المقالات الأدبية أدب الكتب وأدب الحياة
مما لا شك فيه أنّ أهم صفة لازمت حياتنا الأدبية، في العقد الأخير، ولا تزال تلازمنا في معظم ما نكتب أو نقول، هي صفة الجدة الأدبية والنزاع بين الحديث والقديم. وقد أصبحت هذه الصفة «لازمة» لا بدّ من العودة إليها في كل موضوع أدبي، وهي ظاهرة من ظواهر هذا الصراع الصامت المحتدم» الذي يشير إليه صاحب المجلة في العدد السابق. ومع علمي أنّ الكتّاب السوريين والمصريين قد قتلوا الموضوع درساً وتحليلاً في عمومياته، فقد رأيت أن أخص هذا المقال بناحية مستقلة من نواحي أدبنا، هي ناحية الإنتاج الأدبي ومجرى الفكر فيها.
في مكاتب بيروت ودمشق طائفة غير قليلة من الدواوين الشعرية لعدد من «فحول» الشعرء، أو المرشحين «للفحولة». والصفة الغالبة في قصائد هؤلاء الشعراء هي صفة النسج على منوال فحول الشعراء السالفين، أي صفة التقليد في نسج بردة القصيدة واستهلالها وختامها، حتى تأتي شديدة الشبه بقصائد الأولين، مضارعة لها في المتانة وحسن السبك وجزالة الألفاظ وجمال الغزل ولطافة النسيب، وتكاد تكون في أكثر الأحايين «فكسميله» أو نسخة طبق الأصل عنها، لولا بعض الأغراض الهزيلة أو الجليلة التي تشغل أبيات القصيدة القريبة العهد وليس لها ذكر في القصائد القديمة. وقليلاً ما أبدل شعراؤنا الماضون والحاضرون المنوال القديم وقليلاً ما غيّروا طريقة النسج ومادته، ذلك أنهم خرجوا إلى الحياة شعراء مولعين بالصورة الشعرية الأولى التي انطبعت على أدمغتهم، وهي صورة نوع واحد من الشعر في نوع واحد من الكتب الشعرية. والصورة المذكورة كثيراً ما تمثل الشعور الجامح (الحماسة والفخر)، والإحساس المنفعل تحت تأثير عامل قوي (الغزل والتشبيب)، وقلّما تمثل العاطفة الصحيحة النامية نحو طلب مثال أعلى في الجمال الجسدي والنفسي والطبيعي، وندر أن ترينا الفكر الهادىء المتأمل في الحياة وحوادثها. لذلك فهي أقرب إلى التعبير عن الغريزة العضوية والطبع الحيواني منها إلى ترجمة النفسية الإنسانية، خصوصاً لأن اختبارات هؤلاء الشعراء في الحياة لم تكن من النوع الذي يزيد فيهم الثروة النفسية، وما أذهب بعيداً إذا قلت إنهم خالون من مطلب أعلى يجذبهم إليه وليس في حياتهم اختبارات تهذب نفسيتهم إلا نادراً جداً.
أكاد أكون موقناً أنّ تسعة وتسعين من مائة ممن مالوا إلى قرض الشعر لم يكن لهم دافع إلى النظم سوى أحد أمرين: إما الرغبة في محاكاة الشعراء الذين درسوهم في المدرسة، وإما حب الظهور بمظهر الشعراء. ومن البديهي أنّ أحد هذين الأمرين لا يمكن أن يكون مصدراً لشاعرية عالية مملوءة حياة. وبالاستناد إلى هذه الحقيقة أجرؤ على القول: إنّ معظم الشعر الموجود بين أيدينا خالٍ من الحياة.
وما يقال في الشعر والشعراء من هذا القبيل يقال أيضاً في الإنشاء الأدبي والمنشئين. فقليلون هم الكتّاب الذين استطاعوا أن يتحفونا بما يستحق أن يعيش أكثر من عقد واحد من السنين. وأعتقد أني لو اقترحت على القرّاء والمهتمين بالأدب أن يسمّوا لنا الكتب الأدبية التي يجب أن لا تخلو منها مكتبة سوري، لوجد المقترح عليهم صعوبة كبيرة في تعيينها. ولماذا أذهب بعيداً وأطلب الأدب الخالد؟ فيكفي الإنسان الراقي ما يعانيه في البحث عن كتب يشعر أنها من الحياة وأنّ لها مساساً بحياته: بعواطفه وأفكاره وأمياله وآماله.
إنّ نقص الحياة والأساس الحياتي في أدبنا لأمر رائع ونتيجة مؤسفة جداً لأنها تضرب بيننا وبين المثل العليا حجاباً كثيفاً، ولا تمدُّنا إلا بما ابتذل من الألفاظ وهزل من المعاني وأقفر من المبادىء. وإذا كانت الأسباب المباشرة لهذا الفقر المدقع في الأدب ما ذكرت في الكلام على الشعراء من إسراعهم إلى قرض الشعر لما يجدونه من السهولة في اقتباس المعاني المحدودة عن الشعر القديم الذي بين أيديهم، وإقبال الشبان على الكتابة الإنشائية البحتة وليس لهم من العدة سوى المنطق اللغوي. وإذا كان كثيرون من الذين حاولوا وضع الروايات والقصص لم يرموا إلى غرض غير الشهرة الشخصية ولم يتناولوا من الأفكار إلا ما هو عادي، فما توفقوا إلى اكتشاف شيء جديد في الشؤون النفسية، فالأسباب الكامنة وراء عقلية الشعراء والكتّاب هي الحياة التي يحيونها في محيطهم وبيئتهم وهي جزء من حياة المحيط كله. فإذا درسنا الحياة الحبية في محيطنا، وهي أهم عوامل الشعر، وجدنا أنها لم ترتفع إلى الدرجة التي تنهض بالنفس إلى المطالب العليا الباعثة على الإقدام والشجاعة والكرامة وتنقية النفس من الشوائب وعقد العزيمة على منهاج معيّن. فإن تقاليدنا المتوارثة كانت تمنع الاتصال النفسي والحب الحقيقي القائم على الانتخاب الطبيعي والنفسي ولا تجيز إلا الحب الجسدي، فكان يكفي الطالب أن يقال له إنّ الفتاة التي انتخبوها له جميلة الملامح صفة صدرها كذا وخصرها كذا وعيناها كذا إلى آخر ما هنالك من أوصاف تعمل في شهوته أو أن يراها في زيارة أو زيارتين ليتحقق من أنّ جمالها الجسدي يوافق رغباته الجنسية. أما الفتاة فقليلاً ما كان يؤبه لرغباتها هي وإرادتها. وعلى هذا الأساس قام الارتباط العائلي عندنا وهو لا يزال المعوّل عليه في معظم مجموعنا إلى هذه الساعة.
ومن هذا النوع من الحياة الحبية الجامدة استمد شعراؤنا وكتّابنا الروح الشعرية أو الروائية التي أظهروها لنا في غزلهم وتشبيبهم وفي شباك رواياتهم القليلة، فلم تكن روحاً ساذجة فطرية تميل إليها لصفائها وخلوصها، ولم تكن روحاً عميقة القرار غنية بالعوامل النفسية والتصورات العقلية تشعر بجمالها وجلالها.
والذين اتصلوا باللغات الأجنبية من شعرائنا وكتّابنا أدركوا الفرق بين دقة مواضيع أدباء الغرب وبساطة مواضيع من تقدمهم من أدبائنا، وشغفوا بالأدب الغربي شغفاً حملهم على محاكاته وإعطائنا الكثير من صوره ومعانيه كما صدرت عن واضعيها، وقبل أن تصبح أصيلة فيهم، فجاءت شيئاً جديداً غريباً لا يمكن عامتنا، ولا القسم الأعظم من خاصتنا، فهمه وتقديره وتذوّق حلاوته، لأن الحياة الصادر عنها هي حياة جديدة غريبة لهم، بل إنها غريبة للشعراء والكتّاب أنفسهم. وهؤلاء يؤلفون نوع الأدباء الذين جاؤونا بشيء جديد لا هم فقهوه ولا نحن فقهناه.
أضف إلى ذلك أنّ الفريق الأكبر من أدبائنا ينفق شبابه في أدوار غرامية لا تختلف كثيراً عن أدوار عامة الشباب في بلادنا. ولا يمكنّي أن أضع هذه الأدوار في جملة العوامل التي توجه القوة الفكرية والعاطفة النفسية نحو مثال أعلى تنعكس صورته على صفحات الكتب الأدبية. ولذلك نرى الصور الوحشية غالبة في شعر ونثر الذين لم يتصلوا بالأدب الغربي المستمد من نوع آخر من الحياة. فالقدود والخدود والنهود تؤلف العامل الأقوى في شعور الشاعر ومخيلة الروائي، ومصطحباتها هي عادة من النوع المبتذل، كبروز الشهوة القوية الطالبة بلوغ إربها الحيواني بأسرع ما يمكن، فإذا لم تتمكن من بلوغه ابتدأت تتذمر وتتململ وتئن وتشكو، ولا يندر أن تسترسل في البكاء والعويل. وهذه الظاهرة النفسية تمثّل العامل الأساسي في أكثر دواويننا الشعرية وكتبنا الأدبية المستمدة من الأدب العربي المرتكز على الأدب الجاهلي. وهي أقرب ظواهر النفسية الإنسانية إلى ظواهر النفسية الحيوانية، فإذا أنت وضعت أمام كلب أو قطة أو قرد جاذباً يوقظ رغبته، وجعلت بينه وبين ذلك الجاذب حاجزاً من أسلاك مشبكة، فأول ما يبدو من الحيوان حينئذٍ هو أنه يهجم لفوره على الجاذب حتى إذا صدّه الحاجز في محاولاته أخذ يتحرق ويعول بشدة. وهذه هي النفسية التي يمثّلها لنا كثير من شعرائنا وكتّابنا في منظوماتهم ومنثوراتهم، فإنهم يرون جاذباً قوياً: امرأة جميلة. فيطلبون الوصال فتصدّهم العادات الاجتماعية أو المرأة نفسها، فيتلهفون ويتحرقون و«يذوبون صبابة» وينادون ويسترحمون ويبكون ويعولون. والقلائل الذين بحثوا في منظوماتهم ومنثوراتهم عن «نفس المرأة» ورغبات قلبها، وعن الآمال والأميال التي تربط عواطفها الحبية بعواطف الرجل، هم من الذين توسعوا في الأدب الغربي واختبروا الحياة بعقول وقلوب متجددة.
إنّ الأديب الكبير الذي خَبِرَ أنواعاً من الحياة أرقى من النوع أو الأنواع المعروفة عندنا، وتمكن من إيجاد أدب جديد لحياة جديدة، وأنشأ مدرسة أعطت نتائج غنية بالجمال النفسي، وأثّرت على البيئة التي خرج منها، وامتد تأثيره إلى جميع الأمم التي يحيط بها نطاق اللغة العربية، إنّ هذا الأديب الكبير هو جبران خليل جبران الذي، على ما في مناحي أدبه من نقط ضعف، تمكن من أن يهز قلوب مواطنيه بألفاظ موسيقية ومعانٍ أشربتها النفوس. ولقد أعطت الأمة السورية أدب اللغة العربية غير منشىء المدرسة الجبرانية. أعطته عدداً غير يسير من الشعراء والأدباء النازلين، أو الذين نزلوا سابقاً بين الأمم الغربية. ولولا ما نراه من نمو أدبنا في الوقت الحاضر نمواً يثبت حياته لما كنت وجدت من المستحسن أن أعرض لهذا الموضوع الخطير الآن.
الذي أريد أن أقوله، في ختام هذه العجالة، هو أنّ أصول الأدب يجب أن تكون في الحياة لتتمكن من إعطاء ثمار تغذي الأحياء. فالأدباء الذين طالعوا كثيراً في الأدب، ولكنهم لم يختبروا شؤون النفس الإنسانية وأنواع الحياة الراقية، لا يمكنهم أن يوقّعوا أنغاماً جديدة تسترعي أسماعنا وتملك قلوبنا، بل هم يندفعون في تكرار اللحن الوحيد القديم. ومهما كان ذلك اللحن جميلاً فهو لتكراره، قد أصبح وقراً في الأسماع. وكل أدب لا يعرف الحياة لا يحيا.
»مفكر حر«
أنطون سعاده
المجلة، بيروت،
المجلد 8، العدد 2،1/4/1933