سقوط الولايات المتحدة من عالم الإنسانية الأدبي

الولايات المتحدة هي الدولة الغربية الوحيدة التي كان يُنتظر منها أن تكون مثالاً صالحاً للتمشي على سياسة جديدة عادلة فيما يختص بالاستعمار واقتطاع الشعوب اللذين أُنشئت لهما بعد الحرب أساليب جديدة وبدعٌ جديدة. فبعد أن ظهر للشعوب المقتطعة خداع الدول الأوروبية لها، حوَّلت وجهها شطر الولايات المتحدة التي بدا من مجاهرتها بحقوق الشعوب الضعيفة وتصريحها بوجوب إلغاء المعاهدات السرية والسير على طريقة الباب المفتوح وغير ذلك، أنها دولة نزيهة لا ترغب إلا في العدل العام طبقاً للحقوق الأولية للأفراد والشعوب. ولكنها بعد مصادقتها على وصاية فرنسة على سورية مع ما تعلمه عن مآتي الظلم والاستبداد القبيحة التي تجريها تلك الدولة الأوروبية في سورية، سقطت من عيون السوريين خصوصاً والشرقيين عموماً قشور جديدة، وتنبهوا إلى شؤون أخرى غير التي كانوا يعرفونها سوف تغيّر اعتقادهم تماماً، إذا لم تكن قد غيرته بعد، بشأن الثقة الأدبية بالولايات المتحدة وسلامة نيتها، كما تغيّر اعتقادهم بشأن الثقة الأدبية بسائر الدول الغربية.

الولايات المتحدة هي الدولة التي كان يرجو العالم أن تكون صلة التفاهم السياسي والأدبي بين الشرق والغرب، فخيبت رجاءه بصورة محزنة جداً. والشرق الذي كان يغتبر الولايات المتحدة صديقة له، يرى الآن أنّ هذه الصديقة لا تفرق في شيء عن أخواتها الغربيات الطامعات في التلذذ بالاستعمار والاستعباد. فإذا نفر الشرقيون من الولايات المتحدة بعد ما بدا لهم منها، فالذنب في ذلك ليس ذنبهم بل هو ذنب الولايات المتحدة وحدها. فالشرق كان يريد أن يحب الولايات المتحدة وأن يحتفظ بصداقتها، ولكنها هي التي صرمت حبال المحبة وأبت أن تكون محبوبة ومحترمة من الشرقيين.

الولايات المتحدة هي أول أمة صفعت ولسن في وجهه وهزأت بمبادئه. ومع ذلك فإن صحافتها لم تخجل من نفسها عندما رمت الألمان بكل فرية. لأن السفير الألماني أبى أن ينكس علم بلاده احتراماً لموت ولسن، الذي سبّب تداخله في شؤون أوروبة تعاسة وطنه. وكان الأجدر بتلك الصحافة أن تخص بتقريعها الأميركيين لأنهم هم أول من ضرب بولسن ومبادئه عرض الحائط.
إنّ اعتراف الولايات المتحدة رسمياً بوصاية فرنسة على سورية، وهي الدولة التي أرسلت لجنة فاحصة للوقوف على آراء السوريين في تقرير مصيرهم وعلمت من هذه اللجنة أنّ كل حماية أو وصاية أو انتداب وما شاكل يكون ضد إرادة السوريين وشعورهم الوطني، لم يكن يخطر في بال أحد بعد أن أقلقت الولايات المتحدة راحة الأرض و السماء تبجحاً بنزاهتها ومساعدتها للإنسانية. بيد أنه يمكن السوريون الآن أن يحمدوا الله والظروف لحصولهم على مثل هذا الاختبار المفيد. وسيكون هذا الحادث عبرة لأمم الشرق كلها.

الظاهر أنّ لمعان الدولارات قد أعمى بصيرة الأميركيين حتى أنهم أصبحوا يوافقون على الاعتداء على حرية الأمم بدمٍ بارد وعجرفة متناهية، غير حاسبين أنّ مثل هذا العمل الشائن الذي يأتونه جارحين عواطف أمم كريمة كانت تعتبر الأميركيين وتعتقد فيهم الإخلاص الذي أفلس في الغرب إفلاساً تاماً، هازئين بشعور تلك الأمم صافعينها في وجهها جزاء محبتها لهم، وبين تلك الأمم من قد ضحت بكثير من شبانها وزهرة رجالها في سبيل الذود عن شرفهم وعلمهم أثناء الحرب العالمية الهائلة التي كان المحور الذي تدور عليه الذود عن الحياة لا عن الشرف، عمل معيب يسبب سقوط مرتكبه.

لا أدري ما هي الأعذار التي يبرر بها الأميركيون عملهم الشائن بمصادقتهم على وصاية فرنسة على سورية تجاه أنفسهم. ولكني أدري شيئاً حقيقياً ثابتاً، وهو أنه لا شيء يبرر هذا العمل تجاه العالم. وأعتقد أنّ عملاً كهذا لا مبرر له في الحالات الاضطرارية وغير الاعتيادية، فكيف في الحالات التي لا اضطرار فيها، خصوصاً والعمل المشار إليه ليس له صفة المصادقة فقط بل صفة المشاركة بالاعتداء على حرية سورية وحقوقها أيضاً، لأن الولايات المتحدة قد اتخذت هذه المصادقة وسيلة لجعل رعاياها مساوين لرعايا الدولة المعتدية في الامتيازات التي يطلقون عليها أحياناً «حقوق الامتيازات». وهكذا تكون الولايات المتحدة قد اشتركت فعلاً في الاعتداء على حرية سورية، لأنها قد اشتركت في الاميتازات التي هي نتيجة ذلك الاعتداء.

والآن لننظر في هذه الامتيازات وما هي فائدتها للولايات المتحدة ورعاياها حتى تستحق الاهتمام الذي علقته هي عليها، ورضاها بأن تضع نفسها في صف الدول المعتدية على حرية الأمم وحقوقها، وأن تتحمل عبء مسؤولية الاعتداء أمام العالم المفتح العينين والتاريخ، رغماً مما تعلمه عن وخامة عاقبة مثل هذه المسؤولية التي جربت أن تتحملها دولة هي أعظم من الولايات المتحدة في كل شيء، وهي ألمانية، فجرّتها هذه المسؤولية إلى العاقبة التي يعرفها العالم كله، مع أنّ ألمانية لم تقدم على تحمُّل تلك المسؤولية اتي حنقت لها الأمم كلها بالاعتداء على البلجيك إلا مضطرة بالضرورة الحربية المستعجلة.

مما لا يخفى على الأميركيين فضلاً عن السوريين أنّ عدد رعايا الولايات المتحدة في سورية قليل جداً لا يكاد يؤبه له، وأنّ هذا العدد على قلّته كان قبل مصادقة الولايات المتحدة على انتداب فرنسة لسورية يتمتع بامتيازات كثيرة قائمة على محبة السوريين للأميركيين لاعتقادهم فيهم أنهم أبناء أمة منزهة عن المطامع الأشعبية، بعيدة عن المطامح الاستعمارية، راغبة في العدل بين الأمم والشعوب، لا ترغب في الاعتداءات ولا تميل إلى إحداث الانشقاقات، ولا تعمل على نصرة الظالمين. فأينما وُجد أميركيون في سورية كانوا موضوع احترام الأهالي وإكرامهم اللذين لا ينالهما أجنبي آخر، سواء كان متمتعاً بامتيازات استعمارية أو لا. ولا أكون مبالغاً إذا قلت إنّ بين الوطنيين أنفسهم من كان يحسدهم على المنزلة التي كانت لهم في قلوب الأهلين والإكرام الذي كانوا يلاقونه عندهم أينما كانوا وحيثما وجدوا. وإنّ الفرنسيين أنفسهم الذين يتمتعون بامتيازات استعمارهم، يكادون يذوبون حسداً وقهراً، لأنهم رغم امتيازاتهم الاستعمارية لا يلاقون من الارتياح والانشراح ما يلاقيه الأميركيون الذين لا امتيازات لهم، بل هم يجدون صعوبات كثيرة من جانب الوطنيين. فماذا كان ينقص الأميركيين في ذلك الوقت، وماذا ربحوا من الامتيازات التي طلبتها لهم حكومتهم من فرنسة مقابل مصادقتها على انتدابها لسورية؟

نعتقد أنّ الشيء الوحيد الذي كان ينقص الأميركيين في سورية هو إيجاد أمور تنفّر السوريين منهم وتحملهم على كرههم. فكل ما قام في الماضي من الأمور المقصودة وغير المقصودة لتحويل السوريين عن محبتهم للأميركيين كانت نتيجته الفشل التام. أما الآن فالأميركيون أنفسهم نجحوا، وكان نجاحهم باهراً جداً. ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نهتف مع رصيفتنا مرآة الغرب الشهيرة قائلين «فلتحيى الدولارت الأميركية!» ليس شيئاً صعباً على الأميركيين. إنهم أرادوا أن يكونوا مكروهين من السوريين، إننا نقرّ ونعترف بأنهم نالوا ما ببتغون.

الأميركيون أرادوا أن يكونوا مساوين للفرنسيين في سورية، فليكن لهم ما يريدون. فالسوريون لا يخسرون مقابل ذلك شيئاً، ولكن الأميركيين يخسرون شيئاً هاماً. إنهم يخسرون مركزهم والثقة التي كانت للوطنيين بهم. وغداً إذا لاقى الأميركيون من الوطنيين السوريين إعراضاً ونفوراً جزاء إقدامهم على امتهان كرمة سورية، فقد لا يمنعهم شيء عن أن يتهموا السوريين بالتوحش والهمجية، وأن ينسبوا إليهم كل فرية هم براءٌ منها.

من يمنعهم؟ أضمائرهم وقد ماتت؟ أقلوبهم وقد تحجرت؟ أعواطفهم وقد اضمحلت؟ أأدمغتهم وقد نضبت؟ أإنسانتهم وقد أمحلت؟ أنوابغهم المصلحون والأرض خلاء منهم الآن؟ لا. لا شيء ولا أحد يمنعهم. وغداً يسجل التاريخ أنّ الولايات المتحدة العظمى قد سقطت من عالم الإنسانية الأدبي كما سقطت فرنسة العظمى. ولتكن الولايات المتحدة على ثقة من أنّ الدولارات، مهما كثرت وفاضت، فهي لا يمكنها أن تعمي بصيرة التاريخ.

ليست هذه أول مرة تُقدِم فيها الولايات المتحدة على مس كرامة السوريين وإهانة شعورهم الوطني، بل المرة الأولى كانت عندما صادق مجلسها على وعد بلفور بجعل فلسطين وطناً قومياً لليهود. وقد احتمل السوريون تلك الصدمة غير المنتظرة بصبر جميل، حتى جاءت هذه الصدمة الأخيرة بالموافقة على استعمار فرنسة لسورية، وهو ما كان بعيداً عن تقدير السوريين لنوايا الولايات المتحدة بُعد الأرض عن السماء. ولكن الظاهر أنّ للولايات المتحدة من وراء ذلك غرضاً خاصاً غير الامتيازات التي أتينا على ذكرها، وهو أن تبيّن للعالم أنها دولة مصابة بقحط هائل في رجال السياسة والإصلاح إلى حد أنه لم يكد يوجد في طول بلادها وعرضها رجل واحد قام يندد بهذا العمل العدائي ضد شعب صغير مسالم لم يتأخر عن تقديم الألوف من رجاله فداء شرف الولايات المتحدة والعلم الذي يظللها. ومن هذه الوجهة أيضاً قد بلغت هي ما تبتغيه.

إنّ موافقة الولايات المتحدة على استعمار فرنسة لسورية ظلم مجاني واعتداء على حرية سورية وحقوقها لا مسوّغ لهما على الإطلاق. وعمل كهذا يُعدُّ أقبح أنواع الظلم والاعتداء، وليس من العجب أن يسبب سقوط الدولة التي تأتيه، ولكن العجيب الغريب أن تظل الولايات المتحدة بعد العمل المذكور الذي أقبلت عليه تتبجح بديموقراطيتها وعدلها ونزاهتها، حاسبة أنّ العالم يقنع بمجرد الكلام الفارغ والادعاء البعيد عن الحقيقة. ولكن يمكن الولايات المتحدة أن تثق من أنها ترتكب بحسبانها هذا خطأً فاضحاً، وتبين عن عيٍّ مخجل. فالناس يفهمون جيداً أنّ مساعداتها المالية للأمم ليس عملاً إنسانياً ما زالت تشترك في الاعتداء على حرية تلك الأمم وحقوقها الطبيعية.

يجب على الولايات المتحدة أن تفقه أنها بموافقتها على استعمار سورية قد أساءت إلى هذه إساءة لا يمحوها بذل الدولارات، لأنها إساءة تعمدت الولايات المتحدة إتيانها دون أدنى مسوغ بعد أن صرفت في درسها أشهراً وسنيناً. وكان الأجدر أن تضعها جانباً إذ لا حاجة لها بها، فكانت أبقت على تلك المنزلة السامية التي كانت لها ولرعاياها في قلوب السوريين والشرقيين والعالم. ولكن من أين لنا بمن يجعلها تصغي لصوت الحق ويقنعها بوجوب الإسراع إلى التكفير عن إساءتها؟

في الساعة التي أمضت الولايات المتحدة صك المصادقة على استعمار فرنسة لسورية، مع ما تعلمه بما يحلّ بسورية من ويلات ذلك الاستعمار، أمضى التاريخ حكمه وسقطت الولايات المتحدة سقوطاً أدبياً مخجلاً. وستظل الولايات المتحدة ساقطة إلى يوم يغيّر فيه الأميركيون ما بأنفسهم.

ومهما يكن من الأمر، فإن حادثة هذه المصادقة ستبقى لطخة سوداء في تاريخ الولايات المتحدة، لا يزيلها منه شيء حتى يزول التاريخ نفسه.

أنطون سعاده
المجلة، سان باولو،    
السنة 10، الجزء 4، 1/5/1924

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى