الهند بين المطرقة والسندان – امبراطورية تترنح

الهند قطر شرقي ليس فقط بموقعه الجغرافي، بل بعقلية شعبه.
فهناك حكمة روحية قديمة وفلسفة نفسية عتيقة وسط غمر من الأوهام والغباوة والهوس. وهذه هي الخصائص التي يميزون بها الشرقي عن الغربي في اللغة السياسية ــــ الاجتماعية.

والهند من هذه الجهة بلاد مغرقة في شرقيتها وهي والصين المركزان الأكثر أهمية للعقلية والمزايا الشرقية.
فالشؤون الوضعية (ريالست) لم تجد سبيلاً هناك إلا إلى أفراد قلائل بين ملايين من الناس الغارقين في محيط التقاليد الجامدة المنصرفين عن الشؤون العقلية إلى النواحي النفسية الخفية.
ويكاد لا يوجد بلاد تحولت فيها المذاهب إلى طوائف منعزلة، روحياً واجتماعياً، بعضها عن بعض كالهند.
هذه الحالة الداخلية توضح سبب عجز بلاد واسعة غنية تَعدّ من السكان ما يزيد على ثلاثمائة مليون كالهند عن تحطيم قيود العبودية التي كبّلتها بها بريطانية منذ زمان بعيد.

وقد سارت بريطانية في الهند على سياسة منع نشوء القومية فيها كما سارت على هذه السياسة عينها، بالاتفاق مع حليفتها فرنسة، في سورية حيث عملت الدولتان «المنتدبتان» على إبقاء النعرات والمنافسات المذهبية ومقاومة نشوء الفكرة القومية.

وكما كانت «حماية» الأقليات الدينية في سورية حجَّة السياسة الاستعمارية البريطانية ــــ الفرنسية كذلك كانت هذه «الحماية» عينها حجَّة السياسة الاستعمارية البريطانية في الهند تجاه العالم المتمدن.
ومن غريب أمر هذه السياسة الاستعمارية أنها تناقضُ في بلادٍ عملَها في بلاد أخرى، فبينما بريطانية وفرنسة تدّعيان حماية المسيحيين في سورية إذا بهما تدّعيان حماية المحمديين في الهند وإفريقيا!

وكما وجدت السياسة الاستعمارية في سورية حلفاء في المسيحيين كذلك وجدت هذه السياسة في الهند حلفاء في المحمديين، فهم الذين يأبون الوحدة السياسية الهندية، ومنهم تُجنّدُ بريطانية أفضل الجنود الذين تستعملهم في الدفاع عن مستعمراتها وعن سياستها الاستعمارية.

وهذا يدلّك على أنّ حجة المنافقين في القومية والدِّين أنّ المحمديين بطبيعتهم وطبيعة دينهم استقلاليون، وأنّ المسيحيين هم بطبيعتهم وطبيعة دينهم مسالمون مستسلمون، هي حجة باطلة تستر أغراضاً خبيثة تنافي القومية الصحيحة.

ففي الهند ليست الأقلية الهامّة التي تستند إليها بريطانية هي المسيحية بل المحمدية.
وهذا طبعاً ليس لأن المحمديين في الهند يحبون العبودية، كما أنه ليس لأن المسيحيين السوريين يحبونها، بل لأن الأقليات الدينية تخاف على معتقداتها وحقوقها في دولة مشطور سكانها إلى شطرين بسبب المعتقدات الدينية.
مع أنه نشأت في الهند حركة قومية يقودها غاندي فإن هذه الحركة الهندية لا يمكن أن تقاس بالحركة السورية القومية، لأن هذه عالجت القضايا الداخلية وأوجدت العقيدة القومية الصحيحة التي تشمل جميع الملل والنحل وجعلت العمل القومي عاماً ومشتركاً بين المحمديين والمسيحيين والدروز، حتى أنه لا يشعر السوري القومي بأي فارق بينه وبين سوري قومي من ملّة غير ملّته، بل لم يعد يشعر بوجود الملّة ككيان سياسي ــــ اجتماعي إذ غلبت فكرة الأمة الموحدة عنده على كل فكرة أخرى.

أما الحركة الهندية فلا تزال تتخبط في مشاكل المذاهب تخبطاً لم تتمكن معه من توليد قضية واحدة إرادة واحدة. فحزب «المجمع» الذي قاده غاندي مدة طويلة، ولا يزال أكبر شخصية فيه، هو بالأكثر حزب ملّي، يقابله حزب «الرابطة المحمدية» التي يرأسها محمد على جناح.

مع أنّ حزب «الرابطة المحمدية» ليس منظماً تنظيم حزب «المجمع الهندي» ولا يملك وسائل التنفيذ التي لهذا الأخير فــ«الرابطة المحمدية» حزب يقدر أن يثير مشكلاً كبيراً لقضية استقلال الهند.
وفي هذه الحالة تجد بريطانية حليفتها الكبرى ضد حركة الهنود الاستقلالية.

والكتابات البريطانية التي ظهرت مؤخراً بمناسبة فتح مسألة الهند في البرلمان البريطاني تُظهر اتجاهاً واضحاً نحو المحافظة على انشقاق المحمديين ووجوب إعطائهم ضمانات تكون سلاحاً ماضياً في يد بريطانية في المستقبل.
تسلطت بريطانية على الهند تسلط السيد على العبد مدة طويلة من الزمن.

ونظراً للحالة الداخلية التي وصفناها لم تتمكن حركة غاندي، مع استفحال أمرها، من إجبار بريطانية على النظر في تغيير سياستها الاستعمارية في الهند.

والظاهر أنّ هذه السياسة رسخت رسوخاً مكيناً في نفوس البريطانيين، حتى صار يصعب كثيراً عليهم التفكير في تغييرها والنظر إلى الهند نظرة جديدة قائمة على الإنصاف.

فقط بعد خسارة شبه جزيرة ملكة وجزيرة سنغافورا التي كانت أعظم حصن للامبراطورية البريطانية في الشرق الأقصى، ابتدأ البريطانيون وحكومة يفكرون في المسألة الهندية ومطالب حزب «المجمع الهندي» الاستقلالية.
وقد أخذ هذا التفكير دوراً هاماً من الأبحاث بين الوزراء وفيما بين النواب وأعضاء مجلس الأعيان قبل أن ألقى رئيس الوزارة، السيد تشرشل، تصريحه في صدد المسألة الهندية في الحادي عشر من مارس/أذار الماضي.

فما هو هذا التصريح الذي ولدته الحكومة البريطانية بعد أشهر من التمخض الفكري؟
تظهر حقيقة التصريح والمدى الذي يصل إليه في الفقرات الثلاث الأولى منه وهي كما يلي:
«إنّ أزمة شؤون الهند، الناتجة عن تقدم اليابانيين، قد جعلتنا نرغب في حشد جميع قوى الحياة الهندية للدفاع عن أرضها ضد تهديد المجتاح.

«في شهر أغسطس/آب سنة 1940 أعطي تصريح فيما يختص بالأغراض العسكرية والسياسية التي ستّتبعها في الهند.

هذا التصريح يكاد يعادل الوعد أنه حالما تنتهي الحرب يكون من الواجب أن تنال الهند مرتبة «دمنيون»، مع حرية واسعة ومساواة مع هذه البلاد ودول «الدمنيون» الأخرى، حسب دستور يكون للهنود أن يضعوه بالاتفاق فيما بينهم، قابل الرضى عند عناصر الحياة الهندية الرئيسية.

«وبديهي أنّ هذا الأمر يخضع لإكمال واجباتنا في حماية الأقليات، وضمنها الطبقات المضطهَدة، وواجباتنا الناشئة عن المعاهدات مع دول الهند ولحل مسائل معيّنة أقل أهمية ناتجة عن اشتراكنا الطويل في مصير شبه القارة الهندية».
من هذه الفقرات الثلاث الصغيرة يتضح كم هو معقد تصريح الحكومة البريطانية فيما يختص بمطاليب الهنود الاستقلالية.

فهو كثير الالتواءات والاعوجاجات والتحفظات. ويتضح فوق ذلك أنّ الدافع لإعطائه ليس حركة الهند الاستقلالية بل الخطر الياباني الذي أصبح على أبواب كنوز الهند الاقتصادية فيكون غرضه الرئيسي دفع الخطر الياباني عن الامبراطورية البريطانية في الهند وغرضه الثنوي إرضاء حزب «المجمع الهندي» بإجابة بعض مطاليبه إلى حد لا تفلت عنده الهند من نطاق الامبراطورية البريطانية وتكون هذه قد أمّنت تعاون الهنود ضد اليابان وحلفائها.

وتتلخص هذه السياسة الجديدة، التي اقتضها الظروف الحربية، في عبارة وردت في رسالة عن لندن بتاريخ 11 مارس/أذار الماضي إلى جريدة لاناسيون للمراسل ليوناردو سفيرمن، يقول المراسل إنها تعبّر تعبيراً صادقاً عن حالة الهند من الوجهة البريطانية وهي:
«اليوم دفاع، الاستقلال غداً».


يمكن أن تتضح هذه السياسة البريطانية بجلاء أكثر في تصريح ممثل الحكومة في مجلس العموم أمير الختم الخاص الوزير الجديد ستافرد كرفس الذي أدلى به في معرض نقاش في المجلس المذكور في الخامس والعشرين من فبراير/شباط الماضي.

فقد قال إنّ من الضروري للامبراطورية البريطانية أن يقاتل الهنود دفاعاً عن بلادهم، وأن يتعاونوا مع البريطانيين في الدفاع ضد المحور.

وفي رده على موقف المحافظين الذين يأبون إحداث أي تعديل هام في حالة الهند الراهنة قال إنّ هذا الموقف لا يُنتج غير خسارة بريطانية العظيمة قسماً من امبراطوريتها وإنّ هذه المستعمرات التي تُفقد «لا يمكن الاستيلاء عليها من جديد إلا بالاحتفاظ بها لمصلحة العالم ومصلحة الشعوب التي تقيم في تلك المناطق».
وهذا يعني أنّ السياسة البريطانية الجديدة، فيما يختص بالهند، لا تقصد غير الاحتفاظ بالهند بطريقة يمكن معها العودة إلى الاستيلاء عليها أو فتحها وإعادتها إلى نطاق السلطة البريطانية.

وكأن هذه السياسة تقول يجب أن نعطي اليوم لنستعيد ما أعطيناه غداً، أو ما نحن مضطرون لخسارته في الحرب نربحه في السلم حين يزول خطر دول المحور وتجد الهند نفسها وحيدة وعزلاء تجاه القوة البريطانية المنتصرة. هذا إذا صحّت الرؤى.

قد لا يعني ذلك عدم استفادة الهند سياسياً بالمرّة.
فقد تَثبُت بريطانية على إعطاء الهند استقلالاً إدارياً داخلياً مقيَّداً بشروط كثيرة. ومن تصريحات رسول الوزارة البريطانية إلى الهند، الوزير كرفس، ينجلي أنّ المسألة لا تتعدى عرض الاستقلال الإداري على الهنود (أوطنميّة).

وهذا الاستقلال ليس الاستقلال الذي يطلبه حزب «المجمع الهندي» وصرح به رئيس المجمع، جواهر لال نهرو، كما ورد في برقية لــ«أسوشياتد برس» عن الله آباد بتاريخ السادس من مارس/أذار الماضي.

البرقيات الأخيرة الواردة عن الهند، حتى كتابة هذا المقال، تخبر أنّ ستافرد كرفس قد وصل إليها وباشر مقابلاته مع ممثلي الأحزاب والحكومات الهندية، على هذا الأساس.

الذي نراه نحن هو أنه إذا كانت اليابان توجه مطرقتها الحربية إلى الهند فبريطانية تعدّ الهند السندان.
وصعوبة الهند الداخلية هي في وجود نحو سبعين مليوناً من المحمديين تقاوم رابطتهم الدينية الوحدة الهندية القومية وعدم وجود نهضة قومية صحيحة في الهند تنفي الحزبية الملّية.

ولكن ما تعرضه بريطانية لا يحل مشاكل الهند الداخلية ولا يزيل الأخطار الخارجية.
إنها سياسة عرجاء وقد جاءت متأخرة جداً.
وغرضها الأول هو حربي لا سياسي وهو:
تجنيد ملايين الهنود ووضعهم في قبضة القيادة البريطانية وتحت تصرفها.
أما حالة الهند السياسية فتسوى بعد الحرب.

نفترض أنّ بريطانية وصلت إلى غرضها من سياستها الجديدة في الهند، ألا يكون هذا النجاح قد جاء متأخراً جداً عن أنقاذ الهند؟
إنّ موقف الأحزاب الهندية سيكون الموقف المعوّل عليه في مصير الهند الأخير.

وقد جاء، والجريدة ماثلة للطبع، أنّ المبعوث البريطاني أعلن مقترحات الحكومة البريطانية، فإذا فيها مجال كبير للدرس وفيها شروط تفسح المجال لتجزئة الهند إلى دول وهو ما يوافق السياسة البريطانية ولا يوافق مصلحة الهند القومية.

أنطون سعاده
الزوبعة، بيونس آيرس،

العدد 41، 1/4/1942

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى