دروس قومية اجتماعية – تنظيف مناطق الاحتلال

كل حرب، فكرية كانت أم دموية لها مبادئها وقواعدها الاستراتيجية والتحريكية. وكل جبهة لا يكون لها استراتيجية ولا استراتيجيون هي جبهة خاسرة، لا محالة.
هذه مسألة نظامية يجب أن يتعلمها القوميون الاجتماعيون، وأن يفكروا في أسبابها ونتائجها، إذا كانوا يحسبون أنفسهم أهلاً لإعطاء البرهان على كفاءتهم لإحراز النصر لحركتهم العظيمة.

الغفلة عن وجود هذه المبادىء والقواعد أوجبت تشويشاً في أعمال بعض مناطق الامتداد السوري القومي الاجتماعي، حتى أنّ بعض رجال الإدارة أهملوا تنفيذ المهمات والأمور والتعليمات المرسلة إليهم ليتورطوا في أحاديث وتعليقات خالية من المسؤولية، كما رأينا في الدروس الأخيرة الماضية التي أعطيت على صفحات الزوبعة.
ونتيجة الغفلة المذكورة وذيولها كانت، في أقل تقدير، جمود التطور الفكري والروحي والعملي في مناطق صلاحيات المسؤولين المتورطين، وخمود التوقد الروحي الذي أضرمته العقيدة في بعض النفوس، على الأقل.
وهذا من الوجهة الداخلية فقط.
أما من الوجهة الخارجية فقد كانت النتائج غير قليلة الأهمية:
إنّ المفسدين الذين أصلتهم الزوبعة نار الحرب لم يجدوا جبهة منظمة في أماكنهم تصدمهم وتشلّ حركاتهم، بل وجدوا العكس ــــ وجدوا الخمول والتراخي والتواكل والفوضى عينها تستولي على الصفوف القومية الاجتماعية والمجال لحركاتهم المفسدة واسعاً، إذ بينما كانت الزوبعة تهاجمهم وتحمل عليهم كان المسؤولون، في الأماكن التي يعيث فيها أولئك المفسدون، يتناقشون في هل عمل الزوبعة صواب وهل اهتمامها بمفاسد الأدباء والصحافيين المنافقين، المشعوذين في محله!

الاستخفاف بالعدو، داخلياً كان أم خارجياً هو من أعظم الأغلاط التي أوردت قادة عظماء موارد الخيبة.
إنّ من أعظم ما تفتخر به النهضة السورية القومية الاجتماعية:
أنّ لها زعيماً لا يمكن إقناعه بأن الاستخفاف بالأعداء وإهمال أمرهم سياسة حكيمة، لأنه جمع إلى صفات المفكر الفلسفي العميق والسياسي البعيد النظر، شيم الزعيم المدرك، الحازم في التدبير القوي العزيمة في البت والإجراء.
ليس زعيم الحركة السورية القومية الاجتماعية ذلك القائد الأرعن الذي يتبع هواه وغروره ويترك النظر في دقائق الأمور ويتقدم إلى الحرب الخارجية، تاركاً الأعداء الداخليين وراءه يعملون على تقويض الإيمان بدسائسهم وإشاعاتهم.
كلا، ليس ذلك زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي المعروف.

إنّ الزارع الذي يهمل حشرات صغيرة يمكن أن تتلف كرمه أو أحراجه أو قمحه، لمجرد علمه أنه يمكنه أن يدوس كمية منها بنعله دفعة واحدة ليس بالزارع الذي يرجو أن يحصد ويخزن.

وإنّ القائد الذي، بعد أن يربح المعركة الأولى يتوغل في البلاد غير حاسب حساباً لفلول الجيش المندحر وللعصابات الصغيرة المعادية التي لا تستطيع أن تؤلف جيشاً نظامياً قادراً على القيام بمعركة حاسمة، هو قائد سائر إلى الانكسار المحتم.
فإن من فوائد دروس الحروب العديدة التي أمكن تسجيل حوادثها وتطوراتها، أنه يجب تنظيف الأرض الجديدة التي يحتلها الجيش المهاجم من فلول الأعداء وعصاباتهم قبل التقدم إلى أراضٍ جديدة.
وإنّ الذي كسر نابليون في معركة واترلو كان جيش بلوخر الألماني المدحور!

في الحرب العالمية الحاضرة نرى جيوشاً ضخمة تتوقف بعد زحف واسع وانتصارات أكيدة، لتطهّر الأرض التي التي تحتلها من فلول الجيش المندحر وبقاياه، ولإنشاء استحكامات وحصون قبل التقدم إلى مواقع جديدة.
وقبل هذه الحرب بسنين وبعد السنة الثانية لنشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي، كان الزعيم يصدر تعليمات بإيقاف الإدخال مدة من الزمن ليتم صهر العناصر التي دخلت في المدة السابقة، وإدغام نفسيتها بنفسية الحركة، ولتنقية الصفوف من الخلل والتشويش والمهمة الأولى في كل منطقة دخلت جديداً في دائرة حركة الحزب السوري القومي الاجتماعي كانت:
سحق المقاومة.
وقد نجحت هذه الخطة على طول الخط وبرهنت الحوادث أنها الخطة العملية الوحيدة التي تضمن النجاح.
فحيث أُهمل أمر الأعداء والمفسدين، وجرى استخفاف بالأضرار التي يمكنهم إحداثها تعرضت الحركة القومية الاجتماعية لصعوبات كثيرة.

وإذا ألقينا نظرة استعراض على تقدم النهضة السورية القومية الاجتماعية المحسوس في النزالات السورية في أميركا، منذ قدوم الزعيم إليها إلى الآن، وجدنا أنّ هذا التقدم كان ممكناً، من الوجهة العملية، بسحق الأعداء والضرب على أيدي المنافقين والدجالين الذين كان الناس منخدعين بشعوذاتهم ومصدقين إشاعاتهم الكاذبة. وإنّ من الأمور التي رفعت معنويات الحركة السورية القومية الاجتماعية في المهجر عموماً وفي أميركانية خصوصاً:
الحملة الساحقة التي قامت بها الزوبعة على حصن دجالي الأدب ومشعوذي الصحافة المعروف بـــ«الرابطة القلمية» في نيويورك فقد كانت الفئة التي تسمي نفسها «أعضاء الرابطة القلمية في نيويورك» تتمتع بمكانة عند المغتربين لم تعد تستحقها بعد أن طارت نفس جبران وحل الاستغلاليون محله.
وكانت مكانتها الزائفة تسهل لها مقاومة الحركة السورية القومية الاجتماعية بإثارة الشكوك عليها والترجمات المغرضة لأعمالها ورجالها، تارة بالأحاديث الخصوصية في الاجتماعات العائلية والعمومية وطوراً بالمقالات الطافحة بالحسد والأنانية في الصحف، حتى أنّ كثيراً من حسني النية الذين أحبوا الوقوف على حقيقة أمر الحزب السوري القومي الاجتماعي وكيفية مساعدته وتأييده أخذوا يحجمون عن ذلك.

في مدة نحو ربع قرن أو أكثر، من التبجح بالأدب اللفظي التافه والاقتباسات السطحية البراقة، صار أهل الأعمال اليومية يقولون: «قال أبو ماضي وقال عبد المسيح حداد وقال… الخ».
وصاروا يقولون هذا القول ويعتمدونه، حتى في المواضيع القومية والاجتماعية والاقتصادية وفي النظرات السياسية مما لا شأن لأولئك الأشخاص فيه.
ولكن هو الصيت الذي جرى بين الناس من أجل قصيدة ذات صبغة جديدة، أو من أجل مقال بلغت حكمتها السخيفة حد القول إنه لا قومية ولا وطنية ولا نهضة لنا، وإنّ أفضل ما نفعله هو أن نتشبه بالأجانب ونقلدهم وإنّ أفضل مصير نختاره هو أن نسلّم أمورنا للأيدي الأجنبية والمصالح الأجنبية ونقبل بحكمها فينا!

كيف كان يمكن أن يتحول الناس في أميركانية نحو النهضة السورية القومية الاجتماعية وأصحاب الصحف السورية المنتمون إلى «الرابطة القلمية» وغير المنتمين إليها من الذين باعوا أقلامهم للشيطان قاموا يزينون للناس أنه لا قومية لنا ولا غاية ولا أهداف، وأنّ كل ما هنالك آمال تلمع هنا وهناك ثم تختفي هنا وهناك، وأنّ أنطون سعاده ليس سوى دجّال كجميع الدجالين الذين نكبت بهم الأمة وخدعوها وعبثوا بشعورها وعواطفها وهضموا آمالها، ثم أداروا لها ظهورهم أو باعوا مصالحها للأجانب، والناس لكثرة اختباراتهم المرة وتكرار انخداعهم بأصحاب بضاعة «الوطنية» صاروا سريعي التصديق لهذه الإشاعات القاطعة الأمل، المعدمة الثقة؟

لم يكن ممكناً في مثل تلك الحالة إلا انضمام أفراد قلائل من المثقفين ثقافة عالية والمدركين فوق إدراك أصحاب تلك الصحف، فيبقى الوزن الشعبي الراجح في جانب ضوضاء أولئك الصحافيين المنافقين.
إذن لم يكن بد ممن هز تلك المكانة الزائفة التي تمتع بها مدة طويلة الصحافيون المذكورون وأمثالهم المارقون من الوطنية، العارون من كل عاطفة قومية شريفة، حتى يرى الناس على أية قصبات مرضوضة تقوم.
ولكن الزعيم أخذ بالحزم في هذا الموقف ولم يشأ أن يكون هو البادىء بالحرب لعل أولئك الأشخاص القادرين على النفع وعلى الضر يجدون مؤنباً من ضميرهم ويستفيق وجدانهم لعظمة الروح الذي يقيم العظام الرميم، حتى ابتدأ الأعداء الداخليون يبدون المقاومة علناً، ويجهرون بالدعوة ضد الحركة السورية القومية الاجتماعية، ويؤيدون بعضهم بعضاً، كما بدأ المدعو رشيد سليم الخوري الملقب «بالشاعر القروي» يتعرض للنهضة السورية القومية الاجتماعية ومبادئها في خطبه في «المولد النبوي» وفي أحاديثه الخصوصية في الاجتماعات العائلية وفي القهاوي وفي المناطق التي يتجول فيها لأعماله التجارية في البرازيل، وكما أخذ إيليا أبو ماضي يدافع عنه ويشد أزره في جريدته السمير حين تناول هاني بعل قيمة ذلك المتشاعر الأدبية، وكما قال عبد المسيح حداد صاحب جريدة السائح يؤيد أبا ماضي ويدس في مقالاته عبارات تثير الشبهات في أمر الحزب السوري القومي الاجتماعي ونشأته وغايته.
فكان لا بدّ من القيام بحملة قومية اجتماعية معاكسة تتناول الجبهة كلها وتنزع من الأعداء الداخليين الصيت المكتسب بالتدجيل وتظهر الباطل الذي يستندون إليه، وتقيم في نفوس المغتربين وأوساطهم الواسعة حصوناً من الفكر الصحيح في الأدب والفن والحياة تتكسر عليها نبالهم ــــ كان يجب أن تكون الحملة القومية الاجتماعية كلية، كاملة، لأن أسوأ الانتصارات هي الانتصارات غير الكاملة.
فلو لم تتناول الزوبعة ترهات أبي ماضي وسفسطة حداد لكان قال الناس قد هاجمت النهضة المراكز الضعيفة في الجبهة، ولكنها تهيّبت المراكز القوية، وخشيت الانخذال فأحجمت، وهذا القول كان يكون وحده انتصاراً لأعداء النهضة وأعداء أنفسهم.

لم يكن بد من أن تقيس الحركة القومية الاجتماعية سيوفها (على طريقة التعبير الإسبانية) الفكرية مع سيوف أهل السفسطة والنفاق والمآرب الذاتية.
ورأى الزعيم ذلك وأدرك ببعد نظره الاستراتيجي ــــ التحريكي، أنّ التردد في هذا الأمر يضعف مركز الحركة القومية الاجتماعية أمام الشعب المراقب المعركة ويشجع الأعداء على تماديهم.
فتناولت الزوبعة مع استمرارها في نشر سلسلة مقالات جنون الخلود وبعد الفراغ منها، أمر أبي ماضي ونظراته الشعرية ومقاييسه الفنية ونفاقه الصحافي، ثم عرضت لعبد المسيح حداد حين حاول هذا الانتصار لزميله وصاحبه أبي ماضي. وانجلت المعركة عن انتصار بيّن لا جدال فيه لقوة حركة البعث القومي والإصلاح الاجتماعي التي يقودها أنطون سعاده.
ومع أنه لم يُقضَ على الأعداء بالمرة فقد تطايرت صفوفهم وتقضمت الجبهة التي حاولوا تكوينها، وهم الآن يحاولون التعويض عن بعض خسارتهم بالانصراف بكليتهم إلى الدعوة «للوطن الثاني» والدعاوة لأحد المحورين المتحاربين.

المؤسف في أمر هذه الحرب التي رآها سعاده، قبل حدوثها بسنوات، وأعلن وهو بعد في البرازيل أنه لا يكره حدوثها، أنّ عدداً من القوميين الاجتماعيين، وبينهم بعض المسؤولين، لم يدركوا أهمية ذاك الصراع التاريخية والنتائج الخطيرة المترتبة عليه.
وبدلاً من أن يندفعوا في الاتجاه الذي أشارت به القيادة العليا، أخذوا يتورطون في تفسيرات بعيدة عن المسائل الجوهرية.
وصاروا يتوهمون أنه بإظهار مبلغ الفساد العظيم في مؤسسات الشعب العتيقة وفي ضلال شخصيات الجيل البارزة تضرر النهضة القومية الاجتماعية، لأن النفوس، في اعتقادهم ستيأس وتقطع الأمل.
وهو رأي ضعيف، لأن الحزب السوري القومي الاجتماعي، بمحاربته عناصر الفساد والتضليل، يقيم البرهان القاطع على أنّ روحاً جديداً محيياً قد اتجه نحو تنين الرذائل والقبائح ليهلكه وينجّي الأمة من أنيابه وسمومه، وأخذ على نفسه تطهير هيكل القومية المقدس من باعة الحمام والصيارفة وأصحاب الربى، وإزالة الأصنام التي تغرر بالجيل وتغريه بالاستمرار في التسكع للأوهام.

لا نعود إلى هذا المثل لنندد بأولئك الرفقاء المخلصين، بل لنستخرج العبر ونوضح الموقف. وخلاصة ما نريد أن نقرره هنا:
إنّ الحرب هي طريق كل دعوة إصلاحية جديدة إلى النصر وكل حركة رامية إلى إنشاء عهد جديد تهمل أهمية الصراع وشحذ العزائم للبطش بكل باطل وكل فاسد وتضحي الحمية والمروءة وعواملها النفسية، من أجل اعتبارات «أدبية» ومجادلات كلامية، هي حركة لا تعرف مهمتها التي وضعتها العناية في عنقها.

الحرب هي كلمة التعارف عند القوميين الاجتماعيين، والحرب الحاضرة لحركتنا هي ما قرر الزعيم منذ البدء:
بأن تكون في الداخل أولاً لتوحيد الأمة وإنقاذها من المفسدين والمقلقين والمنافقين والسفسطائيين، وجعلها جبهة واحدة متماسكة، متراصة تجاه الأعداء الخارجين كائناً ما كان جنسهم وأياً كان مصدرهم.

جميع الرفقاء القوميين الاجتماعيين، الواعين المدركين، العاملين ــــ رؤساء ومرؤوسين ــــ يجب أن يعملوا بنظام ويحاربوا، كل فئة في جبهتها، أعداء النهضة الداخليين، بالقلب واللسان والقلم واليد والرجل.
يجب عليهم أن يسكتوهم في المجالس وأن يشهروهم في الصحف. وقد رأينا القوميين الاجتماعيين في الوطن يصفعونهم ويركلونهم ويرفسونهم حيثما ثقفوهم، ليعلم الناس أنّ الحركة السورية القومية الاجتماعية ليست مجرد «فكرة»، بل عقيدة وإيماناً وفلسفة، وأنها ليست أقل من كل ذلك فعلا!

قال الزعيم:
«الحركة السورية القومية الاجتماعية هي حركة مهاجمة لا مدافعة». والزحف يجب أن لا يتوقف إلا قدر ما يقتضيه تطهير المناطق من فلول الأعداء وعصاباتهم وجواسيسهم، وتحصين المراكز اللازمة وأخذ الأهبة للتقدم الجديد.
آمنوا وأطيعوا وجاهدوا!
لا تبغوا السلم حتى يتم النصر الكامل. ولا تستخفوا بالأعداء إلى أن تسحقوهم!

أنطون سعاده
الزوبعة، بيونس آيرس،

العدد 63، 15/7/1943

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى