رأي سورية الجديدة المؤامرة العراقية ــ التركية
في الرابع والعشرين من يونيو/حزيران الماضي وصل إلى أنقرة وزير خارجية العراق، نوري السعيد، يصحبه وزير العدل العراقي. والبرقيات التي أعلنت هذا الحادث السياسي ذكرت أنّ الغرض من هذه الزيارة هو درس الوضعية الجديدة بعد إلقاء فرنسة سلاحها وعقد الهدنة مع ألمانية وإيطالية. ثم عادت البرقيات فأوضحت أنّ أهم مسألة تبحثها العراق وتركية هي مسألة سورية وتقرير مصيرها، بالاتفاق بين الدولتين المذكورتين.
تذكرنا زيارة وزير خارجية العراق لأنقرة في هذه الظروف، بزيارة وزير خارجية مصر لأنقرة، بمناسبة توقيع الاتفاق بين فرنسة وتركية وتسليم لواء الإسكندرونة إلى هذه الدولة الأخيرة، وتبادله الأنخاب مع وزير خارجية تركية على حساب أنه «لا يفصل بين تركية ومصر غير فلسطين»، التي قامت حركة في مصر تطلب إلحاقها بها لكي تصير «مصر فلسطين وفلسطين مصر»، ولكي يفرح أصحاب «العروبة» الكاذبة من السوريين التي لا غرض لها غير تجزئة سورية، باسم العروبة، بين مصر والعراق أو تنازع مصر والعراق والعربة على الاستيلاء على سورية.
وفي السادس والعشرين من يونيو/حزيران الماضي طيَّرت الشركات الإخبارية الكبرى برقيات تحمل «بشرى» وصول العراق وتركية إلى اتفاق نهائي على حماية سورية، بالتعاون مع بريطانية.
لم تذكر البرقيات شيئاً من تفاصيل هذا الاتفاق الخطير، لأن التفاصيل باقية سراً بين حكومتي العراق وتركية، ولكن الشيء الواضح فيه هو أنه اتفاق بين العراق وتركية على تقرير مصير شمال سورية، و«حماية» ذلك القسم من «الطامعين» فيه. ومن جهتنا نحن لا يمكننا أن نعدّ هذا الاتفاق سوى مؤامرة على سورية.
إنّ العراق الذي وافق على سلخ لواء الإسكندرونة عن جسم الوطن السوري وإلحاقه بتركية، على شرط أن يظل هو محتفظاً بلواء الموصل ومنابع البترول، لا يجهل مطلقاً المطامع التركية في سورية، ولذلك فالاتفاق العراقي ــــ التركي يجب أن يكون قد أمّن المصالح التركية في سورية، وأيّد السياسة التركية لقاء تأييد تركية لبعض المصالح العراقية، إذ لا يعقل مطلقاً أن يكون العراق، الذي يخشى قوة تركية، قد فرض على تركية السياسة التي يجب أن تتمشى عليها.
لا ندري الآن ما يكون تأثير هذه المؤامرة على مصير سورية على حالة سورية السياسية الداخلية، وعلى سياسييها المعروفين بالاعتماد في سياستهم على مجاري السياسة الأجنبية. ولكننا نقدّر أنّ الكثير من هؤلاء السياسيين سيتجه، من جراء هذا الاتفاق، نحو تركية ويسعون لطلب سماحها وخطب ودّها. وكم كنا نود، في هذا الموقف، أن نسمع آراء «العروبيين» السوريين الذين خدعتهم تلفيقات مكتب فخري البارودي وسمّمت أفكارهم وحرّضتهم على الحزب السوري القومي العامل على صيانة مصلحة الأمة السورية.
مما لا شك فيه أنّ سوريين عديدين في المهجر قد اطلعوا على الكراس الذي وضعه فؤاد خليل مفرج، الذي طرد من الحزب السوري القومي، والتحق بفخري البارودي ليستغل «مشروع الفرنك» في محاربة الحزب السوري القومي وبناء زعامة خصوصية له من وراء «جهاده» هذا، ثم لقي حتفه في حادث سيارة في الولايات المتحدة؟ وأعني به الكراس الذي عنوانه مبادىء الحزب السوري القومي وغايته، مشروحة بقلم: عاصم الموصلي وهو كراس كتبه فؤاد خليل مفرج نفسه منتحلاً اسم «عاصم الموصلي» ليستر حقيقته وحقيقة أغراضه الخصوصية.
في الصفحة السادسة من هذا الكراس وفي أوّلها «شرح» لمبدأ الحزب السوري القومي القائل: «مصلحة سورية فوق كل مصلحة» على هذه الصورة: «قدم سعاده مثالاً على هذا المبدأ مرة من المرات بقوله: إنّ الموصل جزء لا ينفصل من سورية ويجب أن تعاد إلينا شاء العراق أم أبى. وإنّا على استعداد لمحالفة تركية على هذا فنكتسح وإياها العراق ونصل إلى حقوقنا».
ومع أنّ هذا الكلام مختلق، إذ لا يذكر السوريون القوميون أنّ الزعيم قال: «مرة من المرات» بمحالفة تركية لمهاجمة العراق، فقد أحدث هذا الكلام المدسوس ثورة عند البسطاء من أهل النخوة الشعرية، فقامت قيامتهم على الحزب السوري القومي من غير أن يكلفوا أنفسهم البحث عن أصل هذا الكلام الملفق وعن «عاصم الموصلي» هذا، وكيف يبرز هذا النكرة في عالم السياسة والعلم هذا البروز الفجائي ويدّعي الاطلاع على دخائل الأمور! ونأخذ نحن كلامه حجة نحاجّ بها الحزب السوري القومي!
أجل، إنّ السوريين «العروبيين» من أصحاب النخوة الشعرية وحرب الكلام قد ثار ثائرهم لمجرّد سماعهم كلاماً مختلقاً حول احتمال اتفاق سورية وتركية كمجرّد فكرة، فقاموا يسلقون الحزب السوري القومي بألسنتهم الحادة وينادون بالويل والثبور وعظائم الأمور. ولو أنّ سعاده مرَّ بأنقرة مروراً من أجل الاطلاع فقط لما كانت ثورتهم عرفت حداً تقف عنده.
إنّ هؤلاء «العروبيين» الوهميين الخادعين المنخدعين يرون الآن شيئاً غير كلام مختلق. إنهم يقفون اليوم أمام الحقيقة الراهنة، فماذا يقولون؟
إنهم ولا شك ينتظرون «عاصم الموصلي» ليقوم من قبره ويوجه تفكيرهم!
إننا لا نفعل فعلهم ولا نؤاخذ السياسة المصرية أو العراقية إذا كانت تريد أن تكون واقعية ــــ حسية، لا خيالية ــــ مجازية ــــ صوفية كما يريدها هؤلاء «العروبيون» العذريون. ولكننا نسجل على السياستين المصرية والعراقية تلاعبهما بقضية جنوب سورية أولاً وبقضية شمال سورية ثانياً.
إننا نريد أن تكون هذه الكلمة تنبيهاً لهما، ليس باسم الأخوة الخيالية، بل باسم الأمة السورية الحية التي ترفض أن يقرر مصيرها غيرها، عربياً كان أو أعجمياً.
لا اعتراض عندنا على تفاهم مصر وتركية فيما يختص بشؤونهما ومصالحهما المتبادلة، ولا على تفاهم العراق وتركية على شؤونهما ومصالحهما المتبادلة، ولكننا نعترض على كل اتفاق يقصد منه التدخل في شؤون سورية الداخلية، أو اعتراض حرية سورية في تقرير مصيرها.
إنّ الحزب السوري القومي كان ولا يزال يقول بأن الأمم العربية يجب أن تتفاهم فيما بينها، «فلا تفرض أمة عربية وجهة نظرها ومصلحتها على وجهة نظر أمة عربية أخرى ومصلحتها»، وبأنه إذا كانت هنالك مسائل معلقة بين سورية والعراق فهي مسائل يجب أن تسوّى بين الأمتين الشقيقتين مباشرة.
أما اغتنام السياسة العراقية والسياسة المصرية فرصة تضعضع السياسة السورية في تطاحن الأحزاب الشخصية الخصوصية المحاربة النهضة السورية القومية، للتفاهم والاتفاق مع تركية على المسائل السورية، فليس أمراً مقبولاً عند السوريين القوميين.
سورية الجديدة، سان باولو،
العدد 73، 6/7/1940