عواقب الاستقلال الممنوح – أخبار الوطن المحزنة
حذرت دوائر الحزب السورى القومي الاجتماعي العليا الشعب السوري من عواقب الاستسلام بوعود الاستقلال الجديدة الممنوحة من الفئتين المتحاربتين في هذه الحرب العالمية الثانية. خصوصاً تلك الوعود التي قطعها الألمان والطليان تمهيداً لزحفهم في مصر نحو قناة السويس والتي قطعها الإنكليز والفرنسيون الأحرار تمهيداً
لزحف الأولين من فلسطين على لبنان والشام، ليحلّوا محل قوات حكومة فيشي فيهما. وقد تناولت الزوبعة تلك الوعود من الفريقين وحللتها وأفردت لوعود البريطانيين والديغوليين أبحاثاً خاصة في أعدادها، خصوصاً أعداد 15 وأول أغسطس/آب و15 أغسطس/آب وأول سبتمبر/أيلول وأول تتشرين الأول من سنه 1941، وحذّرت السوريين من خطر الاقتناع بأن تلك التصريحات وذيولها قد كفِلت للسوريين حصول استقلالهم وحريتهم المطلقة في تقرير مصيرهم وشكل حكومتهم، وسيادتهم على شؤونهم ووطنهم.
ولكن الجهل والغرور وحب الذات وحب الظهور من غير كِلفة وعناء أعمت بصائر أكثر اللاقوميين عن إدراك نظرة الحركة السورية القومية الإصلاحية في شؤون قضيتنا القومية السياسية وجعلت وجهاءهم يندفعون في مظاهر تلك الوعود المواربة، الخلابة، فأقبلوا في الوطن على النيابة والوظائف الجديد التي يقتضيها وَهْمُ “الاستقلال الممنوح” وفي المهجر تسابقوا على وسائل الظهور في حلل الاستقلال المزركشة وسنحت الفرصة للكشف عن مرضى عقول بعض المنضمين إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي في الأرجنتين وغيرها الذين انضموا إليه واعتنقوا مبادئه ونظامه وقاموا يركضون ويتسابقون لإعلان انقلابهم وقبولهم “الاستقلال الممنوح” للبنان وغير لبنان الذي جاء رخيصاً وهيناً!
أثبتنا في أعداد الزوبعة المشار إليها أهم تصريحات الانكليز والديغوليين وفي الأعداد التالية حلّلنا تلك التصريحات وعينّا مواضع الخطر فيها. وقد وعى القوميون الصحيحون تحليلات جريدتهم وتمسكوا بتوجيهات زعامتهم فلم يخيبوا. ولكن الفئات الأخرى التي هي أكبر من أن تنقاد لحزب أو زعامة وصلت إلى حضيض
الإخفاق والخيبة في حوادث المشادة بين الحكومة اللبنانية والإدارة الفرنسية الديغولية سنة 1943، ثم في الحوادث الناتجة عن إنزال قوات فرنسية عديدة في منطقة الانتداب الفرنسي السابق وما تقدمها وما عَقِبها مما ينفي نفياً قطعيًّا وجود سيادة قومية فعلية واستقلال سوري أكيد.
أكدت هذه الحوادث الدامية الأخيرة ما قاله هاني بعل في عدد 15 أغسطس /آب سنة 1941: “«إنّ التصريحات والوعود بالمساعدة على الاستقلال وبتحقيق الاستقلال، الصادرة من جانب دولتي المحور الكلي ومن جانب بريطانية و”الفرنسية الأحرار” هي ووعود عديمة القيمة الحقوقية والشرعية” (أنظر ج 4 ص 268) فلا يصح الاستناد إليها، لأن المانح له حق استرجاع الممنوح. وهذه النظرة الحقوقية العميقة هي من إنتاج القيادة السورية القومية الاجتماعية الفكري وامتيازاتها.
إنّ الحوادث الاصطدامية الأخيرة بين السوريين والفرنسيين لم تفاجىء المنظمة السورية القومية الاجتماعية. فهذه المنظمة قد أعلنت منذ البدء، أنّ وعود منح الاستقلال من قِبَل بريطانية وفرنسة لم تغيّر وضع أمتنا السياسي. وكان واضحاً لها أنّ الشيء الوحيد الذي طرأ على ذاك الوضع السياسي هو أنّ الجيش البريطاني حل محل الجيش الفرنسي في سورية الشمالية.
ومسألة تزاحم بريطانية وفرنسة على النفوذ السياسى والمراكز الاستراتيجية والموارد الاقتصادية في بلادنا مسألة قديمة تتجدد بالاحتلال البريطاني الجديد. وقد اتخذت هذه المسألة شكلاً جديداً باغتنام بعض الفئات أو الشركات السياسية الرجعية فرصة انحلال القوة العسكرية الفرنسية واحتلال البريطانيين شمال سورية، للانتقام من الحكم الفرنسي السابق الذي كانت تتودده وتتقرب إليه زلفى ابتغاء تسلّم مقاليد الحكم ووظائف الإدارة من غير فائدة، لأن التسلط الفرنسي كان قد اختار آلائه البشرية أمثال إميل إده في لبنان وجميل الألشي وحقي العظم في الشام.
اغتنمت هذه الفئات المريضة الفرصة، فقامت تناهض الفرنسيين الضعفاء اليوم، بعد أن كانت تنزلف إليهم وهم أقوياء بالأمس، ليس من أجل تأمين سيادة قومية طالما كانت هي من أعوان الإرادات الأجنبية على إعدامها وسحق معالمها وخنق روحها، بل من أجل اكتساب رضى المحتلين الجدد لتكون لهم ما كانته مزاحمتها للفرنسيين من قبل. وهكذا حلت “الكتلة الدستورية” في لبنان محل فئة إميل إده وخير الدين الأحدب التي تسمّت بأسماء أخرى ونكّلت برئيسها إده الذي فرَ من البلاد ليعمل لإعادة حزبه الفرنسي إلى البلاد ليعود هو إلى الحكم والانتقام.
والسياسة الانكليزية مشهور أمرها وهي تقدر على التوسع بالناس وإرضاء مطاليبهم التي لا تعاكس جوهر الأغراض البريطانية السياسية والاستراتيجية والاقتصادية. وهي تفسح للشعوب التي تدخلها، ضمن نطاق نفوذها السياسي، مجالاً من الحرية يتسع لحركات رجالها وأحزابها ولا يضيق بالأغراض البريطانية الأساسية. ومن نتائج سياستها اكتساب المصريين والعراقيين حالات واسعة من الحكم الذاتي، الذي يعني الاستقلال في الحكم الداخلي، ولكنها لا تبلغ درجة الاستقلال الصحيح الذي يشمل حرية العمل والتعاقد الخارجيين.
هذه المرونة السياسية الإنكليزية لم يصلح لها المزاج الفرنسي الفوّار! فلم تكتفِ السياسة الفرنسية، في جميع أدوارها وفي مختلف مناطقها الجغرافية. بتأمين أغراض فرنسية جوهرية وترك ما تبقّى للوطنيين، بل استأثرت بأسباب الحكم الذاتي، وضربت رقابة دقيقة على جميع فروع الادارة الداخلية، وتدخلت في كل أمر شعبي داخلي، ولم تفرّق في المعاملة بين الشعوب غير المتمدنة والشعوب المتمدنة، ولا بين الشعوب المؤهلة والشعوب غير المؤهلة فولدت أحقاداً عميقة وشقّت هوة سحيقة بينها وبين السوريين الذين حاولت حكمهم.
والمرونة السياسية الانكليزية لا تقف عند حد إحسان سياسة الشعوب الواقعة النفوذ السياسي. فلما قررت احتلال شمال سورية لم تفكر فقط في اجتذاب ميول السوريين بوعد الاستقلال، بل فكرت ايضاً بإرضاء الفرنسيين الديغوليين بوعد آخر مطاط، بتأمين فرنسة على “اأسبقية مصالحها” في لبنان والشام. ومن أروع ميزات هذه المرونة السياسية البريطانية محاولتها لتوفيق بين وعديها للسوريين والفرنسيين بشد هذه وإرضاء تلك تارة وشد تلك وإرضاء هذه تارة أخرى!
هذه هي الحالة السياسية في أشكالها الظاهرة. ولكن بقي شكل خفي من الناحية السورية. فمنذ نشأ الحزب السوري القومي الاجتماعي نشأت فى سورية مدرسة التخطيط السياسي السوري والمرونة السياسية السورية. وهذه المدرسة تعالج اليوم النزق الفرنسي من جهة والرزانة البريطانية من الجهة الأخرى. ومستقبل سورية الناجح يتوقف على مبلغ إقبال السوريين على مدرسة الحزب السوري القومي السياسية الاجتماعية.
ومما لا شك فيه أنّ مبادىء هذه المدرسة السياسية قد انتشرت انشاراً واسعاً في الوطن والمغترب، حتى أنّ الفئات السورية المناوئة للحزب السوري القومي الاجتماعي لم تقدر أن تتخلّص من تأثير هذه المدرسة وأساليبها في تفكيرها وسلوكها السياسي.
كلما ازداد إقبال السوريين على المنظمة السورية القومية وتعاليمها ازدادات المعنويات السورية صعوداً وكثر التوافق المطاوع في الحركات السورية السياسية. وفي جميع مظاهر الشعب السوري الأخيرة نرى عياناً تأثير الحركة السورية القومية الاجتماعية وتعاليمها في قيادة الفكر والشعور السوريين. نحو الغاية الكبرى. وليس أدل على ذلك من تغيّر اتجاه لبنان وحركات السياسة الشامية.
ومن الأدلة على عِظَمِ تأثير الحزب السوري القومي الاجتماعي، أنّ الشركات البرقية لم تتمكن من إغفال مظاهراته الكبرى في بيروت، ولكنها قالت إن شعار الزوبعة الذي حمله المتظاهرون هو الصليب المعقوف الأطراف الذي اتخذه الاشتراكيون القوميون الألمان شعاراً لهم، وقالت إنّ هذه المظاهرات هي نتيجة تحريض الحاج أمين الحسيني الديني، تضليلاً للرأي الإنترناسيوني وتشويباً للحقيقة!
إنّ الحزب السوري القومى قد حقق فكرة صراع النهوض القومي الاجتماعي. ولن يطول الوقت حتى نراه يحقق انتصار البعث القومي وإرادة الأمة السورية على الإرادات الأجنبية!
الزوبعة، بوينس آيرس،
العدد 85، 10/1945