رسالة البابا الأخيرة

“نفوذ اليهود فى الفاتيكان”

«إستفحال أمر الصهيونية”

منذ بضعة أشهر صدرت رسالة البابا بيوس الثاني عشر فى صدد التوراة، فكانت من أشد الرسائل البابوية خطورة وأكثرها تعديلاً للموقف الكاثوليكي الرسمي فيما يختص بالتوراة المعروفة في لغة الكنائس المسيحية بالعهد القديم.

كانت الكنيسة الكاثوليكية تكتفي منذ زمن الاصلاح، بالإنجيل المسيحي، المعروف بالعهد الجديد، مرجعاً للتعليم الديني ومصدراً للروحية الدينية المسيحية كلها. وكانت قراءة التوراة شبه محرّمة على أتباع الكنيسة المذكورة. ولكن بعض البابوات السابقين أشاروا فى رسائلهم إلى التوراة واستحسنوا درسها والعناية بها حبًّا بجلاء مسائل تتعلق بخصائص التفسيرات الدينية. وقد خرجت رسالة البابا بيوس الثاني عشر التي نحن في صددها الآن عن ذلك الحد بإثبات وصية صريحة لقداسته تحث على القراءة اليومية للكتاب المقدس فى العائلات المسيحية وتحرّض الأساقفة على “تحبيذ ومساعدة تلك التقية التى ترغب في نشر طبعات التوراة بين االمؤمنين، وخصوصاً نشر الأناجيل، وأن يسعوا بكل اجتهاد أن تُقرأ في العائلات المسيحية باستقامة وتقديس”.

بناءً على هذه النصائح والتعليمات الواردة في رسالة قداسة البابا بيوس الثاني عشر، المزيدة لما سبقها من إرشادات للبابا بيوس الحادي عشر والبابا بندكتوس الخامس عشر، لم يعد يصبح للكاثوليك أن يقولوا إنّ التوراة كتاب بروتستانتي غير جائز للكاثوليكي قراءته. وهذا يعني أنّ جميع القصص التي آخذها اليهود من الأساطير السورية وأوّلوها لمصلحتهم وتعزيز شأن جماعتهم ستجد قبولاً و”تقديساً جديدين عند الكاثوليك كما وجدت قبولاً وتقديساً عند الشيع اليروتستانتية!

لسنا نريد نعالج هنا الدوافع والمرامي الدينية البحتة للحث على دراسة التوراة توخيًّا لجلاء بعض غوامض التأويلات والتفسيرات اللاهوتية. ولكننا نريد أن نتناول الوجهة السياسية المتضمنة فى “تقديس” التوراة وخصوصياتها اليهودية ولعناتها للأمم والجماعات غير اليهودية وتفضيلها الإسرائيليين على جميع خلق الله الذين لا يبلغ اليهود عشر معشارهم.

إن “تقديس” التوراة ومراميها اليهودية المخالفة للروحية الناصرية المعلمة المحبة والمساواة الإنسانية هو من أهم “موجبات” العطف على اليهود ومطامعهم في سورية عند الشعوب البروتستانتية. ومع أننا نعلم أنّ “العطف” الذي تبديه بعض الدول الكبرى لمآرب لليهود هو ذو مصدر سياسي بحت فلا يمكننا أن نجهل أو نتجاهل أنّ تعميم ذاك العطف في شعوب الدول المذكورة يجد في “تقديس” التأويلات اليهودية لوجود الله وعمله وحكمته تسهيلاً كبيراً وإقبالاً واسعاً. ومما لا شك فيه ان اعتماد الكاثوليك “تقديس” صوت إسرائيل وبنيه وتقديس لعنة جميع الأمم سيفتح مجالاً جديداً للشفقة على “شعب الله المختار”، ويوجد تأييداً له في محاولته الجديدة للاستيلاء على بلاد السوريين التي “وعده يهوه” أن يعطيه إياها ملكاً خاصًّا به على تعاقب أجياله. وأي تأييد يستطع ادعاء اليهود حقوقاً في سورية نواله أقوى من تأييد اعتقاد ملايين المتدينين القارئين “كلمة الله” في “كتابه المقدس” أنّ سورية هي لليهود بحق إلهي مشروع في التوراة.

في العدد الماضي من الزوبعة (ص 47 أعلاه) بسطنا بعض البسط اتساع نطاق حركة اليهود الصهيونية ونفوذها بين “الأمم المتحدة”، خصوصاً في أميركانية وبريطانية. ولم يتسع المجال وحدود الموضوع لتناول واسطة الشعور الديني لدعم المطاليب اليهودية في الرأي العام عند الأمم المذكورة التي ابتدأ يلوح لها النصر في هذه الحرب العالمية الثانية. ولكن لا بد من تقرير أن هنالك علاقة وثيقة بين اتجاهات معيّنة من الشعور الديني والأغراض السياسية للدول والجماعات. ومن ذلك العلاقة الوثيقة بين الحث ثم العودة إلى التوراة وقراءتها “بتقديس” ومطامع اليهود السياسية في سورية.

ولا مندوحة لنا، في هذا الموقف عن ذكر امتداد مساعي اليهود إلى الفاتيكان وما تلاقيه تلك المساعي من اهتمام قداسته ونواميس دولة البابوية الزمنية. إنّ أخباراً ‎متعددة دلّت على هذه الحقيقة الخطيرة. ومن الأنباء ذات المغزى البعيد في هذا الصدد برقية لشركة “يونيتدبرس” صادرة عن مدينة الفاتيكان في الثامن عشر من يونيو/حزيران الماضي هذا نصها:

“إستقبل صاحب السيادة سلفيو شركانو، الذى هو ملحق ناموس الفاتيكان للمواضيع الكنسية الاستثنائية. الربي أنطون صويح، الذي هو الربى الأول في رومة وتحادث الإثنان في هذا الاستقبال طويلاً.

والمفهوم أنّ صويح سيقابل البابا بيوس الثاني عشر وهذا يؤيد بصورة علنية، اهتمام السدة البابوية بحالة اليهود.

“وقد بلغنا أيضاً أنّ محادثة اليوم المشار إليها آنفاً اختصت بالموقف الذي سيتخذه الفاتيكان تجاه المسألة اليهودية في أي مؤتمر صلح سيعقد.

“وهنالك ظن عام أنّ محادثة اليوم ستؤثر في الموقف الذي ستتخذه السدة البابوية بتجريم كل كره جنس أو تمييز ديني”.

هذه البرقية الصغيرة تخبر عن أمور خطيرة ومنها نرى أن العلاقة بين الاتجاه الذي تشير به رسالة البابا التي نحن فى صددها ومرامي اليهود السياسية هي أقوى مما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة. ونكاد نقول إنها تشبه العلاقة بين مساعي اليهود وموقف البطريرك الماروني الذي رحّب باليهود إلى لبنان لأسباب ظاهرها تقوى دينية.

إنّ كثيراً من الذين يقرأون التوراة “بتقديس” كل يوم، ومنهم ملايين في أميركانية وبريطانية، يرون في عودة اليهود إلى محاولة الاستيلاء على سورية تحقيق وعد الله أنه “سيجمع خرافه” بعد تشتيتها. وموقف السوريين المدافعون عن وطنهم وحقوقهم القومية هو، في نظر أولئك المؤمنين عصيان لمشيئة الله وأحكامه. والعاصي يستوجب النقمة!

إنّ هذه المسألة لخطرة جدًّا. ومهما حاولنا أن نكون متدينين وأتقياء ورعين فلا يمكننا، ولا بوجه من الوجوه، إغفال الأخطار الآتية تحت جنح الشعور الديني لتُنزل ضربة شديدة بحقوقنا بصفتنا أمة حية لها حق السيادة على مصيرها ومصير وطنها.

ليست قليلة نكبات سورية الحربية والسياسية المتأتية عن التيارات الدينية التي أخذت مجرى في داخلها. وكما يخشى الآن من مجاري الشعور الدينى الخارجية الموجهة بقصد إلى أغراض سياسية، كذلك يخشى من المجاري الداخلية المصاحبة للمجاري الخارجة، وهذه الخشية لا تتعلق فقط بالمجاري الروحية المسيحية بل تشمل المجاري الروحية المحمدية أيضاً، فالدعوة إلى الخلافة المصرية في شخص‎ ‏الملك فاروق، وتحبيذ الوهابية التي يتزعمها إبن السعود العربي، هي من الدعاوة التي‎ ‏ تحمل خطراً سياسيًّا على سورية. ومن مدهشات الدعاوة السياسية اللابسة لباس الدين محاولة إظهار الحركة الوهابية، التي هي ليست سوى رجوع اوليات التفكير العربي الصحراوي المحدودة بمظهر حبكة إصلاحية في الدين!

كثير من السوريين المتهمين الذين قرأوا والذين سيقرأون التوراة اليهودية “بتقديس” لن يجدوا نكيراً في محاولة اليهود الجديدة للاستيلاء على ديارهم وأموالهم، بل يقبلون ذلك بتسليم كلي “لأحكام الله ومشيئته”. وكثير من محمدييهم يغتبطون بدعوة الخلافة المصرية التي تطمح إلى جعل السوريين من أتباع سيادتها لأنهم يرون في تحقيق الأغراض السياسية المصرية الخفية “تعزيزاً” للمحمدية. وكثيراً منهم يرحبون بالدعاوة العربية الوهابية الرامية إلى إلحاقهم بسيادتها ويرون فيها “إعادة مجد العرب وإصلاح الإسلام”.

وهل يبقى مجال ضمن هذه الدعوات الغريبة لدعوة سورية قومية اجتماعية ترمي إلى إيجاد سيادة سورية وتنفيذ إرادة سورية وتحقيق نظام سوري؟

لا نريد، مطلقاً، بالتعميمات التي أوردناها صرف الفكر عن خطورة ما ورد في رسالة البابا بيوس الثاني عشر الأخيرة المتعلقة بالتوراة، فهذه نقطة يجب أن لا تضيع بين مختلف المواضيع.

إنّ المساعي اليهودية قد فازت موخراً بنتائج كبيرة. والفضل فى ذلك لوعيهم لقضيتهم وغيرهم عليها وتنظيم أعمالهم في منظمة يخضعون لأحكامها ويعملون بتوجيهاتها.

اليهود يعملون للاستيلاء على سورية. والسوريون اللاقوميون يعملون لنكاية أنطون سعاده وللكيد للحركة السورية القومية الاجتماعية التي يقودها، أو لنكاية بعصهم بعضا والكيد بعضهم لبعض.

إنّ الحركة السورية القومية الاجتماعية هي لجميع السوريين. ونظامها أفضل من كل ما تمكّن اليهود، حتى الآن، من إنشائه، فيا للعار أن يهمل السوريون نظام نهضتهم ومبادئها ويقتلوا قضية أمتهم ووطنهم بخناجر عنعناتهم ويدعوا اليهود يفلحون بنظامهم ويستولون على أموالهم وديارهم!

ولكن لا يشعر بالعار من لا يعرف العار ولا يعرف العار من لا يعرف الشرف!

ويا لذل قوم لا يعرفون ما هو الشرف وما هو العار!

الزوبعة، بوينس آيرس،
العدد 80، 4/9/1944

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى