جبهة حربية ثانية

منذ مدة طويلة والإذاعات البرقية تشتغل وتهتم بأمر فتح جبهة حربية ثانية تتخذ فيها الأمم المتحدة خطة الهجوم، لتوجد خطاً حربياً في جهة من جهات أوروبا يكون من ورائه تخفيف الضغط الحربي الألماني عن روسية، وحصول حالة توازن في الموقف الحربي العام. ولكن الآراء تضاربت في إمكان فتح مثل هذه الجبهة في أوروبا في وقت قريب، واختلفت المذاهب في صدد البقعة الأكثر مناسبة لقيام الأمم المتحدة بحملة حربية ناجحة.

والظاهر أنّ إذاعة الأمم المتحدة أخذت تلقي، بصورة مستمرة، في روع الناس أنّ أنظار الأمم المتحدة متجهة نحو فرنسة ومتمركزة فيها.
وقد ساعد هذه الإذاعة والمرتئين هذا الرأي احتمال استمالة الشعب الفرنسي إلى نهضة انتقام واستعادة مركز فرنسة السابق. وأيّد اتجاه الفكر في هذه الناحية الحملات الجوية على شمال فرنسة والغزوات البحرية لبعض الموانىء الفرنسية كالغزوة الأخيرة الكبيرة لميناء دياب.

وجدت هنالك آراء أخرى في صدد إمكان فتح الجبهة الثانية. فالبعض ذهب إلى أنّ إفريقيا الشمالية خير مكان لتنفيذ هذه الفكرة. والبعض الآخر ذهب إلى جعل هذه الجبهة في الهند. ومن جميع الآراء التي وقفنا عليها في البرقيات والمقالات في طائفة من الصحف الأجنبية لم نجد رأياً واحداً تمكّن من استهواء اقتناعنا، فإن المكان الذي يحسن أو يترجح فتح جبهة حربية جديدة فيه يجب أن يكون مكاناً تتوفر فيه الإمكانيات والاحتمالات الاستراتيجية والتحريكية التي تؤمن قيام الجبهة مدة طويلة على الأقل. فأين هو هذا المكان المثالي؟
إنّ فرنسة ليست ولا يمكن، في ظروفها الحاضرة، أن تكون هذا المكان المختار. والأسباب عديدة أهمها:
1 ــــ قرب الموقع من ألمانية.

2 ــــ توفر المطارات الألمانية القريبة التي تهاجم قناة المانش بسرعة.

3 ــــ عدم صلاح قناة المانش لحركات بحرية واسعة يضطر للقيام بها الأسطول المطلوب منه تأمين وصول النجدات والإمداد.

4 ــــ وجود شبكة كاملة من الخطوط الحديدية التي تسهل حركات القوات الألمانية ووصول النجدات بسرعة.

5 ــــ تجرّد الشعب الفرنسي من السلاح ووجود حكومة فرنسية متقربة من الألمان ومتحولة عن بريطانية. فهذه الأسباب وغيرها تجعل فرنسة غير صالحة لفتح جبهة حربية فيها.

أما إفريقيا الشمالية فبعيدة وفقيرة في العمران ولا شعوب كثيفة موالية فيها وشعوبها ليست حرة ولا يمكن التعويل عليها. وأما الهند فبلاد قائمة قاعدة والكره لبريطانية يزيد فيها يوماً عن يوم.
وهي كذلك بعيدة والحرب فيها لا يمكن أن تسير بالسرعة المطلوبة. وبعدها عن مركز الحرب الذي تجري فيه المعارك الفاصلة لا يؤهلها للعب دور هام من الوجهة الحربية.

نعتقد أنه لا يوجد في جبهة من العالم موقع أفضل من موقع اسكندينافيا لاختياره مكاناً لفتح جبهة ثانية. ولعل نروج أفضل مكان للقيام بهذه المحاولة، وأهم الأسباب لتفضيلنا نروج وما جاورها هي:
1 ــــ قرب نروج من روسية، فيمكن إيجاد اتصال بين الحملة عليها وبين الجيش الروسي، واتخاذ خطة واحدة لنجاح الحملة يعمل بموجبها الجيش المهاجم والجيش الروسي.

2 ــــ بُعد نروج عن ألمانية ووجود فاصل بحري بينها وبين ألمانية.

3 ــــ امتداد شواطئها على البحر الشمالي المفتوح الذي يتمكن فيه الأسطولان البريطاني والأميركاني من التعاون، وإذا أمكن استمالة أسوج لهذه الغاية فلا يمكن إيجاد أفضل من اسكندينافيا لفتح جبهة جديدة.

لاحظنا في المدة الأخيرة مراقبة شديدة من ألمانية على سياسة أسوج الداخلية، حتى أنّ سفارة ألمانية اضطرت للاحتجاج على لهجة بعض الصحف الأسوجية وأمور أخرى.
وأكثر ما وقفنا عليه في هذا الصدد أنّ الانتخابات البلدية التي جرت مؤخراً في أسوج أظهرت زيادة مسوسة في نمو الحزب الشيوعي
. وبعض حوادث أسوج الداخلية جعلت بعض صحف ألمانية تقوم بحملة عنيفة على موقف تلك الدولة السكندينافية. وجريدة بورسن زيتنغ اتّهمت أسوج بأنها محايدة في الظاهر فقط، وأنها ليست في الباطن سوى مركز للجاسوسية البريطانية البلشفية.

مما لا شك فيه أنّ بريطانية والولايات المتحدة قد وجّهتا جهوداً كثيرة لجذب أسوج نحوهما، فإذا أفلحتا في هذا المسعى بالاشتراك مع روسية فالجبهة الثانية لا تحدث إلا هناك ــــ إذا أمكن أن تحدث على الإطلاق.

لا نرى للجبهة الثانية غير هذه الإمكانية، ولا نرى معنى حربياً لها إلا في منطقة اسكندينافية.
وسواء ابتدىء تنفيذ الفكرة في نروج أم في دانمارك أو غيرها فاتجاهها الأكثر مناسبة هو اتجاه نروج للاتصال بالجيش الروسي وتأمين وصول النجدات والذخائر وإلال الحرب. أما في غير هذه المنطقة فالأرجح أن تنتهي الحملة بنكبة هائلة تسحق معنويات الأمم المتحدة سحقاً تاماً.

أنطون سعاده
الزوبعة، بيونس آيرس،

العدد 52، 15/9/1942

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى