هل تصمُد المفاعيل “الإيجابيّة” لتعميم المركزيّ في لبنان في لجم سعر الصّرف؟
عميد الاقتصاد الرّفيق فادي قانصو
خلال الأسبوع الماضي، أدخل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تعديلاً على التّعميم 161 المتعلّق بإجراءات استثنائيّة للسحوبات النّقديّة. وقد أعلن عن التّعديل عقب خروجه من اجتماع ترأّسه رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، وضمّ وزير المال يوسف الخليل. واستناداً إلى التّعميم 161 الصّادر عن المجلس المركزيّ في مصرف لبنان، تمّت إضافة بند يعطي الحقّ للمصارف بزيادة عن الكوتا الّتي يحقّ لها سحبها شهريّاً باللّيرة اللّبنانيّة، وأصبحت تأخذها بالدّولار الأميركيّ على منصّة صيرفة، أيّ أنّ تشتري الدّولار الورقيّ من مصرف لبنان مقابل اللّيرات اللّبنانية الّتي بحوزتها أو لدى عملائها على سعر منصّة صيرفة، من دون سقف محدّد. ووفق حاكم مصرف لبنان فإنّ التّعميم 161 يهدف إلى تقليص حجم الأوراق النّقديّة باللّيرة اللّبنانية المتداولة، وعمليّة تقليص الأوراق النّقديّة باللّيرة ستكون بين البنك المركزيّ والبنوك التّجاريّة، وذلك في محاولة لتخفيف الضّغط قدر المستطاع على سعر الصّرف في السّوق السّوداء بعدما بلغ مستويات قياسيّة جديدة متجاوزاً عتبة الـ33 ألف ليرة للدولار، قبل أنّ يتراجع إلى حدود 24 ألف ليرة للدّولار في أعقاب صدور هذا التّعديل.
ولكنّ السّؤال الّذي يطرح نفسه، هل تصمُد المفاعيل “الإيجابيّة” الآنيّة لهذا التّعميم في لجم سعر الصّرف أمام جنون الدّولار ومساره العام التّصاعديّ؟
أوّلاً، هناك شكوك حول ما إذا كانت المصارف ستتجاوب بشكل مطلق مع التّعميم نظراً إلى عطشها الدّائم للدّولارات الطّازجة، وما إذا كانت ستلتزم بسقوف معيّنة بشكل استنسابيّ بين مصرف ومصرف آخر وبين مودع ومودع آخر أو حتّى بين زبائنها الشّركات والأفراد.
ثانياً، قدّ نشهد عمليّة حرق لحوالي 300 مليون دولار في وقت نحن بأمسّ الحاجة اليوم إلى كلّ دولار، في ظلّ عمليّة توزيع قد لا تكون عادلة وفي وقت قد تذهب فيه هذه الدّولارات إلى جيوب المصارف والمضاربين والصّرافين والتّجار النّافذين.
ثالثاً، إذا كانت هذه الدّولارات متأتية عن الاحتياطيّ الإلزاميّ أو عن حقوق السّحب الخاصّة (SDRs)، فهذا يشكّل مزيداً من الاستنزاف للمخزون الاستراتيجيّ بالعملات الصّعبة في وقت نحن بأمسّ الحاجة إلى كلّ دولار لتمويل الإصلاحات المرجوّة فيما بعد.
رابعاً، إذا كانت هذه الدّولارات متأتية عن السّوق السّوداء أو عن شركات تحويل الأموال أو عن السّوق الموازية، وبما أنّ الطّلب الحقيقيّ على الدّولار يفوق حُكماً العرض الحقيقيّ للدولار، فمع شحّ الدّولار المرتقب في السّوق، خاصّة إذا ما ذهبت دولارات المركزيّ إلى جيوب المضاربين عوضاً عن المودعين، قد نشهد حينها موجات جديدة لشراء الدّولار من السّوق لتمويل هذا التّعميم عبر ضخّ كميّات من اللّيرة، ما من شأنه أنّ يرفع سعر الصّرف، في موجة جديدة تشبه الموجة السّابقة التي رفعت سعر صرف الدّولار إلى 33 ألف ليرة للدّولار، خاصّةً مع انعدام الثّقة إذا ما بقي الوضع السّياسيّ والاقتصاديّ على ما هو عليه.
خامساً، مع تراجع سعر الصّرف في السّوق السّوداء إلى مستوى سعر منصّة صيرفة، فإنّ المكاسب المحقّقة نتيجة الهامش الّذي كان سائداً بين السّعرين، قد اضمحلّت نسبيّاً، ما من شأنه أنّ يكبح نوعاً ما الاندفاع الحاصل على المصارف لشراء الدّولار، ما يعني خروج شريحة واسعة من المستفيدين من جنّة التّعميم 161.
سادساً، هذا التّعميم ساري المفعول لفترة زمنيّة محدّدة حتّى هذه السّاعة، ما يعني بأنّ مفعوله أشبه بإبرة مورفين مرحليّة، مع شكوك بقدرة مصرف لبنان على الاستمرار بهذا التّعميم مطوّلاً وضخّ المزيد من الدّولارات من دون أنّ يؤثّر سلباً على احتياطاته النّقديّة أو على سعر الصّرف في السّوق السّوداء جرّاء عمليّة سحب الدّولارات من السّوق، وعندما يتوقّف المصرف عن ضخّ الدّولار سيعود سعر الصّرف للتّحليق مجدّداً الى ما فوق الثّلاثين ألفاً وأكثر.
باختصار، إنّ ما شهدناه من تراجع في سعر الصّرف في السّوق السّوداء في الأيام الفائتة ناجم أوّلاً عن تعديل التّعميم 161 عبر الحديث عن ضخّ مرتقب لما يوازي 300 مليون دولار من قبل مصرف لبنان، وثانياً عن اندفاع حاملي الدّولار إلى بيع دولاراتهم سعياً لتحقيق بعض المكاسب جرّاء الهامش الّذي بات ضيّقاً بين سعر صرف السّوق السّوداء وسعر منصّة صيرفة وجرّاء المخاوف من مزيد من التّراجع في سعر الصّرف مع عودة الثّنائي إلى مجلس الوزراء، ما خلق عرضاً لا بأس به من الدّولار الأميركيّ، وإنّ لا يزال الطّلب يتجاوز العرض، ولكنّ سرعان ما ستتبدّد مفاعيل هذا التّعميم في ظلّ الشّكوك حول القدرة على استدامة هذا الإجراء الّذي يتطلّب توفّر الدّولار من قبل مصرف لبنان بشكل مستمرّ مع غياب الحلول الجذريّة، كما هو الحال مع كل التّعاميم التي صدرت في الآونة الأخيرة لناحية عدم جدواها وذلك في استمرار واضح لعمليّة شراء وقت منذ ما يقارب العامين بانتظار الحلّ الجذريّ السّياسيّ والاقتصاديّ لأزمة تُعتبر من ضمن أسوأ الأزمات الاقتصاديّة حول العالم منذ ما يقارب القرن من الزّمن.