المستقبل المنشود 2/2
رئيس النّدوة الثّقافيّة الأمين إدمون ملحم
الإصلاح الفعليّ
نحن لا نطلب الإصلاح من الخارج، من الغرب الاستعماريّ الكاذب والفاقد وجدانه الإنسانيّ ومن أميركانية بالتّحديد الّتي تتبجّح بالدّفاع عن حقوق الإنسان والحريّات ولكنّها تدعم دولة الاغتصاب الصّهيونيّ العنصريّ وأنظمة الإستبداد والدّيكتاتوريّة والرّجعيّة والفساد التّابعة لها وتحارب القوى النّهضويّة والأنظمة الوطنيّة الرّافضة لهيمنتها والدّاعمة للمقاومة ضدّ الإحتلال الصّهيونيّ وتنشر الفوضى الهدّامة وجراثيم التّخريب في العالم وتفتعل الفتن والحروب وترعى الإرهاب تحقيقاً لمصالحها الإستعماريّة وطمعاً بالهيمنة على العالم والسّيطرة على موارد الأمم.
ونحن لا ننتظر أن يهبط الإصلاح علينا من السّماء أو من عالم الغيب أو أن يأتي بواسطة الدّكاكين السّياسيّة والعائليّة وحرّاس هذا النّظام المتخلّف: مجموعة الذّئاب الطّائفيّة والاقطاعيّة المرتهنة للإرادات الخارجيّة والّتي تأكل حقوق النّاس والضّعفاء ولا تكِفّ عن استغلال الشّعب بطرق التّجهيل والتّخويف والتّجويع وبسياسات الإذلال والتّسلّط وقمع الحريّات.
ونحن لا نرى الإصلاح حاصلاً بالأحلام والتّمنيّات وبتغيير المجالس والحكومات ولا نراه متحقّقاً بالجعجعة والبهورات السّخيفة وبرفع الشّعارات الزّائفة وتحريك العصبيّات المذهبيّة ولا بإعتماد الحلول الارتجاليّة التّرقيعيّة والقوانين الطّائفيّة وغيرها من المسكّنات، بل نراه نابعاً من ذواتنا بالعقل والإيمان، بالإدراك والإبداع، بالإرادة الفاعلة والبطولة المؤمنة بالتّخطيط البديع والرّؤيا الواضحة، وببناء النّفوس بناءً جديداً في المعرفة الفاضلة والعقيدة الصّالحة والمناقب الجّديدة الّتي تزرع الفضائل النّبيلة وتؤسّس حياة جديدة للأمّة فيها الخير والبحبوحة والمحبّة والمثل العليا والجمال.
إنّ الإصلاحَ الفعليّ لا يكون بالتّآويل البغيضة وتحريك العصبيّات المذهبيّة والدّفاع عن حقوق هذه الطّائفة أو تلك بل يكون بتوليد الرّوح الوطنيّة واعتماد القوانين العصريّة والتّشريعات المدنيّة وتأمين حقوق الشّعب بكل فئاته وشرائحه الاجتماعيّة وخاصّة الفقراء والمحرومين والمسحوقين بالظّلم والجّوع والبطالة والحرمان. وهذا الإصلاحُ يحتاجُ إلى إرادة الوطنيّين والقوميّين وكلّ التيّارات والتّنظيمات والأحزاب العلمانيّة وكل قوى المجتمع الحيّة التوّاقة إلى الأفضل لتتعاون معاً من أجل تعميم ثقافة الحوار الدّيمقراطيّ وبلورة مشروع جدّي وشامل للتّغيير والإصلاح يساهم بتفكيك النّظام الطّائفيّ الفاسد ويهيّء الأسباب والظّروف الكافية لقيام الدّولة الدّيمقراطيّة العصريّة.
وهذه الظّروف لا تتهيّأ من دون استنهاض المجتمع وبعث فضائله وقيمه الوطنيّة والجماليّة ومن دون مواجهة المفاسد والمثالب الأخلاقيّةِ والثّقافات الإنهزاميّة الزّائفة والمدمّرة لحياتنا والّتي تنخر في جسد الأمّة وتزيّفُ حقيقةَ نفسيّتهاِ الأصليّةِ وتُفسِدُ عقول الأفراد والشّبابَ وتُغرِّرُ بِهِم فيندفعونَ إلى حضيضِ المُثُل السّفلى في خدمةِ القضايا الخسيسةِ والتّشكيلاتِ الطّائفيّة.
إنّ إصلاح المجتمع الجدّي يستوجب منّا أن نستثمر في التّربية القوميّة الصّحيحة بواسطة المؤسّسات الجّديدة النّابضة بالحياة وأن نباشر بإعداد أجيال واعية متسلّحة بالعلم والأخلاق والوجدان. أجيال تدرك معنى الحريّة والكرامة والإستقلال فلا تتأثّر بالثّقافات الغربيّة والظّلاميّة الممنهجة ضدّ أمّتنا بل ترتبط بهموم مجتمعنا وبحاجاتِهِ ومصالِحِه وتعمل بناءً وإنتاجاً وإبداعاً لخير الأمّة وتقدّمها.
الإصلاح الحقيقيّ لا يتحقّق وفق المصالح الإنتخابيّة لهذا الزّعيم أو ذاك ولا يتحقّق بمراعاة الأوزان الطّائفيّة والمذهبيّة والقوى الإقطاعيّة والعشائريّة والعائلات النّافذة الّتي تكبّل مفهوم الدّولة وتقتات من حضورها، بل يتحقّق أوّلاً، بفصل الدّين عن الدّولة ومنع رجال الدّين من التّدخّل في شؤون السّياسة والقضاء القوميّين، ويتحقّق، ثانياً، بالإعتماد على فكرة الشّعب ووحدة المجتمع والإنتماء إليه وعلى فكرة المواطنة والمساواة بين جميع المواطنين دون تمييز.
إنّ الإصلاح يعني الإصلاح فكراً وعملاً وقيادة واعية ومؤهّلة تحوز على ثقة الشّعب وتأييده ولا يكون إصلاحاً حقيقيّاّ إلّا باعتماده على الوضوح والأخلاق والتّنوير ونشر قيم الحداثة والعقلانيّة والثّقافة الهادية والمبادىء النّهضويّة الصّالحة الّتي ُتقدّمُ الأُسسَ الواضحةَ لقيام الأمّة من قبر التّاريخ ولبناءِ دولتها الدّيمقراطيّةِ العصريّة الّتي تهتم بمصالح الشّعب وحاجاته وبأهدافه السّامية في الحياة.
وباختصار، نقول أنّ الإصلاح الحقيقيّ هو عمل نهضويّ شاملٌ وواضحٌ يعتمد على التّخطيط السّليم وقوّة الإبداع والعقل الواعي والفاعل وغايته إصلاحُ العلّةِ في أهلِها وإيصالُ الشّعبِ إلى خيرِه وتمكينه من تحقيق تطلّعاته ومثله العليا. وهذا الإصلاح لا يمكن أن يتحقّق على أيدي الإنتهازيّين والنّفعيّين والفاسدين المراوغين. فإصلاح هؤلاء هو إصلاح شكليّ وترقيعيّ عقيم، وإصلاح وصوليّ تدجيليٌّ قائم على النّفاق والخداع والمنفعة لأنّ غايتُه إبقاءُ القديمٍ على قِدَمِه. أمّا الإصلاح الحقيقيّ فلا يحقّقه إلّا المصلحون الأخلاقيّيون، المصارعون، الّذين آمنوا بمناقب جديدة كفيلة بإنقاذ المجتمع من فساده وانحطاطه. فهؤلاْ هم الصّالحون الصّادقون الّذين آمنوا بالشّعب وراحوا يناضلون ويواجهون الظّلم والطّغيان والاحتلالات ويتعرّضون للإعتقالات والسّجون وللخطف والاغتيالات ويتسابقون للشّهادة من أجل الدّفاع عن هذا الشّعب وكرامته القوميّة ومن أجل تحقيق الغايات السّامية وإقامة الدّولة الدّيمقراطيّة الحديثة الّتي توفِّرُ الخيـر والعزّ والازدهار لجـميع أبنائها.
الدّيمقراطيّة الحقّة ستبقى حلماً بعيد المنال إذا تقاعسنا عن واجباتنا وتخلّينا عن مسؤوليّاتنا. الواجب يدعونا لأن نتعاون معاً لنرفع مداميك هذا الوطن الجميل ونبني قصور الحبّ والأمل والجمال والإبداع بإيماننا وعزيمتنا، بصدق إلتزامنا ومحبّتنا القوميّة لشعبنا، بنفوسنا الجميلة المتفوّقة والقادرة على التّغلّب على كلّ ما يعترض طريقها إلى الفلاح. فتعالوا لنحوّل وطننا إلى نعيمٍ بالتّعاون والعمل والإنتاج، بالمناقب والأخلاق، بالبذل والتّضحية والعطاء وبالبطولة المؤمنة ووقفات العزّ وبالمقاومين الأحرار الّذين يتصدّون للعدوّ المحتلّ وللإرهابيّين المجرمين ويروون بدمائهم الزّكيّة أرضنا الطيّبة لتنبت شقائق حريّة وخير وحقّ وجمال.