مذكرة التوقيف المشؤومة تخدم مصلحة أجنبية وتدعم مناورة حلفاء النفوذ الفرنسي

على الحكومة أن تعرف وأن تهتم على الأقل بمعرفة العواقب لحالة عدم الاستقرار والأضرار النفسية التي تهدد الشعب في سيادته وكرامته.

أدرك العميان فضلاً عن المبصرين أنّ الحكومة تسرعت تسرعاً غريباً باتخاذها موقفاً غير متفق مع مبادئ الحرية القومية في صدد وصول زعيم النهضة السورية القومية الاجتماعية إلى وطنه وعودته إلى أمته بعد غياب قسري استغرق تسع سنوات.

والظاهر أنّ حسابات الحكومة في صدد قوة الحركة القومية الاجتماعية ومعنوياتها ومبلغ تعبيرها عن إرادة الأمة السورية في لبنان والشام وبقية أجزاء سورية وكياناتها، لم تكن مضبوطة. فقد تكون الحكومة خططت موقفها بناءً على اختبارات عهد الاحتلال افرنسي حين كان لفرنسة في منطقة “انتدابها” نحو ستين ألفاً من الجنود المجرّبين والمدربين وعدد من الطيارات ومدرعات البحر، وضعت جميعها تحت مطلق تصرف المفوض الفرنسي “الدول اللفان” حين أظهرت اعتقالات الزعيم وأركان عمدته والمسؤولين عن بعض الفروع سنة 1935 خطورة الحركة القومية الاجتماعية ومبلغ تهديدها للسلطة الفرنسية ولسيادة فرنسة على هذا الجزء من أمتنا ووطننا تحت ستار “الانتداب”.

وقد استغرب كثيراً أهل النظر لجوء الحكومة إلى خطة إدخال إدارة الأمن العام في أمر خطاب واضح الخطوط والمعنى، مستفيدة من تأويلات الفئات المدينة بوجودها لفرنسة، التي لا تزال مواظبة على النهج الذي تعيّن بإرادة السياسة الفرنسية وموافقة رجالها. وكان ظن الناس أنّ الحكومة الحاضرة التي لا يمكن إنكار فضل القوميين الاجتماعيين في إيجاد مجلسها المنبثقة عنه، لن تكون مطلقاً، مهما كانت في سياستها وسياسات أشخاصها، وسيلة تخدم الأغراض السياسية التي أعلنت الأمة أنها لا تريد بقاءها في البلاد وبرهنت، بما قام به القوميون الاجتماعيون في بشامون وعين عنوب وحشد صفوفهم في الشوير، على عزمها الأكيد على التحرر منها ومن ربقة الأجنبي الصادرة عنه وإقامة سيادتها هي في محل السيادة الأجنبية.

ومن أشد الأمور غرابة استمرار الحكومة في موقفها كل هذه المدة التي ظهر فيها مضادة ذاك الموقف لمبادئ الحرية القومية وقطعها بغتة المفاوضة التي كانت دائرة بين الحزب القومي الاجتماعي وبينها، لإصلاح الموقف وزيادتها الطين بلة بتحويل قضية “الاستيضاح” إلى القضاء بقصد ملاحقة الزعيم قضائيًّا.

وقد استنكر العقلاء وأهل النظر في الأمور العامة تلك الخطوة الجديدة، ووضح أن الاستغراب كان في محله، بدليل أنّ المستنطق الأول الذي أحيلت إليه القضية رفض اتخاذ أي تدبير أو توقيع أية مذكرة إجرائية لعدم اقتناعه بوجود دعوى صحيحة، فأحيلت القضية إلى المستنطق الثاني الذي رفض بدوره وأخذ التحقيق على مسؤوليته لإقتناعه بعدم صحة الدعوى وعدم وجود جرم فاستُدعي في الأخير مستنطق طرابلس الأستاذ بطرس نجيم ليوقّع مذكرة التوقيف في بيروت ويتولى التحقيق والملاحقة القضائية!!!

هذا ما بلغنا وتداولته الألسن في صدد التحقيق القضائي مع الزعيم في صدد خطابه الخالي من أي سبب موجب لهذه التدابير الجزائية التي تضعف الثقة بالقضاء ونزاهته وتجعل الناس في ريبة من مبادئ الحقوق الأساسية لأعضاء الدولة في عهد الاستقلال.

والآن يمكننا أن نسأل أية مصلحة يخدم موقف الحكومة من زعيم النهضة القومية الاجتماعية؟

قد تظن الحكومة أنّ المصلحة مصلحتها لأنها بملاحقة الزعيم قضائيًّا، تتمكن من إقصائه ولو بعض الإقصاء عن الحركة السياسية الواسعة بمناسبة اقتراب موعد الانتخابات التي تألفت تألفاً “ائتلافيًّا” للاشراف عليها وتوجيه دفّتها لمصلحتها، على ما يتحدث به الناس جهاراً في أنديتهم.

إن نتائج الانتخابات ستُرينا إلى أي حد كانت الحكومة مصيبة في خدمة مصلحة أفرادها من هذه الناحية. ولكن مما لا شك فيه أنّ قوة الحزب القومي الاجتماعي ومعنوياته زادت وارتفعت بعودته إلى النضال في سبيل عقيدته وقضيته المقدسة التي هي قضية حرية هذه الأمة وارتقاء حياتها وزيادة خيرها وتبوّئها مركز العز الذي تستحقه. والشعب الذي صار يزداد وعيه وإدراكه لأهداف الحزب القومي الاجتماعي، يزداد اليوم التفافاً حول الزعيم صاحب رسالته وقائد صفوفه. وقد خابت خيبة باهرة المحاولات التي استهدفت الإلقاء في روع الناس وبعض القوميين الاجتماعيين، وجود أو احتمال وجود انشقاق في صفوف الحزب. وها هو الحزب يرد التهجمات ويشق طريقه نحو غايته الأولى التي تحوّل سورية كلها من وطن أمم دينية متباغضة إلى وطن أمة اجتماعية موحدة في المثالية القومية الاجتماعية ومراميها المعبّرة عن مصلحة الأمة الحقيقية.

تبقى هنالك المصلحة الوحيدة التي خدمها موقف الحكومة خدمة صحيحة كادت تكون تامة لولا موقف الحزب القومي الاجتماعي الصريح الذي نبّه الشعب في لبنان والشام لمناورة حلفاء المصلحة الأجنبية في البلاد – هي المصلحة الأجنبية التي اختبرت الأمة شرّها مدة ربع قرن!

هي مصلحة السيادة الفرنسية وسياسة النفوذ الفرنسي الذي يحاول استرداد مركزه المفقود بتمكين حلفائه ووسائله السابقين المستمرين: “الفلانج” والعمال المشهور أمرهم.

قد لا تكون الحكومة على معرفة من حقيقة هذه الخدمة التي تؤديها لأعداء السيادة القومية المتآمرين في الخفاء على إرادة الشعب اللبناني وحريته.

قد لا تكون الحكومة تعرف أين النفع وأين الضرر من موقفها الذي شجّ البلاد من أدناها إلى أقصاها.

قد لا تكون الحكومة تعرف أو تهتم بمعرفة العواقب لحالة عدم الاستقرار والأضرار النفسية التي تهدد الشعب في سيادته وكرامته وحريته التي هي أساس استقلاله وتقدمه. فنحن نذكّر الحكومة بذلك ونرجو أن تُعيد الحكومة درس موقف لا مصلحة فيه إلا للأجنبي.

صدى النهضة، بيروت،
العدد 262، 20/4/1947

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى