رأس السّنة السّوريّة “آكيتو”
بين تمّوز سعاده وعشتار سورية مَدرحيًّا

ناريمان منصور

اِمتازت أرض سورية الطّبيعيّة الحمّالة لشيفرة الأسطورة بتكوينها الضّارب في عمق التّاريخ، والّتي انتقلت في مدى جغرافيّتها لتصل إلى أماكن أخرى مختلفة، ولا رَيب في أنّ هذا ناتج بديهيّ لمفرزات التّلاقح الحضاريّ الّذي وَصَلَنا مِنه وعَنه ما وصل من خلال حفريّات واكتشافات أسّست لأبحاث ودراسات تناولت ما تمّ التّعارف عليه “ميثيولوجيا”، وتحديدًا “ميثيولوجيا التّكوين”. ولعلّ أكثر ما نحتفي به، حضورًا، هو الـ”آكيتو”، أي رأس السّنة السّوريّة.

تناهى إلى العلم أنّ طقس الاحتفال برأس السّنة السّوريّة “آكيتو” يعود إلى ما يزيد عن الـ3000 سنة قبل الميلاد، حسب التّقويم السّوريّ القديم، ويكون في أواخر شهر آذار وأوائل شهر نيسان في مَطلِع الرّبيع، حيث تَجدُّد الطّبيعة وكثرة المياه وازدهار الحقول وتوالد المواشي، وهو تشخيصًا احتفالٌ بعيد الرّبيع، ما يعني بداية الحياة / الخصب، التّزاوج، الذيّ يأخذنا، بدلالته الرّمزيّة، إلى إسقاط حالة “الزواج” هذه على علاقة السماء – الأرض / الأنثى – الذكر / الروح – المادة، وهذا ما تُحيلنا إليه شعائر الاحتفال بهذا الطّقس، الّتي تأخذ شكل “الانبعاث” بعد الموت، أو ما يقدّمه طقس “الجنس المقدّس” كدلالة لإرادة خلق الحياة.

من المعلوم أنّ الأكاديّين، البابليّين، السّومريّين، الآشوريّين، الكلدانيّين والكنعانيّين والحثّيّين هم أوّل من احتفل بالـ”آكيتو”، حيث يرد أنّ “هذا العيد، عيد رأس السّنة، اسمه بالسّومريّة “آكيتو” الّذي يعني “رغد العيش”، والاسم دخل إلى العربيّة كما هو واضح في صيغة (قوت / قات / يقتات) ويعني الغذاء أو الأكل، ويأتي عند البابليّين في صيغة / أسننو/ الّذي دخل إلى العربيّة في صيغة (سنة / سنين)”.

وإذ تُعتبر سيّدة هذا العيد هي “عشتار”، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّه كان لها ظهورات متنوّعة، بتنوّع الحضارات والثّقافات، كذلك تمّوز الّذي ينبعث من جديد فيكون موسم الخير والخصب والرّبيع والأفراح، موسم تجدّد الحياة بعد الموت. غير أنّ هذا الانبعاث لا يكون إلّا بتدخّل من “ربّة الخصب” عينِها، ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ تسمية عشتار وتمّوز تنوّعت وفق كلّ حضارة، ورغم هذا فإنّ القاسم المشترك بينها كلّها صارخ في دلالاته.

إنّ الحالة العِشقيّة الّتي كرّستها الربّة عشتار – عشتروت – عشتارت – إنّانا – عنات – أفروديت – فينوس – إيزيس بعلاقتها مع تمّوز – ديموزي – أدونيس– أدوني – بعل – أوزوريس، وأيضًا ما كرّسه تمّوز نفسه، بقيامته المتلازمة مع هبوط عشتار إليه، تأخذنا إلى تناول القيمة المَدرحيّة في جوهر الاحتفال برأس السّنة السّوريّة، والّتي تتمثّل بعلاقة السّماء بالأرض وصولًا إلى الإخصاب، فثنائيّة التّكوين تفيض في ما نتداوله هنا على شكل مادّة – روح / تراب – ماء / أرض – سماء / ذكر – أنثى.

جاءنا أنطون سعاده بالفلسفة المَدرحيّة، وإذ هي، المَدرحيّة، لغويًّا، نحتٌ من “المادّة” و”الرّوح”، والرّوح هنا، جوهرًا، تُدلّل على النّفس الإنسانيّة بكلّ ما يتمظهر عنها من عقل ومشاعر ومواهب، فإنّ مَدرحيّة سعاده تفسّر الوجود الإنسانيّ على أنّه ماديّ روحيّ في آن، قائم على علاقة تفاعل / ديالكتيك بين مادّة الأرض، المادّة الموجودة في الأرض، والكون المحيط بها، الرّوح. ولا تأخذ علاقة التّفاعل الدّيالكتيكيّة هذه منحى سلبيًّا، فهي في كونها علاقة تفاعليّة، لا بدّ لها من انبثاقات إيجابيّة تُعطيها تكوينها النّهائيّ الّذي قد يأخذ أشكالًا على هيئة الخلق، الإبداع، الخصب بتجلّياته، وصولًا إلى جوهر الوجود المتمثّل صيرورةً في الإنسان الهدف الأسمى، ولا يمكن أن تتحقّق هذه المعادلة “الوجوديّة” في أيّ تماثل انعزاليّ، ما يأخذنا بديهيًّا إلى معادلة الإنسان المجتمع، وبالتّالي إسقاطًا، إلى إدراك جوهر رمزيّة عيد الرّبيع / التّجدّد بتفاعليّتها وفق ما أطلعتنا عليه الاكتشافات والبحوث الّتي تناولت مسألة الاحتفال بعيد الـ”آكيتو” رأس السّنة السّوريّة.

إنّ الاحتفالات عينُها عكست الحالة الاجتماعيّة، أو العلاقات الاجتماعيّة الّتي حَكَمَتْها الحالة المادّيّة الرّوحيّة الاحتفاليّة بتفاصيلها وجزئيّاتها، وإذ هي بفحواها تَمَثُّل قيامة / يقظة الإله تمّوز، أدونيس إن شئنا، فإنّما تُدلّل على يقظة وعي تجاه الحياة بمُجمَلِها. إنّ هذه اليقظة يمكن التّبشير بها والبرهان عليها من خلال تفاعل الإنسان مع بيئته، بكلّ ما تحتويه من معطيات مادّية، فيعطيها من نفسه / روحه.

يمكن لكلّ متتبّع لمسيرة أنطون سعاده السّوريّ، منذ ولادته في شهر آذار وحتّى استشهاده في شهر تمّوز، أن يقوده بحثه في ماهيّة الاحتفال الطّقسيّ الـ”آكيتو” وتتبّعه في آن معًا لدورة حياة سعاده، أن يجد ما هو عصيّ على الإنكار لجهة التّماثل في هذه الماهيّة. إنّه لمن المعروف عن السّوريّين القوميّين الاجتماعيّين إحياءهم لذكرى ولادة معلّمهم أنطون سعاده في آذار بالاحتفالات والنّيران وحفلات العشاء والحلويّات وغيرها، حتّى أنّه قد أُطلقت عليه تسمية “فتى الرّبيع”، كذلك حزنهم وتجسّدهم لآلام استشهاده في تمّوز! لتأخذ هذه المناسبات طقوسيّتها في دورة لا تختلف بشيء عن الحالة “التّمّوزيّة” والانبعاث بعد الموت في ريعان الشّباب.

هذا نفسه، يتطلّب البحث في رسالة سعاده الّتي تركها في الوجود، وتمثّله سيرورة بذل الحياة من أجل الحياة في تناهٍ مدرحيّ أيضًا لا يمكن إغفاله من حيث علاقته مع سورية الأمّة.

لقد كان الاحتفال بعيد “آكيتو” ينقسم إلى قسمين؛ الأوّل نهارًا، وهو محض طقس احتفاليّ تُقام فيه صلوات، وكان يطلق عليه اسم “نباتو” بالبابليّة (الكلمة بقيت نبات)، والثّاني ليلًا ويُطلق عليه بالبابليّة اسم “عسيسو” (الكلمة بقيت “عسس” وتعني الحارس اللّيليّ). وكان الملك يشارك بنفسه في طقوس هذا الاحتفال، بمشاركة الكاهنة العظمى وفي هيكل خاصّ بالسّيّدة عشتار أو إنّانا، وكانت تُعقد حلقات الرّقص والغناء ابتهاجًا بعودة الرّبيع وقيامة إله الخصب من الموت، وتُحضّر مآدب من أشهى الأطعمة والخمور، فيتشارك الجميع في المأكل والمشرب والفرح. ويقوم الملك في الهيكل بكسر رغيف الخبز (جسد الأرض والسّماء / المادّة) ويوزّعه على الحاضرين حوله، ثمّ يقدّم لهم كأس النّبيذ (دم الأرض والسّماء / الرّوح) ليشربوا. لقد فعل هذا المسيح السّوريّ، وحسب تقليد جدّه الملك الكنعانيّ السّوريّ “ملكي صادق”، كاهن أو نبيّ اللّه، ملك الأرض والسّماء في الأصل الكنعانيّ: كهن / عليون/ أرص- وشمم / الّذي بارك بالخبز والنّبيذ، وليس بالذّبائح، قبل المسيح.

لقد كان معمولًا بهذا الطّقس في كلّ أرجاء الهلال الخصيب، بمجموعاته المُغرقة في القِدم، والّتي شكّلت عبر التّاريخ الحياة والثّقافة الواحدة، والّتي لا يُشكّ في كونها أمّ العالم والتّاريخ، لكأنّما السّيّدة “عنات”، في كينونتها، كما تسمّيها النّصوص الأوغاريتيّة بالكنعانيّة “رحم” وكذلك “رحمة” العالم، فهي كانت دائمًا سيّدة “ينابيع المعرفة” و”ينابيع الحب”، وهو لقب عُرفت به مريم العذراء، “سيّدة المياه.”

لقد شكّلت هذه “المعرفة” محمولًا وجدانيًّا تبنّته الإنسانيّة في كلّ أنحاء العالم، حتّى أنّنا نرى الآثار العالميّة، الأدبيّة منها والفنّيّة، قد تناولت هذا الموروث بِصِيَغه المتنوّعة، وكما ذكرنا سابقًا بقواسم مشتركة واضحة، بل إنّنا نرى أشخاصًا من الجنسَين يتبنّون بشخصهم تسمية أدونيس أو تموز / عشتار أو إنّانا، وهذا التّمثّل ليس إلّا نتاجًا عن حالة نفسيّة روحانيّة متفاعلة مع مادّتها، بين المُستقبِل والمُنتِج، حتّى وإن كانت رمزًا يأتينا على صيغة إسقاط.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى