السياسة الخارجية: التفاهم بين فرنسة وألمانية
كان استعفاء وزير خارجية ألمانية ثم استعفاء الوزارة الألمانية كلها، بعد زيارة رئيس الوزارة الفرنسية المسيو لافال ووزير خارجيتها لبرلين، من الحوادث السياسية المهمة التي لا يجب أن تبقى من غير درس وتعليق.
فقد ذكرنا في عدد متقدم أنّ حل الأزمة الاقتصادية العامة يتوقف على حل الأزمة السياسية أولاً. وما زال حبل السياسة مضطرباً فالأزمة الاقتصادية لا تعرف مستقراً. ومعظم الشؤون السياسية التي تؤثر في وضع أوروبة الحالي يتوقف على نوع العلاقات السياسية بين فرنسة وألمانية.
وقفت ألمانية بعد نكبتها في الحرب بين عاملين تنازعا خطتها السياسية طوال السنين اتي تلت الحرب وما زالا يتنازعانها. وهذان العاملان هما: عامل اعتناق الشيوعية والارتباط بروسية البلشفية ارتباطاً نهائياً مكيناً، وعامل البقاء على النظام الرأسمالي محاولة إزالة أسباب العداء مع بقية الدول الأوروبية. ولو كانت ألمانية جزمت باتِّباع العامل الأول في سنة 1920 حين كانت الشيوعية تنمو في ظلال الفوضى والاضطراب بعامل الدعوة البلشفية المنظمة لكانت غيّرت خريطة أوروبة. والحق يدعونا إلى الاعتراف بأن الفضل في إنقاذ النظام الرأسمالي والإبقاء على ديموقراطية أوروبة يعود إلى ألمانية التي لم تحاول انتهاز قيام روسية الحمراء بحملتها الحربية على بولونية، من السنة المشار إليها للقيام بحملة أخذ الثأر التي كانت ينتظرها قسم كبير من الألمان بفارغ الصبر.
أخيراً ظهر شتريزمن الذي سار بأمته على خطة إزالة سوء التفاهم بينها وبين الحلفاء. ومع أنّ سياسته قوبلت بانتقاد شديد من أندية سياسية خطيرة الشأن في وطنه، فقد نجح في تنفيذ قسم كبير من خطته واستعاد لبلاده الشيء الكثير مما كانت قد خسرته. ظل شتريزمن يعمل ليل نهار في سبيل خطته غير مكترث بنصائح أطبائه القلقين على صحته إلى أن سقط صريعاً وهو على قنة النجاح.
تغيَّرت العلاقات السياسية بين ألمانية وفرنسة بعد قيام شتريزمن بسياسته المذكورة تغيّراً محسوساً. ولم يقتصر هذا التغيُّر على الوقوف عند حد إزالة التضارب في السياسة بل تناول فكرة التقريب بين البلادين والاقتراب بهما من خطة تعاون لا راحة لأوروبة بدونها.
وقد قابلت فرنسة سياسة شتريزمن بموقف ودي اتخذه السياسي الفرنسي الكبير بريان، وقد أدرك أنّ القضاء على ألمانية قضاء مبرماً ليس في مصلحة فرنسة نفسها.
مع كل ذلك لا بدّ لنا من الاعتراف بأن نتيجة سياسة شتريزمن وبريان ليست النتيجة الأخيرة المطلوبة لإقرار الحال على أساس مكين، والسير بأوروبة نحو عهد جديد من السلام والتقدم العمراني، فإن مسائل كثيرة مهمة لم تشأ فرنسة التنازل عنها، ومسائل أخرى تشبثت بها ألمانية تشبث الغريق بخشبة طافية. فمن المسائل الأولى مسألة التعويضات ومسألة إبقاء القيود الحربية والاقتصادية على ألمانية، ومن المسائل الثانية مسألة تصحيح مسؤولية الحرب ومسألة تنقيح معاهدة فرساي على شكل يعيد إلى ألمانية مركزها الحر.
خلف شتريزمن في منصبه الخطير السيد كورتيوس، الذي كان يجاريه في سياسته وكان عوناً له في بعض المؤتمرات الخطيرة، ولكن العلاقات بين ألمانية وفرنسة لم تتقدم عن الحد الذي بلغته في زمن شتريزمن حتى رأت ألمانية نفسها مضطرة إلى القيام بمناورة سياسية خطيرة بالاعتماد على علاقاتها الحسنة مع روسية، كان من ورائها إعلان توصلها إلى الاتفاق مع النمسة على الوحدة الجمركية بين البلادين. ومع أنّ مشروع الوحدة قد انتهى بالفشل فهو لم يفشل في تنبيه أوروبة إلى وجوب اتخاذ أساليب جديدة لحل الأزمة السياسية التي طال أمدها.
ولقد تضاعفت في هذه الأثناء الأزمة الاقتصادية، واستندت على الشعب الألماني استناداً لم يبقَ بينه وبين الانفجار سوى حادث اتفاقي بسيط. فقد قام هتلر وأنصاره بجهاد عظيم قصدوا فيه وضع حد لتفاهم عقيم مع فرنسة وكاد يتم لهم الأمر.
ولما زار الوزيران الفرنسيان عاصمة ألمانية قام الوطنيون الألمان بمظاهرات خطيرة لا بدّ أن تكون أبقت في قلبيهما أمراً. وبعد أن غادرا برلين تحرجت الحال في ألمانية تحرجاً شديداً، الأمر الذي دعا كرتيوس إلى الاستقالة واستقالة الوزارة وتأليف وزارة جديدة برئاسة بروننغ، الرئيس السابق، الذي تولى وزارة الخارجية أيضاً في وزارته الجديدة.
وما زال بروننغ قائماً بأعباء الحكومة في ألمانية، فالمجال لمتابعة سياسة التفاهم بين فرنسة وألمانية متسع، لأن بروننغ نفسه كان روح السياسة الخارجية التي كان يقوم كورتيوس بتنفيذها في المدة الأخيرة. أما إذا قبض الهتلريون على زمام الأمر فلا بدّ من حدوث انقلاب سياسي خطير لا يمكن التكهن بنتائجه الآن.
أنطون سعاده
اليوم، دمشق
العدد 58/6، 19/10/1931