مذكرة الحزب السوري القومي إلى العصبة الأممية والأمم المتمدنة جواباً على قرار الحكومة البريطانية وتقرير البعثة الملكية بشأن تقسيم جنوب سورية
وضعت البعثة الملكية، التي أرسلت خصيصاً لدرس بواعث الثورة السورية وكيفية تطبيق الانتداب، وماهية الظلامات من جانب السوريين (العرب) ومن جانب اليهود لإعطاء التواصي التي ترتئيها لإزالة الظلامات، مقترحات تقول بإعادة تقسيم وتحديد جنوب سورية بحيث تنشأ هنالك دولتان سورية (عربية) ويهودية، وتبقى وسط هاتين الدولتين منطقة ومراكز معينة تحت الانتداب البريطاني. وإنّ تبّنّي هذه المقترحات من قبل حكومة صاحب الجلالة البريطانية يضع أمام الأمة السورية مشكلة جديدة، يرى الحزب السوري القومي من واجبه أن يعرض لها ويضع جوابه على تقرير البعثة وبلاغ الحكومة البريطانية، ويرفعه إلى العصبة الأممية والأمم المتمدنة.
المشكلة في أساسها التاريخي
كان جنوب سورية مقراً للكنعانيين الذين اتخذوه وطناً وعُرف باسمهم فسمي في أحاديث اليهود “أرض كنعان” فجاء العبرانيون إلى هذه البقعة عشائر بربرية متبدية وأخذوا يعيثون في الأرض ويخربون وينهبون، ومع الوقت استولوا على بعض المدن والأراضي وأنشأوا فيها إمارة خاصة بهم، وأخذوا من الشرائع الكنعانية شريعتهم، ولكنهم ظلوا تجاه أهل البلد الأصليين وغيرهم من الشعوب غرباء يحتاجون إلى توطيد إقامتهم بالسيف، وظلت هذه حالهم إلى أن ضربتهم الدولة السورية ضربة عظيمة وشتتهم الرومان.
من هذه اللمحة نرى أنّ “المسألة اليهودية” في العالم ابتدأت قبل الجلاء من سورية، أي منذ مجيء العبرانيين “الحبيرو” من البادية إلى جنوب سورية. وواضح أنّ اليهود ليسوا أصليين في البلاد وأنّ وجودهم في فلسطين لم يجعل لهم صفة خلفاء لأهل البلاد الأصليين. وواضح أنّ بقاءهم في جنوب سورية كان يجب أن ينتهي بذوبانهم في أهل البلاد، فتفشت فيهم اللغة الآرامية وغلبت عليهم عادات أهل البلاد؛ وجاءت المسيحية تقول بإلغاء الامتيازات الدينية لليهود وإزالة الخصوصيات اليهودية.
نرى إذن أنّ ادعاءات اليهود في جنوب سورية ليست قائمة على أي أساس حقوقي. فلا يبقى سوى ادعائهم وعد الله إياهم بجعل أرض كنعان ميراثياً لهم، وهو عودة إلى النظرة الخصوصية في الدين، ولم يؤيد الله وعده لهم في المسيحية ولا في الإسلام، ولا في أي دين إلهي آخر.
وعد بلفور
في سنة 1917 صرح اللورد بلفور تصريحه المشهور الذي تَعِد فيه الحكومة البريطانية اليهود بتمكينهم من إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين. وقيمة هذا التصريح هي في أنه تصريح سياسي يقيد الدولة البريطانية باليهود. وليس لهذا التصريح أية قيمة حقوقية على الإطلاق، وهو لا يقيد سورية ولا شعب جنوبها في شيء.
ثم إنّ المادة الثانية والعشرين من ميثاق العصبة الأممية تمنع، من الوجهة الحقوقية الإنترناسيونية، أي تصرّف حقوقي من قبل الدولة المنتدبة يمسّ سيادة الأمم المنسلخة عن السلطنة العثمانية المعترف بأنها “أمم مستقلة” أي ذات سيادة قومية على أنفسها وأوطانها.
بعثة اللورد بيل
إنّ النقطة الابتدائية لنظر بعثة اللورد بيل هي اعتبار مسألة جنوب سورية مسألة بريطانية بحتة متعلقة بوعد بريطانية للحسين ووعدها لليهود. وهذه الوجهة فاسدة حقوقياً لأن ما تريد أن تتقيد به بريطانية لأسباب سياسية ليس حقاً لها على منطقتها الانتدابية في سورية. وإنّ اعتبار الوعود البريطانية اساساً لبحث مسألة جنوب سورية، بدلاً من المادة الثانية والعشرين من ميثاق العصبة الأممية، مناقض كل المناقضة للمبادىء الحقوقية المعترف بها عند الأمم المتمدنة.
إنّ مسألة جنوب سورية ومصيره ليست مسألة بريطانيّة داخلية.
مقترحات البعثة
خرجت البعثة البريطانية المشار إليها من أبحاثها واستقصاءاتها إلى وضع عدة تواصٍ أهمها اقتراح إعادة تقسيم جنوب سورية بحيث توجد فيه دولتان متعاهدتان مع بريطانية ومنطقة انتدابية بريطانيّة وملحقاتها. وقد تبنت الحكومة هذا الاقتراح وستحيله إلى لجنة الانتدابات في العصبة الأممية لإعطاء مطالعتها.
وتعدد البعثة الفوائد التي تعود على السوريين (العرب) وعلى اليهود من جراء هذا التقسيم.
واول فائدة للسوريين هي نوالهم استقلالهم القومي، كأن التقسيم هو الطريقة الوحيدة للاستقلال.
الفائدة الثانية هي زوال ما يساورهم من الخوف من طمو اليهود عليهم.
الفائدة الثالثة أن تتقيد حدود الوطن القومي تقيداً نهائياً بتخوم معينة، ووضع انتداب جديد لحماية الأماكن المقدسة يزيل الخشية من إمكان صيرورة الأماكن المقدسة في يوم من الأيام تحت سيطرة اليهود.
الفائدة الرابعة تلقى الدولة السورية (العربية) إعانة مالية مقابل ما يفقده السوريون من اراضيهم.
ولليهود من هذا التقسيم فائدتان:
الأولى: تأمين إنشاء الوطن القومي اليهودي وإفلاته من احتمال خضوعه في المستقبل للحكم السوري (العربي).
الثانية: تمكين اليهود من أن يعدّوا الوطن القومي وطنهم الخاص بأوسع معنى لهذه العبارة “وذلك لأن التقسيم يحوّله إلى دولة يهودية. ويصبح في وسع رعايا هذه الدولة أن يُدخلوا من اليهود العدد الذي يعود تقدير استيعابه إليهم هم وحدهم”.
وملاحظاتنا على هذه الفوائد هي:
1 ـ إنّ نيل السوريين في الجنوب استقلالهم القومي يفيد أنهم لم يكونوا مستقلين تحت الانتداب، وهو مناقض لنص المادة الثانية والعشرين من ميثاق العصبة الأممية الذي يعلن الشعوب المنسلخة عن السلطنة العثمانية “أمماً مستقلة”. ثم إنّ نوالهم هذا الاستقلال سيكون لقاء خسارة أفضل قسم من وطنهم وتقلصهم ضمن المنطقة الطاغية عليها الصحراء، واعترافهم بأن القسم الكبير من وطنهم الذي سيجرّدون منه هو De jure أرض يهودية لا سورية.
2 ـ إنّ زوال ما يساور سوريي الجنوب من الخوف من طمو اليهود عليهم هو، بحكم التقسيم المقترح، من الخسائر للسوريين لا من الفوائد لهم. لأنه يعني تخلصهم من خشية الوقوع في نكبة بحصول النكبة بالفعل بتنفيذ مقترحات البعثة الملكية الموقرة.
3 ـ تعيين حدود الوطن القومي اليهودي يتطلب الاعتراف بهذا الوطن وتنازل السوريين عن حق سيادتهم على وطنهم. وهو خسارة مادية لا يمكن الأمة السورية أن تسلّم بها لأنها مسألة حياة وموت لها. وكذلك لا يمكن الأمة السورية التسليم بإيجاد انتداب جديد على أراض ومدن معينة هي جزء من صميم الوطن السوري.
4 ـ إنّ التعويض لسوريي الجنوب عن خسارة أراضيهم بإعانة مالية من الحرية البريطانية ومن “الدولة اليهودية” حين تبادل السكان هو استملاك إكراهي لهذه الأراضي.
5 ـ إنّ التقسيم المقترح يكسب الوطن القومي اليهودي صفة “دولة” ستكون نواة الدولة اليهودية “التي ستستعبد الشعب السوري وتفرض الجزية على الأمم الغريبة” حسب نصوص التلمود.
6 ـ يخوّل التقسيم اليهود زيادة هجرتهم وجعل “أراضي الدولة اليهودية” يهودية مائة بالمائة وإتمام تكوين دولة يهودية على أرض سورية وطرد السوريين من الأرض المحددة لدولتهم ليتشتتوا، إذ لا أرض في فلسطين تصلح لإقامتهم بالنسبة إلى مستوى معيشتهم ودرجة ثقافتهم. والبعثة الملكية نفسها تشير في مكان من تقريرها إلى صعوبة إيجاد أراض زراعية ينقل إليها السكان السوريون من المنطقة المقترح أن تكون يهودية.
الخلاصة
إنّ اقتراح إعادة تقسيم جنوب سورية بحيث تنشأ فيه دولتان سورية ويهودية ومنطقة انتدابية وملحقاتها هو مشروع تحقيقه يعني اهتضام حق الأمة السورية وسيادتها على وطنها وخرق وحدة الوطن السوري وسلب سوريي الجنوب أفضل أراضيهم، وهو ينطوي على عملية اقتطاع أراضٍ جديدة من السوريين وتسليمها إلى اليهود، تحت غطاء تعيين حدود “الدولة اليهودية” الموضوع بمهارة دبلوماسية من قبل البعثة الملكية.
وإنّ تبني حكومة صاحب الجلالة البريطانية هذا الاقتراح يخرق حرمة السيادة القومية للسوريين المعترف لهم بها في المادة الثانية والعشرين من ميثاق العصبة الأممية.
وإنّ تنفيذ مشروع تقسيم فلسطين لا يزيل أسباب الاضطرابات التي ما فتىء جنوب سورية مرسحاً لها، منذ شرع في إعطاء تصريح بلفور مفعوله العابث بحقوق الأمة السورية، بل يزيد اسباب هذه الاضطرابات بزيادة فاعلية الضغط اليهودي الاقتصادي والسياسي وزيادة الظلامات السورية.
تجاه هذه الحقائق يعلن الحزب السوري القومي عدم رضاه عن مشروع التقسيم ويدعو العصبة الأممية والأمم المتمدنة والصديقة إلى رفضه وإعطاء الأمة السورية حقها وتأييد سيادتها القومية.
في 14 يوليو/ تموز 1937
زعيم الحزب السوري القومي
أنطون سعاده
بيروت، العدد 253، 28/7/1937