نصوص الإسلام كدولة
ابتدأ الطور الثاني، الأخير للدعوة الإسلامية، بهجرة محمد والصحابة (المهاجرين) إلى المدينة. وأول سورة نزلت بعد الهجرة أعطت الإسلام اتجاهه الجديد الذي أوجد المذهب العربي في الحياة المثلى، مستخرجاً من حياة العرب وحاجاتها، وهي سورة البقرة [رقم 2].
أول سورة البقرة عوْدُ على بدء الدعوة، ففيه تكرار التبشير والإنذار والوعد والوعيد: {يا أيا الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون. الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون}1… {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون}2. هذه الآيات مثلٌ من أول سورة البقرة ويأتي بعده إثبات ذكر خلق آدم وإسكانه الجنة مع زوجه ثم سقوطهما من الجنة. فيكون هذا الذكر تمهيداً للعامل السياسي الذي يظهر حالاً، بمخاطبة يهود العرب الذين منهم عدد كبير في المدينة: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإياي فارهبون. وآمنوا بما أنزلت مصدّقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وأياي فاتّقون}3.
وتتابع السورة مخاطبة بني إسرائيل، مذكّرةً إياهم بفضل الله عليهم وتنجيتهم من آل فرعون وإخراجهم من مصر وتنزيل «الكتاب والفرقان» على موسى، وكيف اعتنى الله بهم في التّيه، وظللهم بالغمام وأنزل عليهم المنّ والسلوى، كما هو مذكور كله في التوراة. ثم كيف كفروا وعبدوا العجل، وعاد الله فتاب عليهم، وأشياء غير ذلك من قصص اليهود، ثم تقطع، السوَر هذه القصص لتضع هذه الآية: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}1. فيستأنف القصص بعدها، ثم تذكر السورة جهل العرب اليهود الأُميين بالدين: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ وإن هم إلا يظنون}2 وهذا يصدق على العرب المسيحيين والمسلمين أيضاً، كما ورد بعد في سورة التوبة وأثبتناه في حلقة سابقة. وتأتي آية أخرى تنذر الذين استغلوا أمية المؤمنين بالتوراة ورووا الكتاب على هواهم: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون}3. وفي استمرار معالجة حال اليهود تأتي هذه الآيات: {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفّينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون. وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون. ولمّا جاءهم كتاب من عند الله مصدّق لما معهم وكانوا من قبل يستتفحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}4. وهذه الآيات تطلب من اليهود أن لا يجحدوا رسالة محمد وتحاجّهم بأغلاطهم السابقة ضد المسيح وتحذرهم من عاقبة رفض الإيمان بالقرآن، وتتابع السورة مجادلة «أهل الكتاب» في صحة الدعوة المحمدية ووجوب الإيمان بها وأنه ليس صحيحاً أن الإيمان يختص باليهودية أو بالنصرانية، فتتخلص من هذه المجادلة إلى هذه النتيجة: «قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم}5 وهي نتيجة كلية تجعل كل إيمان بالله حقاً فلا يكون الدين وقفاً على مذهب دون مذهب، وهي نظرة صائبة إذا أضيف إليها ما ورد في سورة المائدة وأثبتناه في الحلقة السابقة {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً… إلى الله مرجعكم جميعاً}6 فالنتيجة الفكرية كاملة تامة لا يرفضها إلا المتعنتون من مسلمين ومسيحيين وغيرهم. ولكن، بكل أسف نقول، أن كثيراً من المجتهدين والمفسرين المسلمين ومسيحيين وغيرهم. ولكن، بكل أسف نقول، إن كثيراً من المجتهدين والمفسرين المسلمين لا يؤدون واجب الأمانة لهذه النتيجة التي ينص عليها دينهم فيلجأون إلى نصوص أخرى مناقضة لها مناقضة ظرفية ليبطلوا حقيقتها.
ثم تأتي في هذه السورة مسألة تغيير القِبلة، إذ كان محمد يتجه في صلاته إلى أورشليم، فلما وجد إعراض اليهود عن دعوته ورفضهم ورفض المسيحيين الإقرار باستقلال دعوته وصحة نبوته، كما تدل عليه الآية: {وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين}1 عدل عن قِبل أورشليم وجعل مكة قِبلته الجديدة. واستنزل في ذلك الآيات وفيه عامل سياسي كبير من استرضاء قريش، سادني الكعبة، كما فيه اتجاه لتوسيع الاستقلال عن اليهود وجعل الإسلام المحمدي ملّة منفصلة عن ملّتي اليهودية والمسيحية. وبعد تخلّص من هذه الفكرة الجديدة تنتقل السورة إلى التمهيد للاتجاه الجديد، الذي هو اتجاه الحزبية الدينية ضد حزبية قريش الوثنية. وأول آية في هذا الباب قوله: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون}2 ثم يتلو هذه الآية إعداد النفوس للحرب: {ولنبلونّكم بشي من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}3. ثم يجي التمهيد للشرع بقوله: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتَّبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين}4 وكانت «خطوات الشيطان» شيئاً غير واضح فجاءت أي أخرى: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}5. ومع ذلك بقي الشر غير واضح فلا علم بما هو السوء أو الفحشاء، إلا أن يكون الكفر بالله فقط، كما بيّنا سابقاً. ولكن الأمر لا يطول حتى يأتي التشريع. والسورة تدخل فيه هكذا: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون. إنما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ به لغير الله فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم}6 فكان ذلك أول الشرع الضابط للتصرف. وهو ليس شديداً، إذ فيه صمام يزيل الضغط الشديد في مسألة المآكل وهو قوله: {فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه}7. ويقف التشريع في آية التحريم المذكور، فتنتقل السورة إلى إنذار الذين {يكتمون ما أنزل الله من الكتاب}8. فتأتي أي تشبه التعليم المسيحي والوصايا الموسوية: {ليس البِرَّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى والزكاة والموفّون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}1. فلا تنتهي هذه الآية حتى يعود التشريع على خطط التوراة: {يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى الحُرُّ بالحر والعبد بالعبد}2، ثم تأتي آية تشريع في حقوق التملك: {كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين}3. وهذا التشريع ناقص كثيراً فتتركه السورة عند نقصه لتتناول أمراً آخر هو فريضة الصيام: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}4، وبعد آيات تبين كيفية الصيام ومواقيته وجعل الأهِلّة مقياس الوقت والحساب، تنتقل السورة إلى إعلان الحرب والتحريض على القتال والأمر به بصورة واضحة: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}5 وتقفو هذه الآية آيات في كيفية القتال سندرسها مع هذه فيما يلي:
بعد التحريض على القتال تعود السورة إلى الشرع فتبيّن واجبات المؤمن من حج وعمرة وشروط ذلك، ثم يأتي وعد ووعيد وتهويل وغير ذلك، ثم تأتي عودة إلى القتال وتوكيده: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}6 فجعل القتال فريضة شرعاً، ثم بعد فرض القتال عودة إلى الشرع المدني فيحرم الخمر والميسر تحريماً غير قاطع. ثم يأتي أول تشريع في الزواج وأحواله: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ ولأَمَة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة…}7 وتتلو ذلك آيات المعاملات والعقود في الزواج والطلاق وقد أثبتنا بعضها في حلقة سابقة (الحلقة 15) ثم عودة إلى التحريض على القتال وضرب أمثاله ببني إسرائيل: {ألم ترَ إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عَسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين}8 وتعقبها حكاية تمليك شاول وقتال داود وجليات ليقوى إيمان المسلمين بأن الله لا يتخلى عن أتباعه ولجعل قاعدة عامة تبرر القتال إذ قد سبق وقام به اليهود.
ولكي لا يكون المثل موجباً للتشبه باليهود جاء القول: {تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض منهم من كلّم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البيّنات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد}1 وهو مستند لما سيجيء من تفضيل الإسلام الخاص بمحمد على غيره.
تأتي بعد ما تقدم وصايا، ثم الآية: {لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}2. ثم يأتي توكيد البعث مسنوداً إلى مثل من إبراهيم، وبعدها يأتي حث على الخير ووصايا في أشكال قريبة من الوجه العملي. ثم تشريع في تحليل البيع وتحريم الربا. ويتعاقب الحث والتشريع في المعاملات والعقود وشروطها. وتختم السورة بقوله: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}3 وآية أخرى في طلب رحمة الله .
هذا هو بدء العهد المدني وفيه أساسه وغرض اتجاهه الجديد. وهذا الاتجاه هو: استخراج النظرة العربية (الصحراوية) إلى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والروحية وهي النظرة التي عرفناها في الحلقة السابقة. ففي هذا العهد ابتدأ تعيين ما هو خير وما هو شر، وإلى جانب إيجاد هذه النظرة أوجدت العصبية الدينية ضد اللادينيين أو اللاإلهيين.
(ضاق نطاق هذا العدد من استيعاب كل مواد هذه الحلقة فنأتي على بقيتها في العدد القادم).
هاني بعل
للبحث استئناف
(الزوبعة)، بوينُس آيرس
العدد (34)، 15/12/1941