الزعيم في كوردبة ــــ الأرجنتين
(كل أرض من العالم خصتها الطبيعة ببقعة صغيرة امتازت بصفاء سمائها وجودة مناخها ولطف هوائها وعذوبة مياهها. فكما أعطت لسورية لبنانها واختصته بماء زلال وهواء عليل وجو صافي الأديم، هكذا أعطت لكوردبة، إحدى ولايات هذه الجمهورية، سلسلة من الجبال شبيهة بجبال تلك البقعة السورية الجميلة، يؤمها الناس من كل حدب وصوب طلباً للراحة من جهاد الحياة وانتجاعاً للصحة والعافية.
وقد بوغتت الجالية في هذا الصيف بزيارة حضرة الزعيم لجبال كوردبة متخذاً له مركزاً هادئاً يتغلغل في قلب الغاب، بعيداً عن الضوضاء وازدحام الأقدام وعجيج هذه المدنية التي تسير على دواليب. فلم يتح إلا لبعض الجمعيات ولقليل من أبناء الجالية زيارته والاستعلام عن صحته، إذ كان معراجه قصير المدة. فزارته الجمعية الخيرية الأرثوذكسية للرجال، وجمعية السيدات، وروضة الآداب للتعرف به شخصياً. وطالما طلبت الشبيبة دعوته لهبوط المدينة والمكوث بها ولو بعض أيام. إنما صحة الزعيم كانت بإشارة من الأطباء تحتاج إلى راحة تامة وتدعو إلى الابتعاد عن كل عمل يتطلب جهوداً عقلية وجسدية.
وهكذا مرَّ شهر ونصف شهر على وجود سعاده معتصماً بالجبال وغابه، طالباً من شمس كوردبة الساطعة وهوائها البليل استرجاع بعض ما كان قد سلبه من جسمه الجبّار كفاحه في سبيل إعادة السيادة القومية لبلاده وكرامة أبناء بلاده.
وبين ليلة وضحاها إذا بالرجل الغيور الوجيه القومي السيد عبود سعاده، يبلّغ الأصحاب والرفقاء بأن الزعيم يحل ضيفاً كريماً في منزله وأنّ أبواب قصره مفتوحة لكل ما يريد زيارته. فتدفقت الناس من كل أرجاء المدينة وضواحيها للسلام على الزعيم وغصت دار السيد عبود بالوفود من الشخصيات البارزة في التجارة والأدب، يتقدمها الشباب الذي هو أمل الأمة السورية وقلبها الحساس. وإننا لنخص برسالتنا هذه وفد الجمعية الإسلامية الذي أتى مؤلفاً من السادة رئيس الجمعية السيد إبراهيم أحمد صالح ويوسف رحمون، يصحبهما الأديب حسين سكرية. فقد أتى هذا الوفد للسلام على الزعيم وتهنئته برجوعه بصحة تامة من مصيفه، ومن ثم لدعوته لحضور حفلة مدرسية يقوم بها تلاميذ المدرسة السورية لأبناء الفاكهة، قضاء بعلبك.
فقبل حضرته الدعوة، وفي يوم 12 ديسمبر/كانون الأول أقيمت الحفلة في دار الجمعية السورية ــــ اللبنانية للإسعاف المتبادل حيث مثلت رواية «فلسطين الشهيدة» تأليف السيد سكرية. وما كاد يصل الزعيم برفقة بعض وجهاء الجالية حتى دوّت أرجاء الدار بالتصفيق.
وفي الحال ابتدأ دور التمثيل الذي كانت تقاطعه خطب وأدوار مطربة. فتكلم أثناءها مدير المدرسة والسيد سكرية الذي رحّب بالزعيم الجليل، وذكر الشرف الذي نالته الجمعية والمدرسة بحضوره. وختم بتحية الزعيم وبالهتاف بحياة سورية والأقطار العربية. وحنّا وهبه ونادر كفوري وكلهم كانوا يفتتحون كلامهم بالترحيب بالزعيم. وقد قدم الأديب كفوري باقة من الأزهار للتلاميذ مكافأة على براعتهم وحسن إلقائهم. وأنشد قطعاً المطرب الأديب توفيق حلاّق، وألقى قصيدة وطنية معلم المدرسة الإسلامية في روساريو توفيق حاطوم، حيّا بها الزعيم ووجّه نداءً إلى الشعب للالتفاف حوله لإنقاذ سورية والعالم العربي.
وحين انتهاء الرواية، وما كاد يسقط الستار حتى أخذت أصوات الجمهور تدوي في القاعة طالبة إلى الزعيم أن يتكلم. فرقي المنبر السيد سكرية وبلّغ الزعيم رغبة الجمهور. فلبى الزعيم طلبه. كيف لا، وهو الذي يعرف نفسية شعبه أكثر من سواه. ألم يجاهد ويكافح في سبيل شعبه؟ ألم يضحِّ ويحتمل آلام السجون مراراً عديدة حبّاً بأمته. ألم يُنفَ ويحاكم غياباً لأنه قام يطالب بتحرير بلاده وحياة شعبه؟ فلا عجب إذا ما رأيناه في ساعة متأخرة من الليل في جو حارّ شديد الوطأة على الجسم، ساعة يودُّ الإنسان أن يصل إلى فراشه ليرتاح من ثقل قيظ الليل في هذه الأيام ــــ يلبي صوت الواجب ونداء شعبه الذي تجسّم تلك الليلة في هذا الجمهور الذي قام يعبّر عن نفس تريد الحياة، وقلب ينبض بعزم طالباً حرية بلاده وتحرير أمته من سلطة الأجنبي.
وهكذا اعتلى سعاده المنبر بين وجوهٍ باشة ورؤوس مشرئبة وأيادٍ تصفق وأفواهٍ تهتف. حتى إذا ساد السكون قال مخاطباً الجمهور المحتشد ما خلاصته):
أيها السوريون،
يسرني جداً أن أرى في هذا الوسط اختلاجات هي دليل حياة شعب يريد أن يكون له كبقية الشعوب الراقية مكان لائق به تحت الشمس.
إنّ روايتكم هذه تمثل نهضة مباركة فيها إرادة حياة جديدة ووراء هذه الإرادة قوة الأمة السورية، التي لها من تاريخها المجيد ما يدفعها إلى الطموح والرغبة بأن لا تتنازل عن حقوقها الطبيعية والسياسية لدى أية قوة غاشمة.
هذه الرواية تدل على أنّ عوامل الحياة لا تزال تتمثل فينا نحن السوريين، وأنّ هؤلاء الأطفال الذين قاموا بتمثيلها هم أبناؤنا، ولذلك كنت أود أن أرى مجموعنا كله يحيط بأطفالنا في هذه السهرة.
لا تكاد تجري حفلة من حفلاتنا حتى يجري فيها ذكر الوطن والمصير القومي، وهذا الذكر مهما كان ضعيفاً هو صوت خارج من ضمير الأمة السورية. بقي علينا أن نجد طريق السير ويجب أن نجده ونجتازه. إنّ الاتحاد لا يصير بمجرّد أن نقول لنتحد. كل اختلاف بين صفوف أمتنا له أسباب، وكل اتحاد يجب أن يكون حركة في صلب المجموع، هذه الحركة هي الحركة السورية القومية التي فعلت دون مناداة وحققت الوحدة في الصفوف القومية. يجب أن تزول الانشقاقات المدنية وستزول على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات.
الأمة السورية ليست ضعيفة كما ينادي دعاة الرجعة وفاقدو الثقة. فضعفها في القرون الأخيرة كان متأتياً من انشقاق الأمة السورية بعضها على بعضٍ. وما انخذل شعب إلا وكان متفرقاً. إننا نجعل من قوميتنا ديناً جديداً، ديناً اجتماعياً يختلف عن الأديان السابقة بأنه لا يهبط من فوق إلى تحت بل يصعد من تحت إلى العلو.
إنّ الأمم هي في تكاتفها وضم شتاتها وما كانت القوة الروحية إلا الدعامة الكبرى لهذا التكاتف، لأن هذه القوة تعطي إيماناً بالحياة، وكل شعب يخسر إيمانه بذاته كان من الخاسرين.
إنّ الشعوب تشعر بقوة إيمانها وروحها، وسورية الموحدة القوية بروحها تقدر أن تكون أقوى كثيراً من فنلندة مع روسية مثلاً. وكم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة. ولكن الغلبة لا تحدث إلا بالاجتماع على الحق. نحن أمة فيها قوة للإعطاء أكثر مما للأخذ، ولكن لا ينقصنا إلا الاعتماد على النفس وهذا ما يسعى في سبيل تعميمه والحصول عليه الحزب السوري القومي.
(وبالصفة نفسها التي قوبل بها الزعيم حين دخوله نادي الجمعية هكذا قوبل، حين أكمل خطابه، بالتصفيق الحاد، إذ دوّت الصالة وأرجاؤها بالأصوات والهتاف وسمع الشعب يصيح بصوت واحد:
ليحيى الزعيم!
لتحيى سورية)!
كوردبة في 23 ديسمبر/كانون الأول 1940.
مراسلكم
الزوبعة، بوينس آيرس،
العدد 11، 31/12/1940