مناقب سعاده… مناقبنا!
الأمين أحمد أصفهاني
في تشرين الأول سنة 1992، نشر الصحافيّ حازم صاغية سلسلة من خمسة مقالات ضمّنها جزءاً من سيرة الصحافيّ الراحل جبران الحايك.كانت الحلقة الخامسة والأخيرة بعنوان “القوميون، أنطون سعاده“، نظراً إلى أنّ الحايك انتمى إلى الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ مطلع سنة 1949. أمّا صاغية الذي مرّ في صفوف الحزب خلال إحدى المراحل، فقد تحوّل لاحقاً إلى العدوانيّة المطلقة للحزب ولسعاده.
ما يهمّنا في هذه المناسبة، وهذا ما عرفته بحكم عملي في جريدة “الحياة“ التي نشرت السّلسلة، أنّ صاغية ألحّ مراراً على الحايك بسؤال يهدف إلى “تأكيد” أنّ سعاده كان “فظّاً وعنيداً وبذيئاً”! غير أنّ الجواب الذي أعطاه الحايك كان بمثابة صفعة مدوّية في وجه السؤال المُغرِض وسائِلِه المُنحاز. فقد قال ردّاً على إلحاح صاغية: ” كان (سعاده) متواضعاً وبسيطاً في تصّرفاته العاديّة، أمّا في الحالات العامّة والاستعراضيّة، فيتحوّل إلى قائد تلمع عيناه. ولاحقاً سمعت عن عنفه حيال خصومه، وإن بقي هذا العنف في حدود الأدب. فقد ذُكر أنّه قال ليوسف الخال وغسان تويني وفايز صايغ ويوسف نويهض ممّن ساجلوه في حريّة الفكر “تقبروا الفكر”. وكان هذا من أقصى ما نُقل لي عن بذاءته”.
وقبل سنوات من هذه الحادثة، أي بعد فترة من انكشاف أمر الحزب في الثلاثينات، قيل لسعاده إنّ رئيس منظمة “الكتائب” يهدّد بكسر رأسه… فكان تعليقه المباشر: “أمّا أنا فأريد سلامة رأسه”.
وعندما وقف ليل الثامن من تموز سنة 1949 في إحدى غرف سجن الرمل، وهو في طريقه إلى ساحة الإعدام، طلب ورقة وقلماً فرفض السجّانون. قال إنّ له كلمة يدوّنها للتاريخ، فصرخ أحد الضباط: “حذار أن تتهجّم على أحدٍ لئلّا نمسّ كرامتك. “فتبسّم الزعيم من جديد وقال: أنت لا تقدر أن تمسّ كرامتي، ما أُعطي لأحدٍ أن يُهين سواه. قد يُهين المرء نفسه”!
هذه هي مناقب سعاده. هي نفسها في أوقات الهدوء وفي أوقات الشِّدّة. مع الأصدقاء ومع الأخصام. في المسائل الحياتيّة وفي المسائل الحزبية.
هذه هي مناقب سعاده… هذه هي مناقبنا!
إذن، مِن أين تسلّلت إلى نفوس بعض الحزبيّين تلك القسوة الجارحة في لغة التخاطب وطريقة التعامل؟ ومِن أين جاءت عبارات البذاءة والحقد والكراهية العمياء حتى بين “الرفقاء” أنفسهم (بل وبين بعض المسؤولين أيضاً)؟ وكيف سمحنا بتغلغل ممارسات “البعثنة” و”المركسة” و”العربنة” إلى صفوفنا “البديعة النظام”؟
كنتُ، وما زلتُ، أرفضُ أن يكون ليَ حسابات على “وسائط الاتصال الاجتماعي”. لكن ما أطّلعُ عليه من تفاصيل “السِّجالات” و”المهاترات” بين عددٍ من القومييّن ممّا يُنشر على تلك الوسائط يُصيبني بالقرف والغثيان… ليس فقط للهجة الانحطاط المُستخدمة في تلك “الرندحات”، بل لأنّها صادرة عن “قوميّين” من المفترض أنّهم يحملون أسمى القِيم المناقبيّة التي زرعتها العقيدة القوميّة الاجتماعيّة في نفوسنا.
يقول رفيق متخصّص في علم النفس الاجتماعيّ، إنّ العنف اللفظيّ أو العنف الجسديّ غالباً ما يكون نتيجة للإحباط الذي يعانيه الواحد منّا، من دون أن يكون ظاهراً في مراحله الأولى. ولا شكّ في أنّنا جميعاً نواجه يوميّاً الكثير من عوامل الإحباط على مستويات عدّة حزبيّة واجتماعيّة وقوميّة. لكن هل يبرّر هذا الإحباط تدنّي مستوى التخاطب بين بعض القوميّين، بحيث يكاد يصل في أحيان كثيرة إلى مستوى التكفير أو التخوين؟ وإذا ما سمحنا لأنفسنا بالإنحدار إلى هذا الدرك الأسفل، فما الفارق بيننا وبين الجماعات التكفيريّة المنتشرة في أمّتنا والعالم العربيّ؟
هل يظنّ هؤلاء أنّ سعاده لم يكن يشعر بالإحباط عندما عاد إلى الوطن سنة 1947 ليواجه موجات الانحراف الفكريّ والنظاميّ والسياسيّ والمناقبيّ، وليُفاجَأ بأنّ أبرز القيادات الحزبيّة منخرطة أو متورّطة في ذلك الانحراف؟
طبعاً كان مُحبطاً…
لكن ميزة الزعامة أنّها تحوّل الضعف قوة، والإحباط أملاً، والتقاعس إنجازاً. لذلك كانت الفترة بين أول آذار سنة 1947 و8 تموز سنة 1949، على الرغم من أحداثها الأمنيّة العاصفة، الأغزر إنتاجاً وإبداعاً وعطاءً في تاريخ الحزب. فبورك الإحباط الذي يحفّز على العمل، ويفولذ الإرادة، ويتطلّع إلى قمم أعلى وأسمى.
نحن لا نسيطر على آليّة تمنع أيّ إنسان من توزيع بذاءاته وسمومه عبر “وسائط الاتصال الاجتماعي”. ويحدث في بعض الأحيان أن يتسلّل أعداء مستترون للحركة القوميّة الاجتماعيّة لزرع الشقاق بين القوميين. غير أنّنا قادرون على وقف انتشار هذه البذاءات والسموم بحذفها وعدم توزيعها وحرمانها “شرف” الردّ أو التعليق عليها!
العنف اللفظيّ يؤسّس للعنف الجسديّ ويبرّره، ولا شك في أنّ بعض المستفيدين يستخدمون هذه الأداة المنحطّة لتعزيز مواقعهم الداخلية، فهم يعتاشون على “القيل والقال”، ويمتهنون بثّ الإشاعات كجزء من تكتيكات التسلّط على مقدرات الأمور… وهنا مكمن الخطر الكبير، وهنا وجوب الحذر الشديد!
مناقب سعاده… مناقبنا!
الأمين أحمد أصفهاني
في تشرين الأول سنة 1992، نشر الصحافيّ حازم صاغيةسلسلة من خمسة مقالات ضمّنها جزءاً من سيرة الصحافيّ الراحل جبران الحايك.كانت الحلقة الخامسة والأخيرة بعنوان “القوميون، أنطون سعاده“، نظراً إلى أنّ الحايك انتمى إلى الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ مطلع سنة 1949. أمّا صاغية الذي مرّ في صفوف الحزب خلال إحدى المراحل، فقد تحوّل لاحقاً إلى العدوانيّة المطلقة للحزب ولسعاده.
ما يهمّنا في هذه المناسبة، وهذا ما عرفته بحكم عملي في جريدة “الحياة“ التي نشرت السّلسلة، أنّ صاغية ألحّ مراراً على الحايك بسؤال يهدف إلى “تأكيد” أنّ سعاده كان “فظّاً وعنيداً وبذيئاً”! غير أنّ الجواب الذي أعطاه الحايك كان بمثابة صفعة مدوّية في وجه السؤال المُغرِض وسائِلِه المُنحاز. فقد قال ردّاً على إلحاح صاغية: ” كان (سعاده) متواضعاً وبسيطاً في تصّرفاته العاديّة، أمّا في الحالات العامّة والاستعراضيّة، فيتحوّل إلى قائد تلمع عيناه. ولاحقاً سمعت عن عنفه حيال خصومه، وإن بقي هذا العنف في حدود الأدب. فقد ذُكر أنّه قال ليوسف الخال وغسان تويني وفايز صايغ ويوسف نويهض ممّن ساجلوه في حريّة الفكر “تقبروا الفكر”. وكان هذا من أقصى ما نُقل لي عن بذاءته”.
وقبل سنوات من هذه الحادثة، أي بعد فترة من انكشاف أمر الحزب في الثلاثينات، قيل لسعاده إنّ رئيس منظمة “الكتائب” يهدّد بكسر رأسه… فكان تعليقه المباشر: “أمّا أنا فأريد سلامة رأسه”.
وعندما وقف ليل الثامن من تموز سنة 1949 في إحدى غرف سجن الرمل، وهو في طريقه إلى ساحة الإعدام، طلب ورقة وقلماً فرفض السجّانون. قال إنّ له كلمة يدوّنها للتاريخ، فصرخ أحد الضباط: “حذار أن تتهجّم على أحدٍ لئلّا نمسّ كرامتك. “فتبسّم الزعيم من جديد وقال: أنت لا تقدر أن تمسّ كرامتي، ما أُعطي لأحدٍ أن يُهين سواه. قد يُهين المرء نفسه”!
هذه هي مناقب سعاده. هي نفسها في أوقات الهدوء وفي أوقات الشِّدّة. مع الأصدقاء ومع الأخصام. في المسائل الحياتيّة وفي المسائل الحزبية.
هذه هي مناقب سعاده… هذه هي مناقبنا!
إذن، مِن أين تسلّلت إلى نفوس بعض الحزبيّين تلك القسوة الجارحة في لغة التخاطب وطريقة التعامل؟ ومِن أين جاءت عبارات البذاءة والحقد والكراهية العمياء حتى بين “الرفقاء” أنفسهم (بل وبين بعض المسؤولين أيضاً)؟ وكيف سمحنا بتغلغل ممارسات “البعثنة” و”المركسة” و”العربنة” إلى صفوفنا “البديعة النظام”؟
كنتُ، وما زلتُ، أرفضُ أن يكون ليَ حسابات على “وسائط الاتصال الاجتماعي”. لكن ما أطّلعُ عليه من تفاصيل “السِّجالات” و”المهاترات” بين عددٍ من القومييّن ممّا يُنشر على تلك الوسائط يُصيبني بالقرف والغثيان… ليس فقط للهجة الانحطاط المُستخدمة في تلك “الرندحات”، بل لأنّها صادرة عن “قوميّين” من المفترض أنّهم يحملون أسمى القِيم المناقبيّة التي زرعتها العقيدة القوميّة الاجتماعيّة في نفوسنا.
يقول رفيق متخصّص في علم النفس الاجتماعيّ، إنّ العنف اللفظيّ أو العنف الجسديّ غالباً ما يكون نتيجة للإحباط الذي يعانيه الواحد منّا، من دون أن يكون ظاهراً في مراحله الأولى. ولا شكّ في أنّنا جميعاً نواجه يوميّاً الكثير من عوامل الإحباط على مستويات عدّة حزبيّة واجتماعيّة وقوميّة. لكن هل يبرّر هذا الإحباط تدنّي مستوى التخاطب بين بعض القوميّين، بحيث يكاد يصل في أحيان كثيرة إلى مستوى التكفير أو التخوين؟ وإذا ما سمحنا لأنفسنا بالإنحدار إلى هذا الدرك الأسفل، فما الفارق بيننا وبين الجماعات التكفيريّة المنتشرة في أمّتنا والعالم العربيّ؟
هل يظنّ هؤلاء أنّ سعاده لم يكن يشعر بالإحباط عندما عاد إلى الوطن سنة 1947 ليواجه موجات الانحراف الفكريّ والنظاميّ والسياسيّ والمناقبيّ، وليُفاجَأ بأنّ أبرز القيادات الحزبيّة منخرطة أو متورّطة في ذلك الانحراف؟
طبعاً كان مُحبطاً…
لكن ميزة الزعامة أنّها تحوّل الضعف قوة، والإحباط أملاً، والتقاعس إنجازاً. لذلك كانت الفترة بين أول آذار سنة 1947 و8 تموز سنة 1949، على الرغم من أحداثها الأمنيّة العاصفة، الأغزر إنتاجاً وإبداعاً وعطاءً في تاريخ الحزب. فبورك الإحباط الذي يحفّز على العمل، ويفولذ الإرادة، ويتطلّع إلى قمم أعلى وأسمى.
نحن لا نسيطر على آليّة تمنع أيّ إنسان من توزيع بذاءاته وسمومه عبر “وسائط الاتصال الاجتماعي”. ويحدث في بعض الأحيان أن يتسلّل أعداء مستترون للحركة القوميّة الاجتماعيّة لزرع الشقاق بين القوميين. غير أنّنا قادرون على وقف انتشار هذه البذاءات والسموم بحذفها وعدم توزيعها وحرمانها “شرف” الردّ أو التعليق عليها!
العنف اللفظيّ يؤسّس للعنف الجسديّ ويبرّره، ولا شك في أنّ بعض المستفيدين يستخدمون هذه الأداة المنحطّة لتعزيز مواقعهم الداخلية، فهم يعتاشون على “القيل والقال”، ويمتهنون بثّ الإشاعات كجزء من تكتيكات التسلّط على مقدرات الأمور… وهنا مكمن الخطر الكبير، وهنا وجوب الحذر الشديد!