سورية الكبرى
منذ أوائل أبريل/نيسان الماضي وأخبار المحاولة الصادرة عن رئيس وزارة مصر، نحاس باشا، لإيجاد «وحدة عربية» تصل إلينا بواسطة المصدر الوحيد الذي يبدي اهتماماً بأخبار الشرق الأدنى وإذاعتها، نعني شركة «ترانس أوسيان» الألمانية، التي تتبعت الحركات الجارية في مصر والعراق ثم في سورية، في صدد محاولة «الوحدة العربية» التي خرج اقتراحها من الوزارة المصرية في دعوة وجهت إلى رئيس وزارة العراق وحده!
تكلمنا في أعداد سابقة من الزوبعة، وفي بعض أعداد سورية الجديدة، وفي بعض أعداد النهضة في بيروت، على المطامع المصرية في سورية وعلى نوع «العروبة» والوحدة العربية التي تبغيها.
وبما أنّ الدعوة إلى مؤتمر يدرس وسائل تحقيق «الوحدة العربية» خرجت من رئيس الوزارة المصرية، مصطفى نحاس باشا، فإننا نرى من المناسب جداً إيراد تصريح سابق لهذا السياسي المصري حين كان رئيس الحكومة الوفدية، سنة 1937، هو سابقة مفيدة جداً لإيضاح المرامي المصرية في سورية والأقطار العربية.
ونحن ننقل هذا التصريح عن عدد جريدة «الكتلة الوطنية» الرسمية المسماة الإنشاء، الصادر في 24 يوليو/تموز 1937.
وتصريحه وارد في معرض رد على سؤال وجّهه إليه في مجلس النواب، النائب الدكتور محمد حسين هيكل بك عن قضية فلسطين وموقف مصر من «الوحدة العربية» والأقطار العربية المختلفة.
وإليك القسم المتعلق بموقف مصر من الأقطار العربية:
»تحرص الحكومة المصرية كل الحرص على توطيد صلات الود والرخاء، وتبادل المنافع التي تربط مصر والشعوب العربية والشرقية الإسلامية وتعمل دائماً على إعلاء قدر مصر عندها ومكانتها بينها. وهي تتابع باهتمام كل ما يدور في مسرح السياسة الدولية من معاهدات ومحالفات واتجاهات وغيرها لتكون، إذا اقتضى الحال، على استعداد لإجراء ما تستلزمه مصلحة البلاد (أي مصر) في الوقت المناسب، ولكنها قبل أن تجري أي عمل إيجابي معيّن لا ترى من حسن السياسة ولا من المصلحة الإعراب عن مقاصدها في شأنه».
انتهى كلام نحاس باشا.
»وقد أعلن الدكتور هيكل في المجلس سحب استجوابه، مكتفياً بما قاله رئيس الوزراء»، أي أنّ هذا النائب وافق بدون تحفظ على النظرة السياسية التي أعلنها مصطفى نحاس باشا، بصفة كونه رئيس الحكومة المصرية، في التعبير عن خطة مصر واتجاهها في جميع المسائل التي تمس أو تتعلق بالأقطار العربية الأخرى. وهذه النظرة تتمركز في قول نحاس باش:
«وتعمل (الحكومة المصرية) دائماً على إعلاء قدر مصر عندها (أي عند الأقطار العربية) ومكانتها بينها».
لا نعتقد أنّ إنساناً غير مغفّل يطّلع على تصريح نحاس باشا، وموافقة مجلس نواب مصر عليه، ولا يرى فيه نظرة مصرية خصوصية ترمي إلى خدمة المصالح المصرية قبل كل شيء.
وقد ظهرت هذه السياسة المصرية، الطامعة في مصالح بعض أقطار العالم العربي، في الحملة الإذاعية التي سخّر لها الكتّاب الكبار والصحف الكبرى لتسهيل ضم فلسطين إلى مصر بانتزاعها من وحدة الوطن السوري ووحدة القومية السورية.
وفي السياسة المذكورة عودٌ إلى المطامع المصرية القديمة في فلسطين، التي جرت بسببها حروب دموية كبيرة بين سورية المدافعة عن اتحادها ومصر الطامعة في التهام الثلث الجنوبي من الوطن السوري الذي نجحت في ابتلاع القسم المتطرف منه نحو الجنوب الغربي، نعني شبه جزيرة سيناء، الذي اضطرت الدولة السورية الأيوبية للتخلي عنه بعد حروب ومعارك مع دولة المماليك الذين نشأوا في نعمة الملوك السوريين، في مصر.
وإذا اكتفينا بذكر الحرب العنيفة بين سورية ومصر، في عهد السلوقيين في سورية والبطليميين في مصر، كان لنا شاهد لا تدفع شهادته في إثبات المطامع المصرية في جنوب سورية واضطرار سورية لخوض الحروب العديدة دفاعاً عن حقها في وطنها وصيانةً لكليّته ووحدته.
عندما نضغ هذه السوابق وغيرها أمامنا ــــ ويجب أن نضعها أمامنا ــــ حين النظر في مشروع رئيس الحكومة المصرية، نتمكن من إدراك العوامل الخفية التي توضح لنا الأغراض الحقيقية التي ترمي إليها السياسة المصرية من وراء الدعوة إلى إنشاء «وحدة عربية»، براقة، خداعة للذين لا يدركون منشأ الأمور وعواقبها.
تجاه هذه الحقائق الراهنة كان من البديهي أن تتحقق نظرية الحزب السوري القومي الاجتماعي في مسألة العروبة والوحدة العربية.
فبعد أن طبّلت الصحافة المصرية وزمّرت لدعوة نحاس باشا، وبعد أن ذاع خبر دعوة رئيس الوزارة المصرية رئيس الوزارة العراقية، نوري السعيد، لزيارة القاهرة ووضع أسس المشروع النهائية، على أثر المحادثات والمفاوضات التي قام بها في مصر وزير داخلية العراق، تحسين باشا العسكري، قبل منتصف شهر أبريل/نيسان الماضي، وردت أخبار أوائل مايو/أيار الصادرة عن بغداد معلنة أنّ زيارة نوري السعيد باشا لمصر يجب أن لا تكون موضع سوء فهم، وأنّ المفاوضات في القاهرة «خالية من مسألة الاتحاد في العمل السياسي، وأنها مقتصرة على التعاون الثقافي» كما ورد في برقية لشركة «ترانس أوسيان» بتاريخ 6 مايو/أيار الماضي. ثم عقب هذا الخبر خبر آخر للشركة المذكورة، صادر عن أنقرة في 27 مايو/أيار، يعلن أنه سيجري توقيع «اتفاق ثقافي» بين العراق ومصر، بمناسبة زيارة رئيس الوزارة العراقية لمصر، وأنّ الاتفاق المذكور سيكون مفتوحاً للأقطار العربية الأخرى التي ترغب في الدخول فيه.
ثم جاءت برقيات أخرى في صدر شهر يونيو/حزيران الماضي للشركة المذكورة آنفاً تحمل أنباء حبوط مشروع نحاس باشا، ورفض رئيس الوزارة العراقية زيارة القاهرة، وإعلانه رغبة العراق في الاتحاد مع سورية!
لم تقتصر حوادث مشروع نحاس باشا على ما تقدم فقد أدت هذه الخطوة إلى حصول مجار أخرى سياسية. ومن هذه المجاري ما أعلنه أمير شرق الأردن الهاشمي العروبي العربي، وخلاصته أنّ الشيء الأساسي الآن هو «إيجاد سورية الكبرى» قبل التفكير في أي اتحاد عربي!
تقول برقية «ترانس أوسيان» التي التقطت الخبر من بغداد في 6 مايو/أيار الماضي إنّ سورية الكبرى التي يقترحها الأمير عبد الله الحسيني الهاشمي تشمل الشام ولبنان وشرق الأردن والعراق (ولا ذكر لفلسطين في البرقية ولعله سهو ولكن يمكن أن يكون إخراج فلسطين من مشروع الأمير عبد الله مقصوداً، موافقة للسياسة البريطانية المؤيدة مطاليب اليهود وادعاءاتهم في فلسطين) ولكن البرقيات التالية تحذف العراق أيضاً من مشروع الأمير عبد الله ولا تذكر غير توحيد الشام ولبنان وشرق الأردن، بإغفال فلسطين.
مهما يكن من الاختلاف في أخبار مدى اتساع مشروع الأمير عبد الله أو ضيقه، فأشكاله جميعها تدل على أنّ هذا الأمير اضطر أخيراً لاعتناق نظرية الحزب السوري القومي الاجتماعي في المسائل القومية، مع إدخال أغراض إضافية عليها تقتضيها مطامعه في إيجاد عرش وراثي في سورية يتبوأه هو وذريته، ويكون معتمداً ليس فقط على مبادىء الوحدة السورية القومية التي نادى بها الحزب السوري القومي الاجتماعي، بل على سياسة بريطانية أيضاً في الدرجة الأولى، وعلى التودد لتركية في الدرجة الثانية!
إنّ مشروع نحاس قد حبط حبوطاً كلياً. لأن العراق، الذي فتحت باصرته الحركة القومية الاجتماعية في سورية شعر قبل فوات الأوان بالخطر الذي تتعرض له مصالحه في اتباع العروبة المصرية، أو السياسة المصرية الخاصة في المسائل العربية العامة، ولأن الرأي العام في سورية، المتنبه بحركة الحزب السوري القومي الاجتماعي، لم يشأ أن يرتمي في شباك دعوة مصر إلى مؤتمر «عربي» تكون نتيجته سيطرة سياسة مصر والمصالح المصرية، السياسية والاقتصادية في شؤون العالم العربي. ورأى الأمير عبد الله أنّ الوعي القومي في سورية كلها قد أصبح حقيقة لا يمكن الهرب منها، فأراد استغلاله لمطامعه الملكية وإكساب نفسه صفة «بطل» المناداة بإيجاد سورية الكبرى التي هي سورية الحزب السوري القومي الاجتماعي.
وبرقية شركة «ترانس أوسينان» الصادرة عن أنقرة في 8 يونيو/حزيران الماضي تثبت أنّ الخطط «التي نادى بها الأمير عبد الله تتقدم باستمرار في أوساط الرأي العام»، أي أنها هي الخطط التي يريدها الشعب في سورية ويقبلها، حتى ولو نادى بها شخص مكروه من الشعب لتلوّنه وتقلّبه السياسي كالأمير عبد الله.
أما مشروع نحاس باشا فقد كان حبوطه كلياً بعد زيارته الأخيرة التي تمت في يونيو/حزيران الماضي لفلسطين. فقد زار نحاس باشا فلسطين على أمل أن يلتقي هناك بنوري السعيد باشا.
وبمناسبة زيارة الأمير عبد الله للقدس سرت إشاعات أنّ الثلاثة سيجتمعون أو يعقدون مؤتمراً هناك لبحث مشروع نحاس باشا.
ولكن البرقية الواردة في 14 يونيو/حزيران حملت خبر عودة رئيس الوزارة المصرية إلى القاهرة من غير حدوث مقابلة بينه وبين رئيس وزارة العراق الذي كان أشيع أنه سيأتي إلى فلسطين في موعد زيارة رئيس الوزارة المصرية لمقابلته هناك.
كانت خاتمة حركات نحاس باشا في زيارته لفلسطين إذاعته نداء هناك يقول فيه «بضرورة العمل العربي الإسلامي المشترك».
وتقول البرقية إنّ رسالة نحاس باشا اصطبغت بصبغة دينية شديدة، وإنه ختمها بقوله إنّ مصر ستهتم دائماً «لفائدة المسألة العربية الإسلامية»!
ومهما يكن من أمر النعرة الدينية التي حاول نحاس باشا استغلالها في فلسطين لدعم المطامع المصرية هناك فلا نظن أنّ نداءة يغيّر النتيجة السلبية التي وصل إليها مشروعه.
والفضل في ذلك يعود، بلا شك، إلى الوعي القومي الذي أوجده الحزب السوري القومي الاجتماعي في سورية الذي أجبر رجلاً عربياً ينادي بالعروبة ويلتفت دائماً إلى الصحراء، وطنه الأصلي، على القول إنّ وحدة سورية يجب أن تُقدّم على الوحدة العربية.
إنّ الشعور بإمكان دخول العراق في سورية الكبرى ليس جديداً، ويجوز بحثه، سواء أورد في ما أعلنه الأمير عبد الله الحسيني أم لم يرد.
ولا ننسى أنّ فريقاً من السوريين المغتربين أذاع أثناء الحرب العالمية الماضية دعوة إلى إيجاد «الولايات السورية المتحدة» على أن يكون العراق إحدى هذه الولايات.
أما الحزب السوري القومي الاجتماعي فقد أبدى هذه الإمكانية وحبّذها في مواقف عديدة منها تصريح للزعيم سنة 1936 حين سئل عن رأيه في العراق وصلته بسورية فقال:
«إنّ العلاقات الإتنية والتاريخية بين سورية والعراق كانت قوية جداً في الماضي، ولم يحدث ما يضعفها في الحاضر. والعراق كان جزءاً من سورية الكبرى على العهد السلوقي. ولا مانع من إعادة هذه الوحدة في الوقت المناسب باقتناع الشعبين بوجوبها ولزومها».
وفي سنة 1938 ثبّت الزعيم رأيه المذكور في خطابه في نادي همبلط في برلين قائلاً:
«إنّ سياسة سورية القومية الاجتماعية تسعى لإزالة الصحراء الداخلية بين سورية الأم والعراق وتحويلها إلى مزارع وبساتين تسمح بإنشاء القرى والمدن وترابط العمران فيتم الاتحاد الاجتماعي، الذي إذا لم يسبقه الاتحاد السياسي، فلا غنى له عن اللحاق به. فيمكن حينئذٍ إنشاء سورية الكبرى أو «سوراقية»، إذا لم يكن بد من تحويرالإسم».
يرجّح أن لا يكون أمير شرق الأردن عرض للعراق ومسألة دخوله في سورية الكبرى، ولكن اقتراح نوري السعيد باشا إيجاد تقارب وتعاون بين سورية والعرق بدلاً من النظر في «وحدة عربية» مصطنعة ومقتصرة على بعض الأقطار العربية دون بعض، بالإضافة إلى مناداة الأمير عبد الله بسورية الكبرى أولاً، هو انتصار تام كامل لمبادىء الحزب السوري القومي الاجتماعي ونظرياته وخططه السياسية والاجتماعية على جميع المشاريع الاستغلالية باسم العروبة الدينية التي أراد رئيس وزارة مصر الاستناد إليها في الظاهر لجذب جنوب سورية إلى مصر، وفصلها عن وحدتها القومية والوطنية، ولبسط نفوذ مصر في ما أمكن من الأقطار العربية.
أنطون سعاده
الزوبعة، بيونس آيرس،
العدد 62، 1/7/1943