“سايكس – بيكو” بين الأهداف والتّنفيذ
كتب الأمين وليد زيتوني:
يبدو أنّ مقولة “التّاريخ يعيد نفسه”، ليست دقيقة لجهة الافراد والأحداث وربّما الوسائل المستخدمة. إلّا أنّها دقيقة وإلى حدٍّ كبير إذا ما أسقطناها على المشاريع الجيو ـ سياسيّة، والّتي هي بالأساس مخزون الذّاكرة الجماعيّة لشعب من الشّعوب. فالاستراتيجيّة عادة تتّصف بالجمود وعدم قابليّة التّبدّل رغم تبدّل الأنظمة والقيادات ورغم تبدّل الظّروف والأمثلة على ذلك كثيرة، وهو ما ينسحب على الإمبراطوريّات والتّكتّلات والأحلاف، قديمها وحديثها.
ليست هذه المقدّمة إلّا شكلًا من أشكال التّأكيد على الأحداث الكبرى الّتي طالت وتطال أمّتنا ومنطقتنا، وبأنّ الغرب “الاستدماريّ” بشقَّيه الأوروبيّ والأمريكانيّ يحاول أن يستعيد التّاريخ عبر مشاريعه الجيوبوليكيّة، وإن تبدّلت الأساليب والأدوات المستخدمة، وهذا لا يعني مطلقًا أنّ الشّرق بكافّة فروعه وتسمياته لا يملك مشاريعه الخاصّة ويجهد لتحقيقها .
ربما كانت اتفاقيّة سايكس ـ بيكو هي أهمّ المشاريع الجيو ـ سياسيّة الّتي تناولت منطقتنا وبالتّحديد أمّتنا، وما زالت مفاعيلها هي المرتكز للسياسات المحلّيّة، إقليميًّا وكيانيًّا. بل يمكن القول أنّ لا سياسة خارج حدود سايكس ـ بيكو على الاقلّ خلال المئة عام ونيّف الأخيرة.
لقد سمحت هذه المعاهدة للدول الاستدماريّة بسحب عناصر قوّة الأمّة البرّيّة منها والبحريّة لجهة عدم تناسب العمق الاستراتيجيّ للدول المشكلة على أساسها مع الواجهة البحريّة اللّازمة لتحقيق السّيادة المتوازنة أمنيًّا واقتصاديًّا، ومن هنا نفهم لماذا سلخ لواء الاسكندرونة، ولماذا أقيمت دولة لبنان وكذلك فلسطين والكويت وكيف استبعدت قبرص، ولماذا تمّ الفصل بين قطبي الجذب الحضاريّ الشّام والعراق، العراق مثلًا لا يملك إلّا منفذا بحريًّا بطول 4 كلم على الخليج. وكذلك تمّ تقسيم الشاطئ الشّرقيّ للبحر الأبيض المتوسّط بين الكيانات المنشئة ولم يبق للشام إلّا 200 كلم من أصل ألف كلم يمتدّ من لواء الاسكندرونة إلى العريش، بينما يملك لبنان نفس الطّول بعمق برّيّ لا يتجاوز 40 كلم، وربّما بل نجزم، أنّ تقسيمات سايكس ـ بيكو الكيانيّة وعلى أساس طائفيّ ومذهبيّ كان تحضيرًا لإقامة دولة يهوديّة في فلسطين.
باختصار وضعت هذه المعاهدة حدًّا لمعادلة قوّة/سيادة الّتي تتمتّع بها الأمم بالعالم، وهو ما أفقد الأمة السّوريّة مركزها ودورها الجيو ـ سياسيّ والجيو ـ استراتيجيّ بعد أن أفقدها دورها الجيو ـ ثقافيّ الحضاريّ في العالم، ولم تستطع منذ ذاك التّاريخ أن تكون وضعًا يليق بها في مرحلة تنازع أمم البقاء بل وضعها في مهبّ مشاريع الآخرين.
لم تكن معاهدة سايكس ـ بيكو وليدة ساعتها بل تمّ التّحضير لها من أمديّة بعيدة نسبيًّا في مرحلة سيطرة الإمبراطوريّة العثمانيّة الّتي كانت تعاني من سكرات الموت، نتيجة لأوضاعها الاقتصاديّة الدّاخليّة وخساراتها العسكريّة وأهمّها تدمير أسطولها في “نافرين” عام 1826 وتدخّل الدّول الأوروبيّة في شؤونها الدّاخليّة مما سمح لهذه الدّول بإدخال البعثات الإرساليّة لضرب البنية الثّقافيّة تحت عناوين التّعليم وإدخال العصبيّات المذهبيّة والطّائفيّة الّتي أدّت إلى حروب داخليّة أهمّها عامَي 1848 و 1861.
إستنادًا على ما تقدّم، ستبقى مشاريع الغرب عاملة على التّفتيت والتّجزئة لهذه الأمّة الّتي تشكّل قلب العالم الحقيقيّ، وإن تغيّرت وسائلها من الحرب التّقليديّة إلى الحروب بالوكالة إلى الحروب ما فوق التّقليديّة وحروب الشّبكات، فإذا لم نبادر إلى تحصين هذه البلاد بالمعرفة والوعيّ والقوّة اللّازمة على قاعدة وحدة المصير ووحدة البوصلة باتجاه التّحرير والتّحرّر من السّيطرة الثّقافيّة والاقتصاديّة والأمنيّة لهذا الغرب الجَشِع.