مأدُبةُ باريس التّطبيعيّة
كتب الأمين وليد زيتوني:
أمّنت الحكومة اللّبنانيّة الغطاء اللّازم لدعوةِ السّفير اللّبنانيّ في باريس إلى ما أسماها لقاءً عائلياً للجالية على شرف “الإسرائيليّين” الّذين ما زالوا يحتفظون بالجنسيّة اللّبنانيّة. رغم أنّ هكذا دعوة لم تتم في أي سفارة لبنانيّة أخرى منذ سنوات الاستقلال. وبالتّالي إنّ هذه الدّعوة وبهذا التّوقيت بالذّات تضعنا في خانة الشكّ من الأهداف الّتي تسعى الدّولة إلى تحقيقها.
طبعاً، لن نتعرّض إلى ما يكفله الدّستور اللّبنانيّ والتّشريعات المواكبة من حقوق وواجبات للأفراد والجماعات والشرائح “المكوّنة” للمجتمع، وهل هذا ينطبق على الجالية المذكورة؟ وهل الدّستور هو مسألة حقوقيّة بحت بمعزلٍ عن التّاريخ والسّياسة والاجتماع، وخاصّة الحروب الّتي شنّها العدو للسّيطرة على أرضنا ونهب ثرواتنا المائيّة والبتروليّة؟
وطبعاً، لن نناقش المسألة انطلاقاً من الزّاوية الإيمانيّة والعقائديّة استناداً للتّوراة والتّلمود والزّبور وغيرها. وإن كان هناك من يقول، لأسباب اجتهاديّة دينيّة أخرى، أنّه يعترض على قيام الدّولة الزّائلة، علينا أن نؤكّد أن الأكثريّة اليهوديّة تؤمن بالصهيونية وتعتبر أنّ المشروع والحلم الساعية إلى تحقيقه على أرضنا هو من النهر الكبير إلى البحر الكبير.
وأيضاً لن نسعى إلى تبيان نظريّة “اللّاساميّة” الواهية التي حصّنها الغرب بقوانين مجحفة حتى على السّاميّة نفسها، واقتصر مفعولها على حماية اليهود فقط رغم شمول هذه النّظريّة “العرب” باعتبارهم ساميّين أيضاً.
لكنّ هذه الدّعوة وبتوقيتها جاءت بعد تشكيل حكومة “البنك الدّوليّ”. فهل هناك من ارتباط بين تسهيل قيام حكومة في الكيان اللّبنانيّ وبين هذه الدّعوة كشرطٍ أساس لاعتمادها كخطوةٍ أولى لوضع البلد على طريق التّطبيع؟
من حقّنا أيضاً أن نتساءل، هل هناك علاقة بينها وبين ما يُحكى بل ما يُعمل على استجرار الغاز من الكيان الزّائل تحت مسمّيات عربيّة متعدّدة وربطنا حياتيّاً واقتصاديّاً بمشروع “الشّرق الأوسط الكبير” الّذي طرحه شيمون بيريز وتبنّته الإدارات الأميركانيّة اللّاحقة؟
ومن حقّنا أن نتساءل إذا كانت هذه الدّعوة مترافقة ومواكبة لحركة بعض دول الخليج باتجاه التطبيع ومتماهية معها حرصاً على “وحدة الصفّ العربيّ” بعيداً عن مصالحنا وحاجاتنا وقناعاتنا؟
ومن حقّنا أن نتساءل ونسأل الحكومة العتيدة، هل اتّخذت قراراً بالدّخول إلى عصر “الاتّحاد الإبراهيمي” من دون نقاشٍ جدّيّ بين مكوّنات الشّعب في لبنان، ولو على المستوى الفكريّ لتبيان “حسنات” وسيّئات الانخراط فيه، وانعكاساته على مستقبلنا ومستقبل أجيالنا من بعدنا؟
ومن حقّنا أن نتساءل، هل الضّجّة بل الأزمة الّتي افتعلتها السّعوديّة، تعقيباً على تصريح سابق لوزير الإعلام، تقع في خانة التّغطية على هذه الدّعوة المريبة بالشّكل والمضمون؟ أم أنّها إمعانٌ في الضّغوط لقبولِ الأمر المفعول باتجاه التّطبيع؟
بالتّأكيد كانت الدّعوة مدروسة، مَهَّدَ لها السّفير عدوان بلقاءاتٍ عدّة، وتلاقت مع ترحيب من قوى داخليّة ضالعة في التّبعيّة ومعاديةٍ في جوهرها لكلّ ما هو سياديّ حقيقيّ وحرّ حقيقيّ ووطنيّ حقيقيّ.
الكلمة الّتي ألقاها سعادة السّفير بهذه المناسبة، شدّد فيها على الوحدة الوطنيّة وبأنّ لبنان بخطر وهو بحاجةٍ لكلّ أبنائه كي يعيدوا له الحياة والحرّيّة. نعم يا سعادة السّفير لبنان في خطرٍ فعليّ من “العدوّ الإسرائيليّ”.
إنّ دعوتك هذه، قشّة قسمت ظهر البعير في الوحدة الوطنيّة. إنّك ربحت بضعة أشخاص لديهم الجنسيّة “الإسرائيليّة” كما اللّبنانيّة وولائهم ليس للبنان، وخسرت ناسك وشعبك بأكثريّته، أبهذا تتحقّق وحدتك الوطنيّة؟
في الختام نطالب الحكومة والسّلطة في لبنان أن تعطيا أجوبةً شافيةً حول مسائل التّطبيع والتّوطين وأن توضحا ملابسات هذا الانزلاق الخطير.
“نحن أمّةٌ لا تقبل القبر مكاناً لها تحت الشمس”.