الثورة البرازيلية: كيف اضطرمت الأوروبي البرازيل وكيف أخمدت في الأيام الأخيرة؟

أخيراً برزت الثورة البرازيلية بالطريقة القانونية لتبرير جميع الثورات والحروب ــــ أعني بالانتصار. فالانتصار كان ولا يزال وسيظل الحجة الوحيدة التي لا تُردّ في جميع الأعمال المسلحة، كما أنّ الفشل يعتبر الحجة الكبرى لتجريم الأعمال المذكورة. بناءً عليه، لا أكون مخطئاً إذا قلت، إنّ جريمة ألمانية الكبرى في الحرب العالمية هي انتهاء حملتها الحربية البديعة بالفشل. والقاعدة القياسية في هذه الأحوال هي: أنّ مجرَّد النصر حق، ومجرَّد الفشل باطل.

بيد أنّ تبرير الثورة البرازيلية لا يقتصر على مجرَّد النصر، بل يتناول الفكرة المبدئية التي نشبت من أجلها وجميع الأطوار التي مرَّت بها. وأما الفكرة المبدئية فقد شرحتها بالأمانة التي تقتضيها الصحافة والتاريخ، في مقالي السابق عن الثورة البرازيلية، الذي جاءت النتائج مصادقة على جميع ما ورد فيه مما وضعته في صيغة تقديرية كان حقيقة واقعة. وأما الأطوار التي مرَّت الثورة البرازيلية بها فسآتي على أهمها فيما يلي، مستنداً إلى ما وردني من الأخبار الخاصة والصحف البرازيلية نفسها.

وقبل أن أبدأ بذلك أريد أن آتي على ملاحظة مهمة تتعلق بدرس مهم لا يحسن إلقاء الكلام فيه على عواهنه، والملاحظة المذكورة هي أنّ الثورات والحروب الأهلية إجمالاً لم تختص بنوع من أنواع الحكم، دون سواه، حتى يصبح اتخذاها دليلاً على فساد المبادىء القائم عليها ذلك النوع من الحكم. فالثورات أعراض خطيرة يجب درسها بدقة لتشخيص الأمراض التي تدل عليها، ولكل ثورة عللها الخاصة، وليس من يتخذ الثورات قواعد للمفاضلة بين نوع من الحكم ونوع آخر إلا كمن يتخذ الهواء قاعدة للمفاضلة بين النار والماء. أجل، إنه لا يمكن بوجه من الوجوه اتخاذ الثورة البرازيلية قاعدة للمفاضلة بين المبادىء الديموقراطية والمبادىء الأرستوقراطية، مثلاً أو بين نوع الحكم الملكي.

أطوار الثورة البرازيلية:
ابتدأت الثورة أولاً في ولاية ميناس جرايس، وما كادت الحكومة تنتبه إليها وتبدأ باتخاذ الاحتياطات اللازمة لمقاومتها حتى وردت الأنباء باضطرام نارها في ولاية ريو غراندي دو سول، ثم أخذت الأنباء تتوارد باندلاع لهيبها في ولاية بارهيبا وولايات أخرى. حدث كل ذلك، بصورة فجائية، لم يتمكن معها سكان الولايات البعيدة منها من معرفة شيء راهن عن خطورة ما هو جار في البلاد، ولكن معظم الشعب البرازيلي كان يتمنى أن تنجح الثورة. أما الحكومة «الماضية» فقد صممت على أن لا تتخلى عن مركزها إلا بعد أن تطلق آخر رصاصة وتشبثت بالجيش الموالي لها تشبث غريق بخشبة طافية، ولكن العملية التي لجأت إليها لتقوية الجيش بمناداة الصفوف الاحتياطية كانت عملية عقيمة، لأن النشء الذي تتألف منه الصفوف المذكورة كان مشبعاً بروح المقت لتلك الحكومة.

