الدين والفلسفة الاجتماعية
تمهيد:
كنا قد وعدنا القرّاء، في ختام الحلقة السابقة، ببحث نصوص الإسلام كدولة في هذه الحلقة، ولكن رأينا أن نضع هذه النظرة الفلسفية التحليلية للإسلام قبل بدء بحث نصوصه كدولة، تسهيلاً لفهم طبيعة هذا الدين وأغراضه ومراميه، ولفهم محل نصوصه الدولية منه.
قلنا، في ما تقدم، إن القسم المكي من الدعوة الإسلامية هو الأكثر اختصاصاً بالوجهة الدينية، وإن القسم المدني هو الأكثر اختصاصاً بالوجهة الدولية. والحقيقة كلها أقوى من هذا التعريف، فالقسم المكي مختص كل الاختصاص بالنص الديني فلا يدخله شي من النص الدولي، في حين إن القسم المدني يدخله نص ديني مع اختصاصه بالوجهة الدولية من الدعوة، ذلك أن غرض هذا القسم ليس نقض غرض القسم الأول، بل تحقيقه.
وقد قلنا أيضاً إن أول الدعوة هو بمثابة أسسها لأنه يعيّن غاية الدعوة واتجاهها الصحيح قبل أن يطرأ عليها من التفاعل مع البيئة، ما قد يضطرها لاتخاذ أشكال مختصة بسير الدعوة وواسطة تحقيقها، وليس بحقيقة الدعوة وأغراضها الأخيرة. فالدعوة تعلن أولاً ثم يكون السعي لتحقيقها وتعميمها، فتحتكّ بالبيئة وتتفاعل معها. ومن هذا الاحتكاك والتفاعل ينتج تطور الدعوة في نهجها التطبيقي الذي يحتمل أن يكسب الدعوة الأساسية النظرة الفلسفية التي يصلح استعداد البيئة الروحي والمادي لحملها، إذا لم تكن لها هذه النظرة من البدء. وليس لهذا التطور نهج قياسي عام، لأنه مختص بالدعوة والبيئة الناشئة فيها، وليست الدعوات ذات نظرة واحدة، وليست البيئة واحدة في العالم، بل متعددة وعلى أنواع وخصاص شتى. ولبعض البيئات استعداد خاص لاستخراج نظرة إلى الحياة والكون تشمل جميع البيئات التي من نوعها كسورية وإغريقية، مثلاً. فهاتان بيئتان خرجت منهما نظرات وعقائد شملت العالم المتمدن كله.
وسورية كانت قاعدة التفكير الإغريقي ذاته من غير نفي خصائصه الغنية. وما قامت به سورية ما كان يمكن أن تقوم به بيئة أخرى كالهند أو الصين، مع غنى كل منهما بالاستعداد النفسي، لأنه استعداد ليس أو لم يكن صالحاً لاستخراج نظرة إلى الحياة والكون يمكن أن تشمل جميع العالم المتمدن.
كذلك البيئة العربية ـــ بيئة الصحراء والبداوة ـــ بيئة الضروريات الحيوية والحلقة المغلقة للأفعال النفسية ــ هي بيئة لها استعداد خاص، بطبيعتها ومزيجها الدموي لاستخراج نظرة إلى الحياة والكون تشمل جميع البيئات التي من نوعها كالسلاجقة والمغول وجميع الشعوب الفطرية أو القريبة إلى البداوة. وهذه النظرة هي: إيجاد صراط مستقيم يوصل إلى الغاية الأخيرة بواسطة شرع حتمي لا حاجة للنفس بما وراءه أو ما حوله، أي تحديد مطالب الحياة بالحاجات المعاشية والتناسلية في وضع شرعي يؤمّن الطريقة العملية لحصول هذه المطالب المحدودة الجامدة، ورفض جميع التصورات الفلسفية المركّبة الخارجة عن الأوليات اللازمة لإقامة الحدود المحتاجة إليها البيئة الصحراوية، شرع واحد لحياة واحدة محدودة.
إن تأمل مؤلف هذا البحث الفلسفي والمبادىء المناقبية واتجاهاتها جعله يقرر هذه القاعدة: كل دعوة، مهما كان ابتداؤها أو غرضها الأخير عاماً، شاملاً لجميع النوع الإنساني، فإن نظرتها إلى الحياة والكون يجب أن تكون منطبقة على خصائص البيئة التي تنشأ فيها واستعدادها الروحي، فلا يمكنها أن تشذّ عن استعداد بيئتها إلا إذا خرجت منها أو وُجّهت إلى غيرها المخالف لها. فلا شك عندنا في وجود تجانس وترابط بين الدعوة أو الرسالة في جميع تفاصيلها والبيئة وجماعتها البشرية في استعدادها النفسي والمادي وظروفهما. ولا شك عندنا في أن انتشار الدعوة وقبولها في البيئات الأخرى يجب أن يكون خاضعاً لمبدأ التجانس والترابط بين النظرة الفلسفية الخارجة من بيئة معينة، واستعداد البيئات الأخرى لقبولها والعمل بها، أو لتعديلها إذا كان قبولها لها غير اختياري أو خاضعاً لعامل تاريخي معين.
اليهودية شبه المتمدنة لم تقدر أن تعمّر طويلاً في سورية لأنها كانت دون استعداد البيئة الروحي. والمسيحية السورية حين دخلت العُربة انحطت حتى صارت مجرد لذات جسدية كشرب الخمر فلم تجد نظرتها إلى الحياة الاجتماعية محلاً لها في النفس العربية الخاضعة لبيئة طبيعية تضيّق أفق التصور، وتقيد النفس ببسائط العيش.
إن حل مسألة مصير نفس الإنسان بعد موته هو أمر شغل عقل الشعوب التي ارتقى تفكيرها، وأخذت شخصية الفرد تتميز فيها عن مجرد الشكل الإنساني العام. بل إن الاتصال بحياة بعد الموت أو الانتقال إليها ابتدأ يجد سبيلاً إلى نفس الإنسان حال ارتقائه النفسي عن حدود الحيوانية، وذلك بواسطة شعور تدل عليه عادات دفن الموتى في الشعوب والمدنيات الأولية. والدين، في أساسه وبعد ارتقائه، هو عقيدة معرفة مصدر الإنسان ومعاده ومصير الفرد الأخير.
فهو من هذه الناحية، لا يكوّن نظرة إلى الحياة وا لكون بالمعنى الاجتماعي ــــ الاقتصادي ــــ الروحي. ولكنه يؤثر أو يساعد على إبراز هذه النظرة التي يكون منشؤها الحقيقي في الاستعداد النفسي للبيئة الاجتماعية ــــ الطبيعية التي يحدد أو يوسع لها استعدادها فهم كيفية مصدر الحياة ومعادها. فنقول بكل تأكيد إن الدين، حين يصبح عقيدة أساسية تشمل المبدأ والمعاد، يصير محور جميع الأفكار الرامية إلى تكوين نظرة فلسفية في الحياة والكون بالمعنى الاجتماعي ــــ الاقتصادي ــــ الروحي. فيكون الدين واسطة لإبراز نظرة المجتمع إلى الحياة كما تصير هذه النظرة طريق تحقيق العقيدة الدينية.
عند هذا الحد من التعليل نرى وجوب تقرير هذه الحقيقة: إن الدين، من الوجهة التاريخية الاجتماعية، مسبب لا سبب، ولكنه يصير سبباً من الوجهة الوضعية بعد رسوخ العقيدة.
جميع الأديان في الدنيا تخضع لهذه القواعد التي استخرجناها من الدرس والتأمل، فإذا كنا نبحث الدين المسيحي عليها فلا بد من بحث الدين الإسلامي أيضاً بالطريقة التي تعيّنها.
قلنا في الحلقة (23) إن أغراض الدين الإسلامي الأخيرة التي تجمع كل فكرة الدين ثلاثة هي:
1) إحلال الاعتقاد بالله الواحد محل عبادة الأصنام.
2) فرض عمل الخير وتجنب الشر.
3) تقرير خلود النفس والثواب والعقاب (الحشر).
وقلنا أيضاً إن هذه الأغراض هي أساس دعوة محمد وصُلبها. وإن ما تبقى هو الأمور الشكلية التي تُتخذ وسائل لبلوغ هذه الأغراض، وهي أيضاً جوهرية، ولكن أهميتها نسبية من الوجهة الدينية البحتة. وعنينا بهذا الإيضاح أن الأغراض الدينية البحتة هي التي لا تشتمل في حد ذاتها على النظرة إلى الحياة والكون بالمعنى الاجتماعي ــــ الاقتصادي ــــ الروحي، بل تقتصر على تعيين المبدأ والمعاد في ما وراء المادة أو بعد الموت وقبل الولادة. وبناءً على هذا التحليل تكون حقيقة الدين في الغرضين الأول والثالث. أما الغرض الثاني فهو الذي يحل مسألة الفائدة أو الضرورة لارتباط العقائد المجاوزة حدود المادة بالحياة الإنسانية في مختلف أشكالها وظروفها. وفيه تظهر النظرة إلى الحياة والكون بالمعنى الاجتماعي ــــ الاقتصادي ــــ الروحي في تعيين الأشكال والألوان التي قلنا إنها جوهرية، مع نسبية أهميتها لغاية الدين الأخيرة التي هي إيجاد مستقر دائم للنفس الإنسانية في الله . وقد جعلنا الغرض الثاني في صلب أغراض الدين من حيث لزومه لكل فكرة فلسفية في حالة مطلقة لا تعيّن نظرة إلى الحياة والكون.
وقد بيّنا في ما تقدم من هذا البحث أنه لا خلاف بين المسيحية والإسلام في حقيقة الدين أو على الأغراض الدينية البحتة. وأثبتنا بالشواهد الكثيرة أن كتاب المسلمين نفسه يقرّ إن الدين واحد في المسيحية والإسلام، فلا خلاف بينهما في الإقرار بإله واحد خالق السموات والأرض وكل كائن حي أو جماد، وبالعودة في الأخير إلى الله حيث يكون الخلود إما في النعيم وإما في الجحيم.
مع ذلك فقد كوّن كل من هذين الدينين نظرة إلى الحياة والكون قامت عليها قواعد اجتماعية ــــ اقتصادية ــــ روحية مستقلة عن نظرة الدين الآخر وقواعده. وهذا التباين أو الاختلاف ليس ناتجاً عن تباين أو اختلاف في الدين، بل عن تباين المجتمع السوري المدني، العمراني، والمجتمع العربي البدوي غير العمراني. ويظهر هذا التباين في التفاصيل والأشكال التي لا أهمية كبيرة لها بالنسبة إلى الله والفكرة الدينية الأساسية، والتي يصير لها كل الأهمية بالنسبة إلى المجتمع واستعداده الروحي ونظرته إلى الحياة والكون. فمن الوجهة الدينية الاختلاف شكلي غير جوهري، لأن كل مجتمع قصد إقامة الخير وإفناء الشر. ومن الوجهة الاجتماعية الاختلاف جوهري أساسي، لأنه يقوم على تعريف الخير والشر وتحديدهما وطرق إبقاء الواحد وإزالة الآخر. وعلى هذه الطرق يتوقف مقدار صلاح الحياة الإنسانية الاجتماعية قبل الانتقال إلى الحياة السرمدية.
بناءً عليه لا يكون هنالك تباين أو اختلاف ديني قط، فالله يقبل الخير ويرفض الشر، خير كل مسلم ومسيحي وشر كل منهما، من غير تفريق بين خير الواحد وخير الآخر، وبين شر الواحد وشر الآخر، لأن الله ، حسب فلسفة العقيدة الدينية، لا يهتم بالأشكال بل بالأساس، هذا ذا حسبنا الله واحداً لجميع الأديان الإلهية. ولكن الذي لا يقبل كل خير ولا يرفض كل شر هو الإنسان وليس الله، فخير السوري قد لا يكون خير العربي أو خير الهندي، وخير العربي قد لا يكون خير الألماني أو الإنكليزي وغيرهم، وقد يكون خير العربي خير السلجوقي والأفغاني والمغولي وغيرهم.
الله يقبل خير المسيحي في صلاته وبره من غير وضوء ومن غير حسبان لمس النساء تنجساً، وفي الاكتفاء بزوجة واحدة وبمعموديته من غير ختان وفي عدم تحجيب النساء، وبترك الحرية للشرع ليتطور حسب تطور الإنسانية وحاجاتها. والله يقبل خير المسلم في صلاته وبره ووضوئه وتجنبه التنجس بلمس النساء قبل الصلاة وبغسل الوجه واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس والرجلين، وبالتقيد بالشرع الثابت الجامد وبالتزوج مثنى وثلاث ورباع مع العدل بين النساء وتحجيبهن من أجل الخير. كل خير يقبله الله بصرف النظر عن شكله. ولكل بيئة خيرها: ففي الصحراء حيث الماء قليل لا يسمح بالاستحمام كل يوم يكون الوضوء وغسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس والرجلين من الخير. وفي المعمور والأرض الخصبة حيث الصابون والماء غزير يصح استعماله بكثرة فالاستحمام كل يوم أو مرتين في الأسبوع مع غسل الوجه والأطراف وكل جزء من الجسم نضح منه عرق أو أصابه شي من القذارة في كل يوم يغني عن الوضوء ويكون من الخير. ومن يتفق له في سورية أن يلمس امرأة قبل الصلاة وله من تربيته ما يصرف نفسه عن الشهوات الجامحة، لا حاجة به للتطهر بالوضوء لأنه لم يداخل نفسه شي من الدنس حين الاقتراب إلى الله . ومن كان في الصحراء عازماً على الصلاة ولمس امرأة بعد الوضوء فثارت شهوته فصلاته في هذه الحالة لا تفيده لأن شعوره قد زاغ. ومنعاً لهذا الضرر يتوجب على من لمس امرأة بعد وضوئه للصلاة أن يعيد وضوءه من قبيل الاحتياط لسلامة شعوره، وهذا من الخير. ولكي نفهم نفسية العربي التي أوجبت هذا الاحتياط نورد ما ذكره قتادة، وهو: «كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع» وفي ذلك استنزل محمد القول: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد، تلك حدود الله فلا تقربوها»1. فهذه حالة استعداد روحي لا تطيق قول المسيح: «إن كل من نظر إلى امرأة لكي يشتيهها فقد زنى بها في قلبه»2، فإن هذا التعليم المسيحي لا يمكنه أن يلاقي قبولاً في بيئة كالعُربة، لأنه يطلب من أهلها ما هو مخالف لاستعدادهم الروحي. والله يقبل هذا الخير وذلك لأنه خير. ولكن الإنسان لا يقبل الخير كله لأنه لا يدرك أو لم يدرك الخير كله. فالخير للإنسان هو ما تعوّده وتربى عليه وتكونت منه نظرته إلى الحياة، فالختان للمتمدن المسيحي ليس من الخير، وعدم الختان للبدوي المسلم أو اليهودي الذي كان بدوياً ليس من الخير. وجميع ذلك من الأمور الملازمة لفلسفة الحياة وليس لعقيدة الدين، أي للإيمان بالله الخالق الذي إليه ترجع النفوس والأمور. وحيثما انتشر دين في مجتمع مخالف في الاجتماع والثقافة الروحية للمجتمع الذي خرج منه الدين لا بد أن يطرأ على النظرة إلى الحياة التي يحملها هذا الدين تعديل أو تغيير يوافق استعداد المجتمع الروحي. والإسلام قد مرّ في هذا الاختبار، فحيث انتشر في بيئات راقية في التمدن كسورية أخذت نظرته إلى الحياة تتخذ شكلاً غير الشكل المعروف في الصحراء، فارتقت من البسائط إلى المركبات. واليوم تقول العُربة بمذهب جديد في الإسلام يرمي إلى جعل الدين عبارة عن عبادة بسيطة توافق النفسية العربية: الوهابية. والمسيحية حين دخلت الصحراء اتخذت أشكالاً بسيطة على قدر استعداد البيئة فصار شرب خمر وصارت رموز ولادة المسيح عبارة عن زواج بسيط جرى بين الله ومريم. حتى إنه قام دليل على أن بعض الاعتقادات المسيحية في العُربة قالت بتثليث الآلهة بالفعل فقالوا: «الأب والأم والابن» والمرجح أن القرآن أبطل هذا التثليث الذي جعل الآلهة ثلاثة. ودليلنا قول الآية: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله …}3 وهذا يدل على الاعتقاد بألوهية مريم أيضاً وهذا ما لا يقول به أحد من المسيحيين المتمدنين. أما النظرة إلى الحياة التي تحملها تعاليم المسيحية فلم يمكن تطبيقها ولم تجد قبولاً في البيئة العربية.
هذه هي النظرة التي جعلتنا نجزم بأن الدين يكون كله لله بدون أي تصادم بين المسيحية والإسلام، وبانتشار كل من هذين الدينين في البيئات الأكثر موافقة وقبولاً لتعاليمه. ولكن الصعوبة لقبول هذا المبدأ تنشأ من الاعتقاد بكلية المذهب الديني. فكل دين أو مذهب ديني يدّعي أنه هو الدين كله لجميع البشر، استناداً إلى كلية فكرة الله . ومع ذلك يمكن حصر هذه الصعوبة في رجال الدين أما أبناء المجتمع فيجب أن يتحولوا عن الجدل العقيم إلى فهم نفسية مجتمعهم والعمل على إسعاده، تاركين الحكم في الاختلافات الدينية لله .
أما وقد اتضح لنا جيداً ما هو الفرق بين الإيمان الديني في أساسه والنظرة الفلسفية إلى الحياة والكون التي تكوّن وسيلة تحقيق الدين، فيمكننا أن نتقدم الآن إلى درس موضوع الإسلام كدولة.
قلنا، في ما تقدم، إن دعوة محمد كانت إلى الله الذي عرّفته الكتب الدينية التي سبقت القرآن (التوراة والإنجيل) وذلك لأن معظم العرب كانوا عبدة أصنام، وفي حالة توحش شديد، إذ لم تتمكن المسيحية من جلبهم إلى الله بواسطة نظرتها إلى الحياة وقاعدتها الفلسفية المخالفة لاستعداد أهل العُربة، ولم تتمكن اليهودية من ذلك بعامل نظرها الخصوصية التي جعلت الله وقفاً على بني إسرائيل.
لم تكن دعوة محمد إلى إله جديد غير الله المعروف في التوراة والإنجيل، بل إلى إله المسيحية واليهودية أيضاً. ولكنه خطّأ تأويلات مسيحيــي العرب في سوء فهمهم ولادة المسيح وتثليث الأقانيم التي هي لإله واحد. وما أثبتناه من الآي القرآنية يكفي للبرهان على أن دعوة محمد حسبت الله واحداً والدين واحداً منذ البدء، وأن الإسلام هو إسلام الأمر لله من قبل محمد ومن بعده: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون. وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنّا كنا من قبله مسلمين}1. أي إنّا كنا مسلمين لله من قبل القرآن. ومع كل ما ورد في القسم المدني من إقامة أسباب دولة الإسلام المحمدي فإن القرآن لم يبطل الإسلام اليهودي ولا الإسلام المسيحي، ففي سورة المائدة التي ورد فيها الحديث: «المائدة من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرّموا حرامها» لم ينقض القرآن قيمة التوراة والإنجيل فقال: {وكيف يحكمونك (اليهود) وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. إنّا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا… ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}2 وقال أيضاً من السورة عينها: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}1. فثّبت القرآن مرة أخرى، صحة كون التوراة مرجعاً لليهود وصحة كون الإنجيل مرجعاً للمسيحيين وأكد قوله السابق: {وهم على صلاتهم يحافظون}2 أي أنه لا حاجة بهم لتغيير دينهم مع الإيمان بالقرآن، إذ الدين واحد وأمة أصحاب الكتب المنزلة هي في القرآن «أمة واحدة» في الأصل والأساس ولكنهم صاروا أمماً بما شرع الله لكل فريق منهم: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب )والتوراة والإنجيل) ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله (أي بكل ما أنزل الله حسب ترتيبه السابق) ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم (أي لكل منكم يعني لكل فريق منكم جعلنا) شرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون}3.
تؤكد هذه الآيات القرآنية قولنا السابق (الحلقة 25) أنه لم يكن في بدء الرسالة الإسلامية أي اتجاه للاصطدام مع الموسويين أو المسيحيين في نزاع على ادعاء صحة الرسالة أو نقض التعاليم، وما عنيناه من بدء الرسالة هو أساسها وغرضها الأخير كما سبق لنا شرحه.
وإذا تدبرنا القرآن سورة سورة، حسب تعاقب الاستنزال، وجدنا أن السور تعاقبت في التسبيح لله وقدرته وتبشير الذين لا كتاب لهم بملكوته وثوابه وإنذار المكذبين والمبطلين بعقابه. وأخذ يثبت دعوته بالوحي الذي اشتمل على قصص ما ورد في التوراة والإنجيل. فقاوم دعوته عبدة الأوثان، وهزئوا من قوله إن الأموات يقومون من القبور يوم الحساب، فعالج حججهم وذكرهم هزوء الناس الأولين من الأنبياء والرسل السابقين، واستشهد على صحة رسالته بالكتب السابقة، كما أثبتنا في موضع متقدم، وأعطى العرب صورة الجنة ونعيمها الملائم للنفسية العربية. ولكن كرازته الطويلة لم تثمر سوى نفر قليل من ذوي النفوس الشعرية. فاضطهدته قريش فهرب وصحابته الذين التجأوا إلى الحبشة. ثم أعاد الكرّة وتابع الكرازة دون كبير توفيق، فالكلمة لم تلاقِ آذاناً صاغيةً، خصوصاً لأن الدعوة لم تشتمل على سوى ما يصيب النفس بعد الموت، فلم يعطِ ذلك للعرب شيئاً تشتغل به عقولهم ونفوسهم جملة في حياتهم، لأنه لم يكن لهم استعداد للاشتغال بما وراء الطبيعة وهم في أشد الحاجة للاشتغال بما ضمن الطبيعة، ولأن طبيعة بيئتهم ونوع حياتهم كانا دون المستوى الذي يسمح بالاشتغال بالمسائل الروحية والفكرية المجرّدة عن الطبيعة المادية والضرورات العملية. ومع أن تصوير الجنة كان بما تتوق إليه نفوسهم من النعيم المادي في ظلال وعيون وحور عين وحلل بديعة وذهب وفضة، فإن النفس العربية لم تكن مستعدة للانصراف إلى التفكير بغير الشؤون البسيطة القريبة المتناول. وقد بقي محمد يبشر وينذر في مكة مدة ثلاث عشرة سنة، أي عشر سنين زيادة على مدة تعليم المسيح، من دون أن يتبعه غير الأفراد الذين كوّنوا حلقة صحابته، فوقعت الرسالة في مأزق كان لا بد من فتح منفذ فيه إذا كان يجب أن تتابع عملها.
في المدة المكية كانت الدعوة وأغراضها قد تمت ووضحت فإذا هي دعوة إلى الاعتقاد بالله الواحد وبالرجعى إلى الله والعقاب والثواب، وبوجوب فعل الخير وتنكب الشر من غير تعيين لما هو الخير وما هو الشر إلا الإيمان بالله والكفر به، وفي عدم التعيين لما هو الخير وما هو الشر في مجرى الحياة الإنسانية لم يكن للدعوة نظرة إلى الحياة والكون بالمعنى الاجتماعي ــــ الاقتصادي ــــ الروحي، وهذا كان نقطة ضعف الدعوة في الطور المكي. فدون وجود نظرة أو فلسفة تعيّن الاتجاه في الحياة فقليلاً ما يشغل أفكار المحتاجين إلى هذه النظرة ما يمكن أن يكون بعد الموت. فكان يجب أن يكون للرسالة غرض واضح في الحياة يجد محلاً في نفوس المدعوين إليها. وهذا الغرض هو بالنسبة إلى النظرة الدينية البحتة التي تدور على مسائل ما بعد الموت، هو غرض ثنوي وواسطة فقط إلى الغرض الأخير. وهذا المبدأ يشمل الإسلام والمسيحية وكل دين إلهي قال بخلود النفس والانتقال إلى الآخرة. ولذلك أجاب المسيح عالم الناموس قائلاً: «اعمل فرائض الناموس فتحيا الحياة الأبدية»1. وهكذا فرائض الإسلام فإنها ليست سوى واسطة التقرب إلى الله واكتساب رضاه لينال المسلم الخلود في الجنة الموصوفة في القرآن. ولكن النظرة الاجتماعية ــــ الاقتصادية ــــ الروحية هي من الوجهة الفلسفية الاجتماعية، أو ما يجب أن يكون لهذه الوجهة، الغرض الأساسي من الدين. ومن هذه الوجهة التي تهتم بما قبل الموت باستمرار الحياة في هذه الدنيا، ليس الدين سوى الغرض الثنوي أو الواسطة لتحقيق الغرض الأولي الأساسي، الذي هو، أو ما يجب أن يكون، حصول نظر إلى الحياة الاجتماعية ــــ الاقتصادية ــــ الروحية تعيّن شرعة أو قاعدة يكون فيها أكثر الخير والصلاح للمجتمع بمعنى الواقع الاجتماعي الذي أشرنا إليه آنفاً.
ولمّا لم يكن محمد فيلسوفاً اجتماعياً بل نبياً إلهياً، فإن نظرته هي النظرة الدينية وغرضه الأخير هو إقامة الدين. وكل نظرة أخرى يجب أن تكون مجرد نظرة ثنوية أو واسطة لإقامة الدين والوصول إلى خلود الجنة وبناءً عليه نقول بتأكيد إن حقيقة الدين وأساس الدعوة المحمدية هو ما اشتمل عليه الطور المكي الذي هو الطور الروحي، المنزه عن شؤون العالم الدنيوي، المتجه نحو مقر النفس الأخير في ما وراء المادة، وإن الاتجاه الدنيوي الذي سلكه الطور المدني ليس سوى الواسطة أو الطريق للقضاء على عبادة الأصنام وإقامة الفكرة الدينية لإتمام الغرض الديني الأخير الذي اكتمل في المدة المكية.
قلنا إنه بعد ثلاث عشرة سنة من الدعوة إلى الله من غير نجاح في الجماعات والجماهير، وصلت الرسالة إلى مأزق لم يعد ممكناً لها التقدم فيه بواسطة مجرد التبشير والإنذار، وصار من اللازم اتخاذ خطة أخرى. ولا شك في أن محمداً فكر ملياً في ما يجب فعله، ووضع خطة عقد العزيمة على تنفيذها وقد اشتملت هذه الخطة على الخطوط النفسية العربية والتفكير العربي التي نرى، عند التحقيق، أنها توازي خطوط النفسية العبرانية والتفكير العبراني قبل أن أثرت المدنية السورية على العبرانيين تأثيرها الكبير. ولذلك نجد موازاة تكاد تكون تامة بين خطة إقامة الدين الإسلامي وخطة إقامة الدين اليهودي، وعلاقة وثيقة بين القرآن والتوراة، وقد أشرنا إلى هذه العلاقة وأسبابها في حلقتين سابقتين (15 و16).
في العهد المكي كان الخير والصلاح كله في الإيمان بالله، والشر والطلاح كله في الكفر بالله وعبادة الأصنام (الشرك). هذا كل ما يذكره القرآن من الخير في المدة المكية إلا آيات قليلة أولية في أواخر المدة كقوله في سورة العنكبوت وهي قبل الأخيرة من العهد المكي: {ووصّينا الإنسان بوالديه حُسناً}1 التي توازي «أكرم أباك وأمك»2 في التوراة وكقوله في سورة المطففين: {ويل للمطففين. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}3. وفي ما سوى ذلك وما شابهه لا تعيين لخير أو شر غير الإيمان بالله أو الشرك به. وهذه الفكرة الأولية وحدها ما كانت كافية لإنشاء ملّة ذات إيمان جديد من عبدة أصنام. ولعل خلو القسم المكي من تعيين الخير والشر ونظرة إلى الحياة والعالم كان اعتماداً على أن ذلك موجود في الكتب المتقدمة، في التوراة والإنجيل اللذين أوجب القرآن على المسلمين الإيمان بما جاء فيهما. وجميع سوَر هذا القسم تدل على أن القضاء على عبادة الأصنام وجلب العرب إلى عبادة الله الذي تقدمت محمداً رسلٌ بالدعوة إليه وتبيان سبله، كانا الغاية القصوى من الدعوة المحمدية، فليس في القسم المكي غاية غيرها، لا كلية ولا جزئية وسوَر القسم المكي (85) أو (86) سورة نزلت في ثلاث عشرة سنة وكلها تبشير وإنذار ووعد ووعيد في ترتيل شعري مستمر. وهذه هي الوجهة العامة من الإسلام. وهي لم تكوّن فكرة فلسفية تشمل الحياة الإنسانية بمناقبها ومثالبها وروحيتها وماديتها واجتماعياتها واقتصادياتها ومثلها العليا.
فكان لا بد من إحدى طريقتين: إما أن يعلن محمد أن هذه الفكرة الفلسفية موجودة في التوراة أو الإنجيل أو في كليهما، فتكون دعوته بمثابة دعوة إلى هذين الكتابين، وأما أن يُوجد الفكرة أو النظرة التي يمكن أن تكوّن للعرب قضيتهم الروحية ــــ الاجتماعية. فاختار محمد الطريقة الأخيرة، لأنه كره تذبذب اليهود ونفاقهم. ولم يجد استعداداً في العرب للنظرة المسيحية التي كانت مضطربة عند مسيحييهم. والحقيقة أنه كان لا بد من الاستقلال بتعيين طريقة الحياة الجديدة للعرب نظراً لخصائص بيئتهم. ومن جزم محمد بالطريقة الثانية نشأ الطور المدني الذي أخرج الدعوة من ملل تكرار تراتيل التسبيح والتبشير والإنذار والحمد والحض والتهويل، إلى الشرع وإقامة حدود المعاملات والعقود التي ترفع مستوى الحياة العربية وتضبطها. ولمّا كان العرب كلهم، إلا بعضهم، أميين وبعيدين عن الثقافة والعلم كان لا بد من إقامة الدولة لإخضاعهم للشرع وضبط تصرفاتهم.
هاني بعل
للبحث استئناف
(الزوبعة)، بوينُس آيرس
العدد (33)، 1/12/1941