سياسة الدول المتحاربة في العالم العربي
كانت الزوبعة قد نشرت مقالات في الماضي تبيّن فيها تلاعب الدول الكبرى بالعصبية الدينية المحمدية في العالم العربي التي لا تزال حاجزاً بين الشعوب العربية اللسان والروحية القومية، كما كانت العصبية الدينية المسيحية حائلاً بين الشعوب الأوروبية والروحية القومية.
والأمم الأوروبية الطامعة في الاستعمار لا تفتأ تشجع العصبية الدينية المحمدية ضد نشوء القومية الصحيحة في العالم العربي، لتظل شعوبه بعيدة عن مجرى التطور الاجتماعي ــــ الاقتصادي ــــ السياسي ودون النفسية الصالحة للصراع الاقتصادي ــــ السياسي في العالم ودون إمكانيات التقدم في هذا المضمار.
وحين نشأت الحركة السورية القومية الاجتماعية في أرقى أمم العالم العربي وأوسعها إمكانيات روحية ومادية ــــ في سورية ــــ لتقود العالم العربي كله في طريق الصعود الاجتماعي والسياسي، لم تنظر الدول الكبرى الاستعمارية بعين الارتياح إلى هذه الحركة، خصوصاً حين أدركت مدى مطامحها ومراميها.
وبعض هذه الدول كان يُظهر رضى ورغبة في تقدم الحركة السورية القومية الاجتماعية حين كانت لا تزال حركة صغيرة لا يخشى خطرها.
وذلك لتشجيعها على مناوأة الدول الأخرى المعادية. فمن القواعد السياسية المقررة عند جميع الدول الكبرى أن تستغل كل من هذه الدول كل حركة يمكن أن تزعج مزاحمتها أو عدوتها. ومن البديهي أنه لم يكن ممكناً في بداءة الحركة القومية، أن تدخل هذه الحركة السياسة الإنترناسيونية، لأنه لم يكن معروفاً حينئذٍ، مبلغ النجاح المقدر لها.
والدول لا يهمها مصالح الحركات والأمم الأخرى إلا بمقدار ما لها فيها منفعة.
شرحنا في مقالات سابقة مستقلة تزاحم الأمم المتحاربة على خداع الجماعات الدينية المحمدية واكتساب تأييدها.
ومن الهامّ جداً لدولتي المحور الأوروبيتين، ألمانية وإيطالية، تحريك الجماعات المحمدية في شواطىء المتوسط الشرقية والجنوبية، فإذا أمكن إيجاد تيار واحد فيها كلها، وهذا غير ممكن إلا بواسطة العصبية الدينية، كان ذلك من أفضل المساعدات للخطط والحركات الحربية لتي تريد ألمانية وإيطالية القيام بها من غير مسؤوليات وتعهدات حقوقية مع حركات قومية لها مطاليب واضحة، صريحة لا إبهام فيها. من أجل ذلك أعلن زعيم إيطالية، موسوليني، أنه يريد أن «يحمي الإسلام» ولذلك رأت ألمانية أن تستخدم السيد شكيب أرسلان في سياستها الإذاعية لقاء تعويضات مالية، لا لقاء عهود سياسية ومعاهدات مدونة في وثائق، لأن العهود والمعاهدات لا تعقد مع الأفراد، بل مع الحركات المنظمة ذات المؤسسات التي تكفل استمرار السياسة المقررة والعهود التي ترتبط بها المنظمة، بعكس الأفراد الذين لا يمكنهم تأمين استمرار سياسة أو خطة.
فإذا مرض أحدهم أو مات فقد زال كل اتفاق وكل عهد.
ثم إنّ الأفراد معرّضون للسقوط الشخصي أو النهوض.
أما المنظمات فتبقى ثابتة بعقائدها ومؤسساتها التي لا تتغير ولا تتبدل مسؤولياتها وتعهداتها بتبدل الأفراد. ولما كان شكيب أرسلان شخصاً غير مسؤول، لأنه لا يرتبط بمنظمة ذات مبادىء مقررة ونظام عام يضبط أعمال أفراده، فلا يمكن أن يكن، من الوجهة الحقوقية، طرفاً صالحاً للتعاقد معه.
ولمّا برز الحاج أمين الحسيني بصفة رجل دين مجاهد ضد اليهود في فلسطين، عطفت عليه الجبهة المحورية للغرض عينه. ومع أنّ صحف سورية نشرت منذ سنوات صورة مراسلة زعمت أنها صحيحة متبادلة بين شكيب أرسلان والحاج أمين الحسيني في فلسطين وفيها ما يدل على التعاون بين الشخصين المذكورين وقبول مساعدات مالية من إيطالية، فلا يمكننا الجزم بمبلغ صحة ما نشرته الصحف المشار إليها.
وإننا نعتقد أنّ الحاج أمين الحسيني ليس من نوع شكيب أرسلان، أي أنه لا يبذل نفسه بالطريقة التي يبذلها هذا. ولكن الحاج أمين الحسيني رجل دين، لا رجل اجتماع واقتصاد وسياسة، أي أنه ليس رجل قومية خالصة من الاختلاطات الدينية والمذهبية.
ولذلك يسهل كثيراً استغلال تحمسه الديني وحركاته ضد اليهود في الجماعات المحمدية العربية اللسان، من غير التعرض لعقود ومعاهدات معه، لأنه هو أيضاً لا يمثل حزباً منظماً ولا مؤسسات لها قيمة سياسية.
يقيم الحاج أمين الحسيني، الآن، متردداً بين برلين وروما.
وكلما كان هنالك لزوم لبروزه على مسرح السياسة في الأقطار العربية فسحت محطات الإذاعة الألمانية والإيطالية المجال «لتصريحاته» ونقلتها شركات المحور البرقية.
وهذا ما جرى بمناسبة احتلال الأنكلوسكسون مستعمرات فرنسة المحمدية العربية اللسان.
فقد وجّه الحاج الحسيني إلى شعوب هذه المستعمرات نداء ليجاهدوا الإنكليز والأميركان ويقاوموهم.
ولكن الحاج الحسيني لا يسأل ما هو مصير هذه المستعمرات بعد الحرب، وفي حالة انتصار المحور الألماني ــــ الإيطالي، هل يكون أحسن من مصيرها في حالة انتصار المحور الأنكلوسكسوني؟
كما يستغل المحور الألماني ــــ الإيطالي النعرات الدينية المحمدية والحاج أمين الحسيني وشكيب أرسلان وأمثالهما، كذلك يستغل المحور الإنكليزي ــــ الأميركاني هذه النعرات عينها والشيخ تاج الدين الحسني، والأمير عبد الله بن الحسين الهاشمي، والعائلة التشاشيبية، وعبد الإله الهاشمي، وغيرهم.
وكما استغلت فرنسة النعرات الدينية المسيحية والإكليروس الماروني كذلك تستغل إيطالية هذه النعرات عينها، وقسماً من الإكليروس الماروني الذي يتردد على روما، وعدداً من الرجال المسيحين أمثال يوسف السودا الذي هو بين المسيحيين في سورية بمقام شكيب أرسلان بين المحمديين.
حتى الأميرال درلان أخذ يفكر في مصير «الإسلام» ويهتم بأمره حين أخذ يتحول من رجل حرب إلى رجل سياسة، فقبل مقتله بأيام قلائل وجّه خطاباً إلى المحمديين يدعوهم فيه إلى التضامن مع فرنسة ونصرة الأمم المتحدة.
كل سياسي أجنبي له مأرب استعماري في بعض أقطار العالم العربي، يجعل الاهتمام بأمر «الإسلام» مطية إلى مربه.
وفي برلين تختم كل إذاعة باللغة العربية بالهتاف «الله ينصر الإسلام» والمأجورون للدعاوة الألمانية مكلّفون بخدع المحمديين الذين لا يزالون بعيدين عن الإدراك القومي المنفصل عن العقائد الدينية بالقول لهم إنّ «النظام الجديد» الذي يقول به المحور الألماني ــــ الإيطالي ليس شيئاً آخر غير العمل بالنصوص المحمدية وتعميم الدين المحمدي في العالم.
ويستشهد هؤلاء المأجورون على صحة دعواهم بما تذيعه محطة برلين من الدعاء بنصر «الإسلام».
ولكنهم يكتمون عن الناس سر إبقاء هذا الدعاء قاصراً على الإذاعة العربية. وإذا سألهم أحد عن ذلك قالوا «إنّ الظروف لا تساعد الآن» أو «إنّ الوقت لمّا يحن»، لأن الأمم الخارجة عن سلطة المحور المذكور يجب أن لا تعلم «الحقيقة».
ولكن يوجد أمم كاليونان وصقالبة الجنوب وتشيكوسلوفاكية وبولونية ودول البلطيك تحت حكم هذا المحور، فلماذا لا يبدأون بتنفيذ الدعوة المحمدية فيها، وتوحيد المحمديين في العالم فيصبحون قوة عظيمة تنصر الدين وتمهد لمجيء الساعة؟!.
إنّ هذه الدعاوات جميعها لدليل على مبلغ احتقار الدول الاستعمارية الكبرى مدارك الشعوب التي لا تزال تجهل ما هو الفرق بين القومية والدين، وبين الأمة والجماعة الدينية، وبين السياسة والعقائد الدينية.
وعسى أن لا تجد هذه الدعاوات ضحايا كثيرين في أوساط السوريين.
أنطون سعاده
الزوبعة، بيونس آيرس،
العدد 60، 15/2/1943