عيدُ الجلاء – وِقفةُ استعدادٍ وتوثّب

حافظ يعقوب*

لم يكنْ يومُ السّابع عشر من نيسان عام 1946 حدثًا عابرًا في تاريخ سورية، أو مجرّدَ توقيتٍ لجلاء آخرِ جنديّ للاحتلال الفرنسيّ عن أرضِ الشّام. فاندحارُ قوّةٍ استعماريّة كفرنسا عن أرض تنتمي للهلال الخصيب – سورية الطّبيعيّة لا يمكن النّظر فيه منعزلًا عمّا تتبوّؤُه المنطقة في السّياق الجغرافيّ التّاريخيّ السّياسيّ المصلحيّ. إذ إنّ الشّام (الجمهوريّة العربيّة السّوريّة) تنتمي إلى محيطها الطّبيعيّ الّذي عانى تاريخيًّا من استهداف الدّول والامبراطوريّات القريبة منه والبعيدة على حدّ سواء، وقد كان موقعه الجغرافيّ الّذي يتوسّط العالم ويشكّل عقدة ربط دوليّ وثرواته الطّبيعيّة وبيئته الخصبة، المحفّز الأساسيّ لاستهدافه مِن قِبل المستعمرين والفاتحين على مدى قرون طويلة ثم تُوِّجت حقبة الاستهداف بوعد بلفور وإقامة دولة العدو اليهوديّ على أرض سورية في فلسطين وما استتبعه من حروب وخسارات. وفي الحقيقة يَصحُّ توصيفُ أنطون سعاده لواقع أمّته السّوريّة عندما قال إنّها “أمَّةٌ سيّئةُ الطّالع فلا تكادُ تهربُ من دُبٍّ حتّى تقعَ في جُبّ”.

كانت القرونُ الخمسةُ الأخيرة من تاريخ سورية الّذي يعود إلى ما قبل الزّمن التّاريخيّ الجليّ، أشدَّ سنواتهِا ظلامًا وحُلكةً: احتلالٌ تركيّ لأربعمئة عام، فمعاهدةُ سايكس- بيكو (1916) بين بريطانيا وفرنسا (وموافقة روسيا القيصريّة) على اقتسامِ الهلال الخصيب فيما بينهما بعد انتصارهِما في الحربِ العالميةِ الأولى على تركيا العثمانية، فَوعدُ بلفور البريطانيّ (1917) بإقامة “وطن قوميّ لليهود” في فلسطين ومعاهداتُ سان ريمو (1920) وسيفر (1920) ولوزان (1923) الّتي استهدفتْ وحدةَ سورية الطّبيعيّة وقطعَ دورةِ حياةِ السّوريّين الاقتصاديّةِ الاجتماعيّة.

إنّ هذه الويلاتِ المتتابعةَ الّتي لحِقتْ بسورية، أصابتْها في الصّميم فضاعتْ هُويّةُ الأمّة وفقدتْ ثقتَها بنفسِها وظنّ كثيرون أنّ لا وجودَ لسورية مستقلّة، ولا للسوريّين ما لم يكونوا تابعينَ لدولة أخرى تُسيطر عليهم وتديرُ شؤونَهم.

وإذا أمْعَنَّا النّظرَ فإنّنا لا نجافي الحقيقةَ إذا قلنا أنَّ اتفاقيةَ سايكس – بيكو البريطانيّة الفرنسيّة هي من أخطر المحطّاتِ في تاريخ سورية الطّبيعيّة لأنَّها كرّستْ التّقسيمَ وجَعلتْ من كياناتِ الهلالِ الخصيب المنفصلةِ (وأحيانًا المتخاصِمة) واقعًا ونظامًا مهيمنًا على حياة السّوريّين أدّى إلى مزيد من التّفتُّت والضّعف، ما ساعدَ لاحقًا على تحقيقِ وَعْدِ بلفور بإنشاءِ دولةٍ لليهودِ في فلسطين (1948) على حسابِ الحقّ القوميّ وما استتْبعَهُ من كوارث. على سبيل المثال:

خسارةُ الشّمال السّوريّ للعدوِّ التّركيّ.

إجتياحُ لبنان مِن قِبلِ كيانِ العدوّ الإسرائيليّ.

إخراجُ الأردن مِن معادلةِ الصِّراعِ معَ العدوّ اليهوديّ بعد توقيعِ معاهدةِ استسلام معه.

الاحتلالُ الأمريكيّ للعراق وتدميرُه.

الدّمارُ الّذي حلَّ بالشّام بفِعل ما يسمّى”الرّبيع العربي”.

إنَّ أيَّ أمَّةٍ في العالم تجدُ نفسَها أوّلًا في وحدة أرضيّة تجري فيها حياتُها وعواملُ ارتقائِها في دورةٍ اقتصاديّةٍ اجتماعيّةٍ واحدة، وقد كانتْ سورية الطّبيعيّة موحّدةً حتّى تحت الاحتلال العثمانيّ وقد وعى السّوريّون وحدتهم هذه وهو ما تمَّ تأكيدُه في المؤتمر السّوريّ العام (8 آذار 1920) الّذي عُقدَ في دمشق حيث ُطالَبَ المؤتمرونَ بالحفاظ على وحدةِ سورية الطّبيعيّة في دولةٍ مستقلّة.

وإذا كانتِ المناداةُ بوحدةِ سورية الطّبيعيّة واستقلالِها في تلكَ الحقبةِ قائمةً على لغةٍ عاطفيّةٍ إلّا أنَّها تَعكِسُ الرّغبةَ في الخروجِ من دائرةِ الانفعال المغلقة الّتي بَدتْ كَحُكمٍ تاريخيّ لا يقبلُ النّقضَ إلى رِحابِ الفعلِ ونقْضِ حُكمِ التّاريخ والتّأثيرِ في مجرياتِه، وقد أدركَ السّوريّون في معظمِهم أنَّ نَيلَ الحرّيّةَ هو شرط ٌلهذا الفعلِ والتّأثيرِ ومِنْ هنا بدأتْ معركتُهم الكُبرى.

قابَلتْ بريطانيا وفرنسا رغبةَ السّوريّين ومطالبَهم بالرّفضِ وذهبتا لتنفيذِ اتفاقيةِ سايكس – بيكو باقتسام البلادِ السّوريّة والنّفوذِ عليها.

في الشّكلِ العامّ كان العراقُ والأردنُ وفلسطينُ حِصّةَ بريطانيا أما الشّام (الجمهوريّة العربيّة السّوريّة) ولبنان فَحِصّة فرنسا.

في تمّوز 1920 دخلتْ القواتُ الفرنسيّة بقيادةِ الجنرالِ الفرنسيّ هنري غورو الشّامَ بعدَ معركةٍ غيرِ متكافئةٍ مع السّوريّين بقيادةِ وزيرِ الدّفاع البطلِ يوسف العظمة الّذي استُشْهِدَ مع كثيرين على أرضِ ميسلونَ في غرب دمشق.

أَسَّستْ معركةُ ميسلون ووِقفةُ العزِّ الّتي سَجَّلها يوسفُ العظمة ورفقاؤه لِمَعركةِ استقلالٍ جديدةٍ في وجه المُسْتَعمِرِ الفرنسيّ فلم يشعرِ الفرنسيّون بالاستقرارِ يومًا واحدًا على الرّغمِ من سياساتِهم الّتي تنوّعتْ من الإبادة والقتل إلى النّعومةِ الخبيثة.

(كان معروفًا عن الجنرال غورو أنّه مِن أنصارِ النّظريّة العسكريّة الفرنسيّة “الهجوم حتّى الإبادة”).

تنوّعتْ نضالاتُ السّوريّين في الشّام على الجبهاتِ العسكريةِّ والسّياسيّةِ والثّقافيّةِ والاجتماعيّة كافّةِ حتّى تَحقَّقَ لهم طردُ فرنسا وجلاءُ آخرِ جنديّ فرنسيّ عن أرضِنا في 17 نيسان 1946.

بعدَ خروجِ الفرنسيّين انطلقَ السّوريّون في الشّام إلى معركةٍ جديدةٍ وهي بناءُ دولتِهم المستقِلّة، وقد كانتْ هذه المعركةُ طويلةً مرَّ السّوريّون فيها باختباراتٍ قاسيةٍ، لم تكنْ المعركةُ مِنْ أجْلِ فلسطين (1948) إلّا واحدةً منها.

بعدَ عقودٍ استطاعَ السّوريّونَ في الشّام إرساءَ قواعدِ دولةٍ مستقرّةٍ تلمَّسَتْ طريقَ مصالحِها بين دولِ العالم حتّى أصبحتْ دولة ذاتَ شأنٍ في السّياسةِ الدّوليّة. ومِنَ المؤكَّدِ أنَّ شعبًا يَسكنُه هاجسُ الوحدةِ القوميّة واستعادةُ فلسطينَ مِنْ براثِنِ الكيانِ اليهوديِّ ولديهِ دولةٌ قويةٌ تمتلكُ جيشًا بعقيدةٍ قوميّة، هذا الشّعبُ يُشكِّلُ خطرًا وجوديًّا على المشروعِ اليهوديّ. لذلك تمَّ استهدافُ سورية مِنْ خلالِ ما سُمِّيَ “ثورةُ الرّبيعِ العربيّ” في عامِ 2011.

عادتْ سورية الشّام مرّةً أُخْرى لتخوضَ معركةَ مصيرِها واستقلالِها وسيادتِها على كاملِ أراضيها. لم تَكُنِ الحربُ الّتي خاضَها السّوريّون سهلةً في مواجهةِ قطعانِ الإرهابيّين المدعومين مِنْ أكثر مِنْ ثمانين دولة بعضُهم دول عربيّة، لكنْ كما كانَ القرارُ بمُواجهةِ الاحتلالِ الفرنسيِّ حاسمًا في عام 1920، كذلكَ هو قرارُ السّوريّين في مواجهةِ حربِ “الرّبيعِ العربيّ” الّتي وإنْ سجَّلَ فيها السّوريّون انتصاراتٍ عظيمةً لكنَّها في كثيرٍ من الأحيانِ أَعادتْ إلى السّجَالِات الاسئلة الأولى حولَ الهُويّةِ ومَنْ نحن، ومفهومِ الاستقلال. وإن كانتِ الأسئلةُ حولَ الهُويّة قابلة للأخذِ والردّ والحوارِ العقلانيّ أو السِّجالِ العاطفيّ، إلّا أنَّ أخطرَ ما طفا على سطْحِ هذه الحربِ الوجوديّةِ هو اتجاهان نفسيّان وفكريّان يجبُ أن يخضَعا للبحثِ الدّقيق:

الاتجاهُ الأوّل يطالبُ بتقليدِ الأممِ والشّعوبِ الأخرى تقليدًا أعمى وتَبنّي منظومةِ قِيمِها في نظرتِها للحياةِ وللمجتمع والحرّيّة ِوالثّقافةِ والدّيمقراطيّة وغيرِها.

الاتجاهُ الثّاني يرى أنَّ السّوريّين غيرُ قادرينَ ولا قابِلينَ أنْ يكونوا مستقِلِّينَ بدولةٍ ذاتِ سيادةٍ وطَفقوا ينادونَ بالعودةِ إلى أيّامِ الاحتلالِ التّركيِّ أو الفرنسيّ، وذهبَ بعضُهُم لِتَدبيجِ قصائدِ ومقالاتِ المديحِ لهذا الاحتلالِ أو ذاك.

فهل يُمكِنُ الحديثُ عنِ استقلالٍ تامّ في ظِلّ التّبعيّةِ الفكريّةِ والنّفسيّة؟

يقول أنطون سعاده: “إذا لم تقوَ النّفسُ السوريّةُ وتُنَزَّهُ عن العواملِ الخارجيّةِ وسيطرةِ النّفسيّاتِ الغريبةِ فإنَّ سورية تبقى فاقدة عنصرَ الاستقلالِ الحقيقيِّ، فاقدة المُثلَ العليا لحياتِها”… (شرْحُ المبدأ الأساسيّ السّابع للحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ).

إذْ يحتفل السّوريّونَ اليومَ بِعيدِ الجلاء – جلاءِ آخرِ جنديٍّ للاحتلالِ الفرنسيّ عن الأراضي السّوريّة، فإنَّهم يؤكّدون أنَّهم بِغيرِ النّصرِ لا يَقبلونَ، وأنّهم سيجعلونَ من السّابعِ عشرَ مِن نيسانَ وِقفةَ توثُّبٍ واستعدادٍ للمعركةِ الكبرى معركةِ تحقيقِ الاستقلالِ التّامّ.

*العضو في المجلس الأعلى في الحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى