رأي النهضة مرفأ حر في لبنان


إنّ القضاء على المصالح المشتركة والفصل الاقتصادي التام بين لبنان والشام سيخلقان للمصالح القومية مشاكل لم يمتد إليها نظر سياسي الانفصال، ويوجدان تضارباً في السياسة الاقتصادية بين الحكومتين اللبنانية والشامية غير محمود العاقبة. ومراحل المفاوضات لإنهاء ذيول الفصل المشترك بين المصالح القومية تدل على أنّ التضارب في السياسة الاقتصادية واقع بين الحكومتين لا محالة.
وتدل قرائن الأحوال على أنّ الحكومتين قد تندفعان، في فرصة قريبة، في حرب اقتصادية جمركية يقلق لها تجار لبنان وزراع الداخل قلقاً مشتركاً، لأن كلتا الحكومتين تبنيان نظريتهما على موارد الحكومة لا على موارد الشعب. على مقدار الدخل إلى الخزينة لا على مقدار الدخل على الثروة العامة. والقلق من سياسة مبنية على هذه القواعد قلق في محله.
وقد أدى هذا القلق إلى حساب بعض الممكنات، كفرض المكوس على المصدَّر من لبنان إلى الداخل، ومحاولة تدبر مثل هذا الأمر الذي ينزل بمرافىء البلاد التجارية أضراراً كبيرة، فنشأت من هذا الحساب نظرية المرفأ الحر، وحرية التجارة في لبنان.
يروج لهذه النظرية دعاتها بالقول إنّ تطبيقها يجلب للشعب رفاهية ويزيد العمران فتزداد الأبنية الكبيرة في مدينة بيروت، وينشط الشعب لزيادة صناعة التحويل، أي الصناعة القائمة على استيراد مواد محضرة في الخارج وتحويلها إلى مصنوعات، كاستجلاب الجلد المدبوغ المصقول والنعل المحضر في الخارج وتحويلهما بالصناعة إلى أحذية وحقائب وما شاكل. ولم يقم واحد من هؤلاء الدعاة بإقامة النسبة بين الدخل من مثل هذه الصناعة والدخل من الضرائب الجمركية التجارية، أو بإحصاء الأنواع التي يمكن صنعها في لبنان ولا يمكن صنعها في الشام مثلاً، أو التي يمكن صنعها في لبنان على قياس واسع بطريقة أرخص من صنعها في أوربة أو اليابان حتى تستطيع مزاحمة المصنوعات الأجنبية العظيمة المقادير المنتجة الرخيصة الثمن.
هذه أمور يجب التفكير بها من حيث التجارة الحرة وإنشاء رفاهية الشعب عليها. أما ايجاد المرفأ الحر لمحاربة الحواجز الجمركية التي يمكن أن تنشأ بين لبنان والشام وما وراءها فله وجهة نظر أخرى.
مما لا شك فيه أنّ إيجاد مرفأ حر للتجارة في لبنان يجعل هذا المرفأ سلاحاً ماضياً ضد الحواجز الجمركية. فهو من هذه الجهة سلاح قوي. ولكن لمصلحة من يكون هذا السلاح؟
إنّ إيجاد مرفأ حر يعني إنشاء مستودعات ضخمة في هذا المرفأ تستوعب من البضائع ما يتكفل بتموين أسواق الشام والعراق وإيران. ومثل هذا المشروع الخطير، الذي يمكن أن يعدّ خطوة للقبض على تجارة الشرق الأدنى واحتكارها، يتطلب رساميل كبيرة وشركات منظمة ذات اختبار واسع في الأعمال التجارية الكبرى، مجهزة بعدد من الخبراء والاختصاصيين يستطيعون معالجة المسائل المالية المعقدة والمشاكل الاقتصادية المتنوعة.
وليس لبنان مجزاً بالرساميل الضخمة التي تقتضيها مشاريع المرفأ الحر ولا بالخبراء الماليين والاقتصاديين الذين يتمكنون من تأمين نجاحها. فالنتيجة تكون أنّ رساميل أجنبية متحفزة تثب على المرفأ الحر حالما يتقرر إيجاده وتنشب مخالبها فيه. فتبني المستودعات الضخمة وتنشىء المكاتب الفنية المرتبة. وتستخدم بضع عشرات أو مئات من الكتبة ويفرّج الشعب اللبناني كربته بالنظر إلى الأبنية الشامخة على شواطئه وملابس موظفي الشركات الأجنبية الأنيقة.
والمرجح أنّ الرساميل الأجنبية التي ستستبق غيرها إلى القبض على تجارة المرفأ الحر ستكون يهودية. فيقبض اليهود على تجارة الشاطىء السوري كله. ولهذه الوجهة خطرها السياسي والقومي.
هكذا نرى أنّ مسألة المرفأ الحر ليست بسيطة بمقدار ما يتصوره المتفائلون، لسبب ولغير سبب، أو المأجورون للرساميل الأجنبية المتربصة بهذا الوطن وهذه الأمة.
الحقيقة أنه لا حل لمسائل المصالح المشتركة بين لبنان والشام لمصلحة الشعبين إلا باعتبار مصلحة الأمة والنظرة القومية في الاقتصاد. فالمصالح المشتركة هي مصلحة قومية واحدة ذات تفاصيل ويجب الإبقاء عليها مشتركة موحدة وتأسيس سياسة اقتصادية قوميةعليها.
ولا شك في أنّ مذكرة الحزب السوري القومي في صدد المصالح المشتركة التي أذاعها في كراس خاص في بدء عهد المفاوضات للبت في مصير هذه المصالح، بعد تحويل الانتداب إلى معاهدتين، هي أفضل مصدر لإدراك حقيقة المصالح المشتركة وتقرير أفضل سياسة يجب أن تتبع في صددها.

أنطون سعاده
النهضة، بيروت
العدد 4، 18/10/1937

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى