي العظيم ونرى أنّ دخولها حرب 1914 ـ 1918 كان من باب الدبلوماسية.
في الحرب الأخيرة لم نجد مبدأ واحداً اقتصادياً ـ روحياً أو غير ذلك فاعلاً من الناحية الأميركانية يحتاج إليه العالم وتحتاج إليه الإنسانية في سيرها.
أما الديموقراطية التي ناضلت أميركانية لأجلها، [فهي] ليست مبدأ أميركانياً ولم تضف أميركانية إليه شيئاً في ذاتيتها غير هذا التراخي.
وهنا ما يسمونه “الأميركان كوميونتي” نجد أمثالاً كثيرة من التراخي الأميركاني البديع الذي أصاب مرضه بعض المشتغلين معهم أو المتعلمين عندهم أو الأساتذة المشتغلين معهم.
أما نحن فمجتمعنا هو غير المجتمع الأميركاني.
لذلك وجب أن تكون نظرتنا وجهادنا في نفسنا من أصل الأغراض الأساسية الكبرى التي تتم بواسطة نفسنا.
في 22 فبراير/ شباط 1948
دوّنها الأمين جورج عبد المسيح
نقلاً عن كتاب المحاضرات العشر، دمشق، 1952 ص 86 ـ 97