البلاد السورية سيدافع عن سلامتها جيش سوري لا جيش تركي
مرت في الشهر الماضي ذكرى حدث مؤلم جداً لكل سوري أبيّ بوجه عام ولكل سوري قومي اجتماعي بوجه خاص، هي ذكرى آخر حلقة من سلسلة اتفاقات جرت بين فرنسة، بصفتها دولة منتدبة من الجمعية الأممية على سورية، وتركية لنقل السيادة على منطقة الإسكندرونة من سورية إلى تركية وسلخ هذه المنطقة الغنية عن جسم الوطن السوري وضمّها إلى تركية.
إن مسألة الإسكندرونة من أغرب المسائل السياسية الإنترناسيونية التي حدثت في القرن العشرين. هي رواية مثلّت فيها الخيانة الأجنبية والوطنية دوراً من أروع أدوارها.
في سنة 1936، بعد الاضطرابات التي حدثت في لبنان والشام على أثر ظهور الحزب السوري القومي الاجتماعي، قبلت فرنسة عقد معاهدتين مع هذين الجزأين من سورية تعترف فيهما باستقلالهما السياسي وسيادتهما الحقوقية. ولكن فرنسة لم تكن مخلصة في معاهدتها، فما كادت المعاهدتان توقّعان حتى باشرت تشجيع المشاغبات الداخلية والاتفاق مع تركية على أرض سورية داخلة ضمن سيادة الدولة الشامية التي اعترفت باستقلالها. والرجال الذين اختارت فرنسة الاتفاق معهم على المعاهدتين لم يكونوا مخلصين، أو لم يكن إخلاصهم تامّاً، ولم تكن لهم مقدرة سياسية تذكر فكانوا متواطئين معها في الشام ولبنان على الخيانة.
تم الاتفاق الأولي بين فرنسة وتركية على منطقة الإسكندرونة السورية في أواخر سنة 1936، وكان ذاك الاتفاق مكتفياً بإيجاد استقلال إداري واسع للمنطقة المذكورة، وضع خاص يجعل حمايتها مشتركة بين فرنسة وتركية. وهو يعني جعل منطقة الإسكندرونة تحت سيادة فعلية مشتركة، وأول خطوة نحو إلغاء السيادة السورية عليها وسلخها عن جسم الوطن السوري لتضم إلى تركية.
لم ينهض في سورية غير الحزب السوري القومي الاجتماعي لمقاومة الدسائس السياسية والاتفاقات الإنترناسيونية المجحفة بحق الأمة السورية. وتجاه هذه المقاومة لجأت فرنسة وتركية إلى خطة واسعة. فدبرت فرنسة مشروع إرسال لجنة من قبل الجمعية الأممية تدرس حالة الإسكندرونة وتقرر المصير الذي تراه أوفق لهذه المنطقة، أي المصير المتفق عليه بين أصحاب هذه المؤامرة الشائنة. وفي 29 مايو/ أيار سنة 1937 أصدرت الجمعية الأممية نظام منطقة الإسكندرونة التي سميت “جمهورية هاتاي” وقانونها الأساسي. وقد أبقى النظام المذكور على صلة رسمية بدولة الشام.
في 4 يوليو/ تموز 1938 عقدت فرنسة وتركية معاهدة صداقة اتفق فيها الطرفان المتعاقدان على تعزيز العناصر التركية في الإسكندرونة. وفي 23 يونيو/ حزيران 1939 عادتا فعقدتا اتفاقاً أخيراً تقرر فيه بينهما نقل السيادة على الإسكندرونة إلى تركية، وكانتا متأكدتين من حصول موافقة مجلس “جمهورية هاتاي” التركي على ذاك النقل، التي حصلت في 29 يونيو/ حزيران من السنة المذكورة.
وفي 23 يوليو/ تموز 1939 كمل تسلم السلطة التركية السيادة على الإسكندرونة، ففي منتصف نهار ذلك اليوم تسلم السيد سيوكمن سوير، مدير الأمن العام سابقاً في أنقرة، الحكم بصفة حاكم لمنطقة الإسكندرونة التي صارت الولاية الثالثة والستين من ولايات تركية.
بهذه المناسبة ننقل عن عدد جريدة الشرق البيروتية الصادر في 29 يناير/ كانون الثاني سنة 1937 المقال الذي كتبه زعيم الحركة السورية القومية الاجتماعية، عند وصول أول خبر عن الاتفاق الأول في أواخر 1936؛ وكان الزعيم حينئذٍ في الفراش من جراء وعكة ألمت به. وهو كما يأتي:
تم أخيراً الاتفاق بين فرنسة، الدولة المنتدبة على سورية، وتركية على منح مدينتي الإسكندرونة وأنطاكية استقلالاً داخلياً إدارياً، وعلى جعل الدفاع عن لواء الإسكندرونة من حق تركية وفرنسة وفاقاً لاتفاق يعقد بينهما في أقرب وقت، وعلى جعل المدينتين المذكورتين تابعتين، في الشؤون الخارجية، للجمهورية السورية “باعتبارها عضواً في الجمعية الأممية” أي بناءً على هذا الاعتبار.
وتقول برقية صادرة عن جنيف بتاريخ 15 الجاري إنّ الأوساط الإنترناسيونية قد قابلت هذا الاتفاق بالارتياح التام لأنها كانت تخشى صدمة مشكلة إنترناسيونية من جراء اختلاف فرنسة وتركية ربما أفضت إلى اضطراب السلام الأوروبي.
الحقيقة أنّ هذا الاتفاق قد جاء بعيداً كل البعد عن حل قضية الحدود السورية ـ التركية حلاً يؤمن السلام. إنّ تأمين السلام على الحدود السورية ـ التركية لا يمكن أن يتم بالإجحاف بحقوق سورية وافقادها سيطرتها على بقعة هامة من الوطن السوري تضاف إلى البقاع التي فقدتها بموجب اتفاقات سابقة.
إنّ الاحتفاظ بحق الدفاع عن لواء الإسكندرونة للقووات التركية والفرنسية يعتبر تمهيداً عملياً لتهديد استقلال سورية وخسارة كبيرة لمصالح الأمة السورية.
إنّ في فقد السيطرة السورية على لواء الإسكندرونة خسارة لا تنحصر في دولة الشام بل تشمل لبنان وفلسطين وشرق الأردن لأنها فَقْدُ بقعة خصبة وموقع هام للتجارة والأعمال الحربية، وتهديداً لا يقتصر على كيان دولة الشام بل يتناول سورية الجغرافية لها، لأن اجتياز الحدود من الشمال يعني أنّ البلاد كلها أصبحت في خطر.
وليس شيء أضمن للسلام من استعداد بعض الأمم للفناء في معترك تنازع الحياة والتفوق. وإذا كان رأس الحكومة السورية رجال مسؤولون يحبّون السلام أكثر من الاحتفاظ بالحياة ويقفون تجاه الأخطار المحدقة والمناورات الموجهة ضد سلامة الوطن ومصالح الأمة مكتوفي الأيدي، لا يبدون ولا يعيدون، فليس موقفهم معبراً عن رغبات الأمة وإرادتها.
إنّ الأمة تريد أن تختنق بين الضغط التركي والضغط الصهيوني. إنها قد سئمت العقم الفكري والشلل السياسي اللذين يغمران موقف السياسيين الكلاسيكيين القابضين على زمام الأمور، ولا يعرفون من طبائع الأمور السياسية سوى ما يدّعون ويجادلون، وما يختلفون من أعذار للشلل المصابين به. إنهم يظنون الأمة مشلولة، وليس الشلل إلا في نفوسهم.
إنّ النهضة السورية القومية قد أعطت البرهان القاطع على معنوية الأمة وعلى ما فيها من موارد قوية كانت كامنة حتى حركتها النهضة القومية وبعثتها لتؤيد حقنا في الحياة ولتعطي دليلاً حياً على أننا نريد الحياة قبل السلام.
إنّ الحزب السوري القومي كان القوة الأولى الوحيدة في سورية التي وقفت موقفاً حاسماً في جانب تصريحات ممثل الدولة المنتدبة في اجتماع جمعية الأمم الأول لبحث مسألة الإسكندرونة، وإنّ هذه القوة ستظل في موقفها.
إنّ الأرض السورية سيدافع عنها جيش سوري لا تركي. وإذا كان الجيش الفرنسي سيشترك في هذا الدفاع فإنه يفعل ذلك بموجب صك الانتداب ووفاقاً لمعاهدة الصداقة والولاء التي لا يزال حبرها رطباً.
إنّ النهضة القومية الجديدة لا تتوقع من الحكومة الحالية في الشام غير الموقف الضعيف الذي وقفته حتى الآن، ونكرر أنّ هذا الموقف لا يعبّر مطلقاً عن إرادة الأمة واستعدادها لصيانة حقوقها ومصالحها.
قلنا إنّ مسألة الحدود الشمالية لا تهم أهل الشام فقط، بل أهل لبنان وفلسطين وشرق الأردن أيضاً. لقد قلنا ونعيد القول إنّ السوريين القوميين في لبنان وغير لبنان يعدّون حدودهم الوطنية حدود سورية الجغرافية ويعتبرون كل اعتداء على الحدود اعتداء عليهم.
إننا نطالب بأن تكون أول نقطة من نقاط البحث في المصالح المشتركة بين لبنان والشام نقطة توحيد الجيش أو توحيد وسائل الدفاع عن الحدود العامة التي تضمن تقدم الأمة في مضمار الحياة.
إننا لا نوافق مطلقاً على النظرية الخرقاء القائلة بأن تهديد سلامة الشام لا يتضمن تهديد سلامة لبنان. إنّ المصير القومي واحد للبنان والشام وفلسطين وشرق الأردن. ولا شيء يؤمّن خير المصير سوى استعدادنا لإدراك خطورة الموقف وتوحيد الجهود في نهضة غرضها حماية المصلحة القومية العامة.
إننا نخاطب الدولة المنتدبة ونقول إنها إذا كانت لم تجد في المواقف السورية الحكومية التأييد الكافي لتصريحات ممثلها المثبتة حق سورية في لواء الإسكندرونة، فإن هذه التصريحات والتصريحات التي أدلينا بها دفاعاً عن حق سورية في هذا اللواء تجد التأييد الفعلي الكافي في النهضة السورية القومية.
أنطون سعاده
الزوبعة، بوينُس آيرس
العدد 47، 1/7/1942
“نقلاً عن الشرق، بيروت، عدد 29/1/1937”