وتقول الأخبار الأخيرة وتنشر الصحف البرازيلية صوراً تدل على مبلغ ترحاب الشعب بالثوار في كل مكان بلغوه، فكان جيش الثورة ينمو ويتقدم، بينما جيش الحكومة يعتمد على الذخيرة والتحصين. وفي مثل هذه الحال، كان فوز الثورة مرجحاً في كل الظروف ومؤكداً في الأخير، ولكن كان على الثوار أن يقابلوا برجالهم وذخائرهم الناقصة بنادق جيش الحكومة المتحصن ومدافعه المتنوعة العديدة، الأمر الذي حمل أحد قواد الثورة على التصريح بأنه لو حدثت المعركة الفاصلة للاستيلاء على ولاية سان باولو عنوة لكانت تصادماً هائلاً بين القوة البشرية وقوة المادة.

وقد أدلى رئيس الثورة البرازيلية الدكتور جتوليو فرغس، الذي أصبح الآن رئيس الجمهورية البرازيلية، بتصريح خطير عن أسباب الثورة وتطورها، إلى شركة الصحافة المتحدة الأميركةنية وزعته الشركة المذكورة على الصحف التي تراسلها، فجاء تصريحه مؤيداً كل التأييد لتقديري أسباب الثورة في مقالي السابق. وإليك أهم ما جاء فيه، فهو أولى مني بالتكلم عن العمل العظيم الذي أداره. قال:
«… أما فيما يتعلق بأسباب الثورة فأكثره موضح في بياني الذي أذعته في الرابع من شهر أكتوبر/تشرين الأول الذي هو اليوم الثاني لإعلان الثورة.

«إنّ تداخل السيد رئيس الجمهورية المباشر في الانتخابات الأخيرة، حاشداً جميع الموارد القومية لتأييد المرشح الذي يفضله هو، موجهاً الضغط العسكري على ولاية ميناس جرايس، التي هي أعظم الولايات الانتخابية والتي اعتنقت ترشيحي بواسطة أشخاصها الأكثر تمثيلاً لإرادتها، ثم موقف الرئيس الأعلى للبلاد الذي تلا الانتخابات، تارة يأمر مجلس الأمة بخذل معظم نواب ولاية ميناس جرايس، وطوراً يحذف من بين ممثلي ولاية بارهيبا، كل المرشحين المنتخبين بدون معارضة ليعطي كراسيهم في مجلس النواب ومجلس الشيوخ إلى سياسيين من حزبه، وحيناً لا يسمح بفحص نتيجة الانتخابات لرئاسة الجمهورية ونيابة رئاستها والتناقش فيها، وآناً أخيراً مبشراً ومحرضاً على الاضطراب في ولاية بارهيبا بمعاونة حكّام الولايات المجاورة، ذلك الاضطراب الذي انتهى بقتل رئيسها البرازيلي العظيم، الدكتور جولن بشوا، واضعاً الاحتلال العسكري على الولاية المذكورة بواسطة انسلال الجنود إليها، مريداً بذلك تعطيل السلطة المحلية بالتدريج النظامي ــــ كل هذه الأعمال التي لا تتفق مع وظائف السلطة التنفيذية الاتحادية في نظامنا الدستوري، جعلت رئيس الجمهورية الذي نسي مسؤوليات انتدابه، خارجاً منذ ذلك الوقت على القانون، مهتماً بمقتضيات السياسة الشخصية فقط، التي أضرت المصالح القومية الكبرى لخدمة المصالح الخصوصية المفوض أمرها إليه»..

بعد ما تقدم، أتى المحدث على سير الثورة وما قام به جيشها في ولاية بارهيبا بقيادة جواريس طافوره، الذي استولى في أيام معدودة على ولايات برناسبو والأغواس سبارا مارنيون، ريو غراندي دو نورتي، وزحف على ولايتي سرجيــي وباهيا بعد أن انحاز إليه الشعب والجيش في الولايات المذكورة. ثم ذكر كيفية انتصار الثوار في ولاية ميناس جرايس وتطهيرها من القوات الموالية للحكومة، وزحف جيشها الثائر على ولايات ريو دي جانيرو واسبيرتو سانطو وسان باولو. وانتقل إلى وصف الثورة في ولاية ريو غراندي دو سول التي كان هو رئيسها فقال عنها: إنّ الشعب والجيش كله ألّفا كتلة واحدة، ابتدأ معظم زحفها على ولاية بارنا التي سقطت حالاً، وانضم شعبها وجيشها إلى الثوار الذين تابعوا زحفهم على ولاية سان باولو.
أخيراً وصف المحدث الثورة بأنها «ثورة قومية عمّت البلاد كلها، ولها جذور متأصلة في ضمير الشعب، وأنها تحمل معها خطة إصلاحية عظيمة تتناول الأخلاق والسياسة والاقتصاد والمال».

تزعزع الحكومة السابقة:
مما تقدم يرى المطالع صورة جلية للنطاق الذي ضربه الثوار حول ولايتي ريو دي جانيرو وسان باولو، وهما الولايتان الوحيدتان في قلب البلاد، اللتان بقيتا في قبضة الحكومة السابقة، وما بقي في قبضتها من الولايات البعيدة لا شأن له البتة.

أخذ النطاق المذكور يتضخم ويضيق على الحكومة التي أخذت تتحصن، مصممة على الوقوف في وجه الثورة إلى الدقيقة الأخيرة. وكان كلما ضاق النطاق كلما قربت الساعة الفاصلة التي تطلق فيها جنود الحكومة مئات الرشاشات وعشرات المدافع وألوف البنادق في كل معركة على جيوش الثوار القليلة الذخائر والآلات، وتحدث المجازر الهائلة مبتدئة بمعركة […] التي كان على نحو ثمانية آلاف ثائر أن يقتحموا فيها ثلاثة آلاف بندقية ونيف ومئات المدافع الرشاشة وعشرات المدافع الضخمة المحكمة الوضع والتسديد.

ولم تحدث المعركة المذكورة إلا لأن برقية وردت على قائد جيش الثورة هناك معلنة له انتقاض الجيش في العاصمة وسقوط حكومة واشنطن لويس، وكان وصول البرقية إليه قبل الوقت المعين للهجوم بساعة.

مع ذلك لم تكن الحكومة المذكورة قد سقطت إلا بعد نزع قوي وصفه مراسل ألاسنادو دي سان باولو وصفاً دقيقاً، نقتطف منه أجمل فصوله بالتصرف الضروري في هذه العجالة:
«في الليلة السابقة لسقوط الحكومة ابتدأت الطلائع تدل على ما سيجيء به الغد، فعند انتهاء التمثيل وفصول السينما، كثر اللغط حول استعداد بعض فرق الحامية للتمرد. في ذلك الوقت كان قد بلغ بعض الناس أنّ فرقة المشاة الثالثة المعسكرة في الجون الأحمر رفضت الصدوع بالأمر في بعض المهام المكلفة بها، وأنّ قائدها كان قد أشار على بعض المنضوين تحت لوائها من أبناء السياسيين وكبار الموظفين بالانصراف إلى بيوتهم داعياً كل واحد منهم بمفرده وقائلاً له: «إذهب إلى بيتك. لا تبقَ ليلتك هنا!» وأكثرهم عمل بإشارته.

«أما في قلعة «كوبكبانا» فقد علمنا كل شيء قبل الفجر، هناك أعلن الضباط والجنود أنّ التمرد قد تقرر لليوم الثاني وأنّ على الذين لا يريدون أن يشتركوا فيه أن ينسحبوا، فانسحب كثيرون وهكذا انصرف الكثيرون من الذين علموا أو شعروا بهذه الطلائع، إلى بيوتهم موقنين أنّ اليوم المقترب سيترك أثراً لحدث هام!
الإشارة الأولى: «نحو الساعة السادسة صباحاً قفز قسم كبير من سكان المدينة من أَسِرَّتهم على طلقي مدفع كانا العلامة الأولى بابتداء التمرد العسكري… استيقظت المدينة لتجد حركات عسكرية آخذة مجراها والشوارع خالية من الترمواي ووسائل النقل الأخرى. والسيارات التي كانت تتسارع حاملة الهاربين أو الطفيليين لم تكن تتمكن من مجاوزة «الفلامنغو» أو المرور في شارع الكتيبة حيث قصر الحكومة. وطارت فوق الجماهير التي أخذت تزدحم في بعض الأقسام، طيارات رمت مناشير، هذا فحواها الموجه إلى رئيس الجمهورية:
«هي ذا الأمة تحت السلاح والحرب الأخوية تمتد بصورة مخيفة باعثة في قلوب كل البرازيليين الرغبة في وضع حد لهذا القتال المعيب وإعادة السلام إلى جميع البيوت. لقد ظلّت القوات المسلحة والمجهزة دائماً تستعمل بمثابة الوسيلة الوحيدة لحل المشكلة السياسية، ولكنها لم تجلب، حتى هذه الساعة، سوى الألم والخراب، والقلق القومي يستمر. لا يجب أن تنتهي الحرب الأهلية الحاضرة بالقوة، لأن القوة وحدها لا ترضي الآمال بالحرية وتبقي على جراثيم القتال للمستقبل. لذلك نوجه إلى وطنية سعادتكم، نداءً حاراً مخلصاً، لكي تعيد سعادتكم الوحدة والسلام إلى البرازيل، بالابتعاد عن مركز لا يمكن لسعادتكم أن تبقوا فيه بدون أن تظل الاضطرابات القومية مستمرة، لا تضحية إلا ولها كرامتها إذا كان القصد منها الاحتفاظ الكامل بالبلاد الجميلة العظيمة التي أسلفها [خلفها] لنا خلافنا [أسلافنا] بعد أن أخذوها بالجد والوطنية.

يجب على سعادتكم أن تستمدوا الوحي من موقف المارشال ديودورو، الجندي المظفر والوطني الكامل، الذي لم يحجم عن محق عواطفه الشخصية ورغبته أمام عظمة الوطن الذي كان قد خدمه في السلم وفي الحرب بإخلاص نادر، مستحقاً ذكرنا الجميل وإعجابنا.
ريو دي جانيرو في 24 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1930. »

(الإمضاءات(

يصف المراسل المشار إليه، بعد ما تقدم، المخابرات مع رئيس الجمهورية، للحصول على تنازله وتردده العظيم في ذلك، وحركات الجنود التي كانت تقترب من القصر الذي كانت فرقة من الدرك تقوم على حراسته، إلى أن تم أخيراً التنازل الذي وضع حداً لمقاومة لا طائل تحتها.

مشهد روائي : قال المراسل يصف تجواله أثناء الحوادث المذكورة في عاصمة البرازيل:
«أقفر شارع فاراني الممتد من الطرف الأيمن للقصر إلى جون بوطافو غو بانعكاف، فسِرْنا فيه متجهين إلى الجون، حتى إذا كنا نجتاز العطفة التقينا بضابط بحري فتى بلباسه الداخلي ويحمل في يمناه مسدساً. هذا الضابط نادانا باسمنا ناصحا إيانا:
ــــ لا تذهب في هذه الوجهة، المحتمل أن تحدث معركة. إنّ قوة الجيش القائمة على حراسة القصر الدائمة وفرقة الدكر قد اتخذتا مراكزهما وستبدآن بإطلاق الرصاص على الفرقة الثالثة…
«في هذه اللحظة ظهر رجل لا يلبس سوى «بيجاما» كان قادماً من جهة الجون فسأل الضابط مشيراً إلى المسدس الذي يحمله:
ــــ لماذا هذا؟
ــــ ليس عندي مكان أخبئه فيه..
ــــ ولكن لا حاجة إليه فالفرقة الثالثة قادمة هناك.. وقد انتهى كل شيء…(!)».
العبد: تقول الصحافة البرازيلية إنّ الشعب ما كاد يدرك حقيقة الحدث حتى اندفع على دور الجرائد الموالية للحكومة القديمة، فكسر أدواتها وأحرق أثاثها ومجموعاتها، وابتهج البرازيليون في جميع المدن وعيّدوا للثورة الظافرة ومشوا في كل مكان بمواكب للاحتفال بأبطالها المظفرين، ورجع السيف إلى غمده.
وفق الله الأمة البرازيلية إلى ما فيه صلاحها.


دمشق في 3 ديسمبر/كانون الأول 1930


أنطون سعاده
القبس، دمشق،  
العدد 515، 7/12/1930

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى